حول أساليب الانتاج قبل الرأسمالية - والحتمية التاريخية للأزمة العامة


خليل اندراوس
2018 / 9 / 1 - 11:15     



ملكية جماعية
علاقات الانتاج في المجتمع البدائي كانت تعينها حالة القوى المنتجة، وكانت الملكية المشتركة ‏‏(الجماعية) العائدة لكل مشاعة على ادوات العمل ووسائل الانتاج البدائية تؤلف اساس علاقات الانتاج ‏وكانت الملكية المشتركة (الجماعية) تطابق مستوى تطور القوى المنتجة في تلك المرحلة. فقد كانت ‏ادوات العمل في المجتمع البدائي على درجة من البدائية بحيث ان الناس البدائيين لم يكن في ‏مستطاعهم ان يدخلوا منفردين في صراع مع قوى الطبيعة والحيوانات البرية، ولهذا كان الناس ‏يعيشون جماعات‏


اشكال الاستعباد
مع ظهور العبودية التي بلغت في عصر الحضارة اعلى درجات تطورها، حدث اول انقسام كبير في ‏المجتمع الى طبقة مستثمِرة وطبقة مستثمَرة وقد دام هذا الانقسام خلال كل مرحلة الحضارة، ان ‏العبودية هي الشكل الاول للاستثمار، الشكل الملازم للعالم القديم واثرها جاءت: القنانة في القرون ‏الوسطى والعمل المأجور في الازمنة الحديثة، هذه هي اشكال الاستعباد الكبرى الثلاثة التي تتميز بها ‏عهود الحضارة الكبرى الثلاثة‏



يتجلى تزعزع وتعفن الاقتصاد للرأسمالية، بالدرجة الاولى في النقص المزمن لتشغيل القدرات الانتاجية وفي البطالة المزمنة وفي عسكرة الاقتصاد وفي الازمات الاقتصادية الدولية. تعرف الرأسمالية في اللغة الانجليزية بمصطلح Capitalism وهي النظام الاقتصادي السائد والمسيطر في عالمنا المعاصر. وهذا النظام يعتمد على فكرة الملكية الخاصة لكافة عناصر ووسائل الانتاج ومما يساهم في تحقيق الارباح المالية وتوزيعها على المالكين من الافراد والمؤسسات والدول وطبقة رأس المال العالمي.
بدأت الافكار الاولى للرأسمالية بالظهور في القرن السادس عشر للميلاد في المجتمعات الاوروبية وخلال الفترة الزمنية بين القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد مع ظهور علامات الثورة الصناعية في اوروبا. فأسلوب الانتاج الرأسمالي قد ولد في احشاء الاقطاعية، ولذلك ارى من الضروري وبايجاز استعراض انبثاق وتطور واسباب زوال اساليب الانتاج المشاعي البدائي والرقى والاقطاعي، وبعد ذلك التطرق الى تفاقم الازمة العامة للرأسمالية. فقد ظهرت الحياة على الارض منذ 900 مليون سنة تقريبا بينما ظهر الناس الاوائل منذ اقل من مليون سنة. ان العلم يفسر على النحو التالي ظهور الانسان على الارض، ففي مناطق مختلفة من اوروبا وآسيا وافريقيا كان مناخها دافئا، كان يعيش نوع عالي التطور من القرود وبنتيجة مرحلة طويلة جدا نشأ الانسان من هذه القرود بالذات، ولقد ظهر الفرق الجوهري بين الانسان والحيوان عندما اخذ الانسان يصنع ادوات العمل التي كانت في البدء بدائية جدا، فمن صنع ادوات العمل يبدأ عمل الانسان وبفضل العمل اخذ الطرفان الاماميان لدى القرد يتحولان تدريجيا الى يدي انسان وبقدر ما كانت اليدان تتحرران لاجل عمليات العمل، كان اجداد الانسان يمتلكون اكثر فأكثر المشية المستقيمة، ومع صنع ادوات العمل البسيطة ظهرت ضرورة المعاشرة بين الناس الاولين في العمل، في استخدام ادوات العمل وظهر الكلام المفهوم، النطق، ان العمل والنطق قد اثرا تأثيرا حاسما في تطور الدماغ، وينجم بالتالي ان العمل قد خلق الانسان نفسه وان المجتمع البشري نشأ وطفق يتطور بفضل العمل.
كان النظام المشاعي البدائي (او نظام المشاعية البدائية) الذي دام مئات الآلاف من السنين او تشكيلة اجتماعية ومنه يبدأ تطور المجتمع في البدء كان الناس في حالة نصف وحشية وكانوا عاجزين امام قوى الطبيعة، وكانوا يتغذون بصورة رئيسية من النباتات التي يجدونها في الطبيعة جاهزة من الجذور والثمار البرية والجوز والبندق الخ.. وكان الحجر والعصا اول ادوات الانسان وفيما بعد تعلم الانسان بتكديس التجربة ببالغ البطء، كيف يصنعون ادوات غاية في البساطة وصالحة للضرب والقطع والقلع وقد كان لاكتشاف النار اهمية كبرى في الصراع مع الطبيعة فان النار قد مكنت من تنويع مأكل الناس البدائيين، وسجل اختراع القوس والنشاب عهدا جديدا في تطور القوى المنتجة عند الناس البدائيين وبفضل ذلك شرع الناس ينصرفون اكثر من ذي قبل الى صيد الوحوش والى مواد الغذاء السابقة وشرعوا يضيفون اكثر فأكثر لحوم الحيوانات، وآل تطور الصيد البري الى نشوء تربية المواشي بشكلها البدائي، وبدأ الصيادون بتدجين المواشي وكانت الخطوة التالية في تطور القوى المنتجة نشوء الزراعة وقد ظلت الزراعة البدائية زمنا طويلا في مستوى منخفض جدا، وجاء استخدام الماشية قوة للجر فجعل العمل الزراعي اكثر انتاجية وحصلت الزراعة على اساس متين، وطفق الناس البدائيون ينطلقون الى نمط حياة الحضر.
ان علاقات الانتاج في المجتمع البدائي كانت تعينها حالة القوى المنتجة، وكانت الملكية المشتركة (الجماعية) العائدة لكل مشاعة على ادوات العمل ووسائل الانتاج البدائية تؤلف اساس علاقات الانتاج وكانت الملكية المشتركة (الجماعية) تطابق مستوى تطور القوى المنتجة في تلك المرحلة. فقد كانت ادوات العمل في المجتمع البدائي على درجة من البدائية بحيث ان الناس البدائيين لم يكن في مستطاعهم ان يدخلوا منفردين في صراع مع قوى الطبيعة والحيوانات البرية، ولهذا كان الناس يعيشون جماعات، مشاعيات ويديرون معا شؤونهم الاقتصادية (الصيد البري، صيد السمك اعداد الطعام) والى جانب الملكية المشاعية لوسائل الانتاج كانت تقوم كذلك الملكية الشخصية العائدة لأفراد المشاعية على بعض ادوات العمل التي كانت في الوقت نفسه ادوات للدفاع ضد الوحوش الكاسرة، وفي المجتمع البدائي كان العمل قليل الانتاجية ولم يكن ليخلق أي فائض عن الحد الادنى الضروري للحياة، وكان قوامه التعاون البسيط: عدد كبير من الافراد ينفذون مهمة واحدة وهنا لم يكن وجود لاستثمار الانسان للانسان. وكان توزيع الغذاء الهزيل بين اعضاء المشاعية توزيعا متساويا بينما كان الانسان ينفصل عن مملكة الحيوان، كان الناس يعيشون قطعانا وفيما بعد مع انبثاق الاقتصاد، تكون تدريجيا تنظيم المجتمع على اساس العشيرة (العشيرة، ترجمة لكلمة Gens اللاتينية وهي تدل على الجماعة التي تضم فقط اعضاء تربطهم روابط الدم)، أي انه اتحد من اجل العمل المشترك اولئك الذين تجمع بينهم روابط الدم فقط، في البدء كانت العشيرة تضم بضع عشرات من الافراد ثم تنامت الى عدة مئات ومع تطور ادوات العمل نشأ في داخل العشيرة التقسيم الطبيعي للعمل بين الرجال والنساء بين البالغين والاحداث والشيوخ، وقد افضى تخصص الرجال في الصيد البري وتخصص النساء في جني الاغذية النباتية الى بعض النمو في انتاجية العمل.
في الدرجة الاولى من النظام المشاعي كان الدور الاول الرئيسي يعود الى المرأة فقد كانت المرأة تجمع الغذاء النباتي وتشرف على الاقتصاد المنزلي، فكانت تلك عشيرة الام او العشيرة الامومية وفيما بعد حين اصبحت تربية الماشية والزراعة من شأن الرجال حلت العشيرة البطريركية (الابوية) محل العشيرة الامومية وانتقلت الهيمنة في العشيرة الى الرجال. كتب انجلز في كتابه اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ما يلي "ان اسقاط الحق الامي كان هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي، فقد اخذ الزوج دفة القيادة في البيت ايضا وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستذلت وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست اداة بسيطة لانتاج الاولاد، ان وضع المرأة المذل هذا الذي يظهر ببالغ السفور عند يونانيي العصر البطولي وبسفور اشد عند يونايي العصر الكلاسيكي قد طلي تدريجيا رياء ونفاقا بالمساحيق، واضيفت عليه احيانا اشكال اخف وارق، ولكن لم يقض عليه اطلاقا". ومع الانتقال الى تربية الماشية وزراعة الارض ظهر التقسيم الاجتماعي للعمل، أي ان قسما من المجتمع اخذ ينصرف بصورة اساسية الى زراعة الارض وقسما آخر الى تربية المواشي، وقد كان انفصال تربية المواشي عن زراعة الارض اول تقسيم اجتماعي كبير للعمل في التاريخ. وبفضل هذا التقسيم اصبح عمل الناس اوفر انتاجية وبرز في المشاعات فائض معين من بعض المنتجات وطلب على بعضها الآخر مما اسفر عن نشوء تربة ملائمة لتبادل المنتجات بين قبائل تربية الماشية والقبائل الزراعية، وفي مرحلة لاحقة عندما تعلم الناس صب الفلزات المعدنية، النحاس والقصدير (وقد تعلموا استخراج الحديد فيما بعد) وصنع الادوات والاسلحة والانية البرونزية وعندما سهل اختراع اداة الحياكة اليدوية كثيرا انتاج المنسوجات والالبسة، ادى هذا تدريجيا الى انفصال اناس في المشاعيات يمارسون حرفة والى طرح مصنوعاتهم اكثر فأكثر قيد التبادل.
وقد اسفر تطور القوى المنتنجة عن زيادة محسوسة في انتاجية عمل الانسان وفي سيطرة الانسان على الطبيعة، ووفر له المزيد من منتجات الاستهلاك ولكن هذه القوى المنتجة الجديدة في المجتمع لم يعد في وسعها ان تبقى في اطار علاقات الانتاج القائمة، فان اطار الملكية المشاعية الضيق وتوزيع منتجات العمل بالتساوي اخذا يعرقلان تطور القوى المنتجة ولم يبق أي مبرر لضرورة العمل المشترك وظهرت ضرورة العمل الفردي، واذا كان العمل المشترك قد تطلب الملكية الجماعية (المشتركة) لوسائل الانتاج فان العمل الفردي قد تطلب الملكية الخاصة (الفردية) وهكذا انبثقت الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ونشأ معها التفاوت في الثروة بين الناس سواء بين العشائر ام داخل العشيرة بالذات وظهر الاغنياء والفقراء، ومع نمو القوى المنتجة شرع الانسان ينتج من مقومات المعيشة اكثر مما ينبغي للقيام بالأود وفي هذه الحال اصبح من الممكن ان يستخدم فرد في استثماراته الخاصة شغيلة آخرين يعطي عملهم كذلك فائضا من المنتجات، واصبح من الممكن تكريس المنتج الفائض ومبادلته بسلع غير متوافرة في الاستثمار الخاص، وهؤلاء الشغيلة كانت تؤمنهم الحرب فأخذوا يحولون الاسرى الى أرقاء، في البدء ارتدى الرق طابعا بطريركيا (بيتيا) ثم غدا اساس وجود النظام الجديد، "ان ضم العبيد الى هذه العائلة والسلطة الابوية هما العلامتان الجوهريتان اللتان تميزان هذه العائلة، ولهذا كانت العائلة الرومانية النموذج النهائي الكامل لهذا الشكل من العائلة. ان كلمة Familia لا تعني في الاصل المثال الاعلى للبرجوازي الصغير التافه المعاصر الذي يجمع في ذاته بين العاطفية والمشاجرات البيتية، بل انها لا تعني بادئ ذي بدء عند الرومانيين الزوج والزوجة والاولاد، بل تعني العبيد فقط. ان كلمة Famulus تعني العبد البيتي وكلمة Familia تعني مجموعة من العبيد الذين يخضعون رجلا واحدا، وحتى زمن غايوس كانت Familia id est patrimonium (أي الميراث) تورث بالوصية وقد استنبط الرومانيون هذا التعبير لاجل تعريف الهيئة الاجتماعية الجديدة التي كان رئيسها سيدا على المرأة والاولاد وعدد معين من العبيد وكان يملك بحكم السلطة الابوية الرومانية حق الحياة والموت على جميع هؤلاء الاشخاص الخاضعين له". (انجلز – كتاب اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة – كتاب مختارات ماركس وانجلز مجلد 3 – صفحة 221).

\ظهور العائلة البطريركية وبدء التاريخ المكتوب ‏
يضيف ماركس حول هذا الموضوع قائلا "ان العائلة العصرية لا تنطوي على جنين العبودية وحسب بل ايضا على جنين القنانة لأنها مقرونة منذ بادئ بدء بفروض (خدمات) زراعية وهي تنطوي بشكل مصغر على جميع التناقضات التي تطورت فيما بعد على نطاق واسع في المجتمع وفي دولته". (ماركس. انجلز المجلد 9 – ص 31). وكتب انجلز يقول: "مع ظهور العائلة البطريركية ندخل في ميدان التاريخ المكتوب وندخل بالتالي في ميدان يستطيع فيه القانون المقارن ان يقدم لنا مساعدة كبيرة، وبالفعل ساعدنا هذا العلم على القيام هنا بخطوة كبيرة الى الامام، فنحن مدينون لمكسيم كوفاليفسكي "عرض موجز عن اصل وتطور العائلة والملكية" ستوكهولم عام 1890 ص 60 – 100) بالبرهان على ان المشاعة البيتية البطريركية التي نجدها الآن عند الصرب والبلغار باسم زادروغا (وتعني تقريبا رابطة – تعاونية) او براتستفو (اخوية) وفي شكل آخر عند الشعوب الشرقية قد شكلت الدرجة الانتقالية من العائلة التي انبثقت من الزواج الجماعي وقامت على الحق الامي الى العائلة الفردية في العالم الحالي، وهذا على ما يبدو ثابت فعلا على الاقل فيما يخص الشعوب المتمدنة في العالم القديم فيما يخص الآريين والساميين"، (انجلز – اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة – ماركس انجلز مختارات المجلد 3 – صفحة 222). وكتب انجلز يقول "ان شكل العائلة الجديد يظهر امامنا بكل صرامته عند الاغريق فان دور الالهات في الميثولوجيا كما لاحظ ماركس (راجعوا "ارشيف ماركس انجلز الطبعة الروسية المجلد 9 – ص 22) يصور لنا عهدا اسبق كانت فيه النساء يشغلن مركزا اوفر حرية وتقديرا واحتراما، اما في العهد البطولي فاننا نجد المرأة منحطة المقام من جراء سيادة الرجل ومزاحمة العبدات، حسبنا ان نقرأ في "الاوديسة" كيف يقاطع تيليماك أمه ويجبرها على السكوت.. (هوميروس "الاوديسة" الاغنية الاولى)، وفي مؤلفات هوميروس، تصبح النساء الشابات الاسيرات عرضة لأهواء المنتصرين الجنسية فان القادة العسكريين يختارون لانفسهم بالدور وتبعا لمراتبهم اجمل الاسيرات وجميع احداث "الالياذة" تدور، كما هو معروف، حول النزاع بين أخيل وأغممنون على احدى العبدات ومع كل بطل هوميري على جانب ما من الاهمية يرد اسم الفتاة الاسيرة التي يشاطرها خيمته وسريره، وهؤلاء الفتيات يأخذونهم ايضا الى الوطن والى البيت الزوجي كما فعل مثلا، عند اسخيلوس اغممنون مع كاسندرا (اسخيلوس "اوريستيه اغممنون) والاولاد الذين يولدون من هؤلاء العبدات ينالون نصيبا صغيرا من ارث الوالد ويعتبرون مواطنين احرارا"، ان ذروة ازدهار الطور الاعلى من البربرية تتكشف امامنا في قصائد هوميروس ولا سيما في "الالياذة"، الادوات الحديدية المتقنة ومنفاخ الحدادة والطاحونة اليدوية، ودولاب الفاخوري وصنع الزيت والنبيذ وشغل المعادن المتطور وبسبيل التحول الى حرفة فنية، العربة البضاعية والعربة القتالية وبناء السفن من الجذوع والالواح الخشبية وبداية المعمار بوصفه فنا والمدن المحاطة باسوار مسننة وابراج والملحمة الهوميرية والميثولوجيا كلها، ذلك هو التراث الرئيسي الذي نقله اليونانيون من البربرية الى الحضارة.
ويضيف انجلز ويقول "ان وجود العبودية الى جانب احادية الزواج ووجود العبدات الجميلات الفتيات الخاضعات لمطلق تصرف الرجل هو الذي اخفى على احادية الزواج منذ البدء طابعها الخاص اذ جعل منها احادية الزواج بالنسبة للمرأة فقط، لا بالنسبة للرجل وهذا الطابع لا تزال تحتفظ به في ايامنا" من هنا نرى بأنه في البدء ارتدى الرق طابعا بطريركيا (بيتيا) ثم غدا اساس وجود النظام الجديد، التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية الجديدة تشكيلة العبودية (الرق) ومع تفاقم التفاوت في الثروة، لم يعد الاغنياء يقتصرون على تحويل اسرى الحرب الى ارقاء بل اخذوا ايضا يفرضون الرق على الذين يصبحون فقراء ومدينين من اعضاء قبيلتهم نفسها وهكذا نشأ اول تقسيم طبقي للمجتمع، الى ارقاء (عبيد) ومالكي ارقاء. وظهر استثمار الانسان للانسان وابتداء من تلك المرحلة صار تاريخ البشرية تاريخ النضال بين الطبقات وبين المستثمَرين والمستثمِرين. وقد ادى اشتداد التفاوت بين الناس الى نشوء الدولة، بوصفها جهازا لاضطهاد طبقة المستثمَرين من جانب طبقة المستثمِرين، وهكذا نما الرق (العبودية) على انقاض اسلوب الانتاج المشاعي البدائي. العبودية هي اول اشكال الاستثمار في التاريخ واشدها سفورا وفظاظة وقد وجدت عند جميع الشعوب تقريبا، ففي مصر والهند والصين كان الرق موجودا في الالف الرابع والثالث والثاني قبل الميلاد، وفي اليونان بلغ الرق اوج ازدهاره في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد وفي روما بلغ اعلى درجات تطوره في المرحلة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد الى القرن الثاني بعد الميلاد.
ان انتقال المجتمع من المشاعية البدائية الى نظام الرق يعود الى استمرار نمو القوى المنتجة والى تطور التقسيم الاجتماعي للعمل وتطور التبادل، كانت القوى المنتجة في ذلك الزمان وخاصة الادوات المعدنية الى توسيع نطاق العمل البشري، وقد ادى ظهور وصنع الادوات المعدنية الى ظهور فئة خاصة من الناس هم الحرفيون الذين راح عملهم يرتدي اكثر فأكثر صفة مستقلة. وحدث ثاني تقسيم اجتماعي كبير للعمل هو انفصال الحرفة عن الزراعة، ومع انفصال الحرفة عن الزراعة تطور التبادل اكثر فأكثر وبقدر ما كان التبادل يتسع، كانت تظهر النقود وهي عبارة عن بضاعة عامة شاملة يمكن بواسطتها تقدير جميع البضائع الاخرى وتلعب دور الوسيط في المبادلات. وآل تعاظم تقسيم العمل ونمو التبادل الى ظهور اناس يحتكرون البضائع ويبيعونها وحدث ثالث تقسيم اجتماعي كبير للعمل أي نشوء التجار، فان التجار كانوا يستغلون انعزال صغار المنتجين عن السوق ويشترون منهم البضائع بأسعار منخفضة ويبيعونها في السوق بأسعار اعلى. وآل تطور الحرف والتبادل الى نشوء المدن، في البدء كانت المدينة قلما تختلف عن القرية ولكن الحرفة والتجارة تمركزتا في المدن شيئا فشيئا، وهكذا بدأ الانفصال بين المدينة والقرية. وادى تطور القوى المنتجة واستمرار التقسيم الاجتماعي للعمل ونمو المبادلات الى ازدياد التفاوت في الثروات ففي جهة ظهر الاغنياء الذي يحصرون في ايديهم ماشية العمل وأدوات الانتاج والنقود في الجهة الاخرى ظهر الفقراء الذين كان يحل بهم الخراب اكثر فأكثر ويضطرون الى طلب القروض من الاغنياء وهكذا ولد الربا وظهر الدائن والمدين. "... في العالم القديم، يحتدم النضال الطبقي بصورة رئيسية بشكل نضال بين المدينين والدائنين، وينتهي في روما باندحار المدين – العامي وتحوله الى رقيق" (كارل ماركس – رأس المال – المجلد الاول). وظهرت الاستثمارات الكبيرة القائمة على عمل العبيد الارقاء، وصار الاغنياء من السادة يملكون المئات والآلاف منهم واستولوا على مساحات شاسعة من الارض، وعلى هذا النحو تشكلت عند مالكي الارقاء املاك عقارية كبيرة، سُميت مثلا في روما القديمة باسم "اللاتيفونديا" (الاملاك الكبيرة) وكانت تشتغل فيها جحافل من العبيد.



جريمة العبودية، شكل من الاستثمار

وكانت علاقات الانتاج في مجتمع الرق في مجتمع مالكي العبيد، تقوم على ان وسائل الانتاج (الارض، ادوات العمل الخ...) وشغيلة الانتاج أي العبيد كانت ملك الاسياد مالكي الارقاء مالكي العبيد فقد كان العبد يعتبر شيئا من الاشياء وكانت لسيده سلطة مطلقة لا ينازع عليها منازع، وكانوا يسمون العبد اداة ناطقة وكان العبد في مجتمع الرق لا يمتاز عن الفأس او عن الثور الا بكونه يملك موهبة النطق، اما من حيث الجوانب الاخرى جميعها، فانه كان كذلك ملكا خاصا لسيده وكالماشية او البيت او الارض او اداة العمل. وقد ارتدى استثمار العبيد اشكالا في اقصى الضراوة والقساوة وكانت معاملة العبيد اسوأ من معاملة الماشية، كانوا يدفعونهم الى العمل بالضرب بالسياط، ويعاقبونهم بقسوة ووحشية لأقل هفوة بل كانوا يقتلونهم، وكان السيد لا يحاسب اذا قتل عبده كما كان السيد يستولي على كامل ثمرات عمل الرقيق ولا يعطيه الا قدرا زهيدا من مقومات العيش لكي لا يموت جوعا ولكي يتمكن من متابعة العمل لأجله. وكما جاء في كتاب انجلز، اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، "ومع ظهور العبودية التي بلغت في عصر الحضارة اعلى درجات تطورها، حدث اول انقسام كبير في المجتمع الى طبقة مستثمِرة وطبقة مستثمَرة وقد دام هذا الانقسام خلال كل مرحلة الحضارة، ان العبودية هي الشكل الاول للاستثمار، الشكل الملازم للعالم القديم واثرها جاءت: القنانة في القرون الوسطى والعمل المأجور في الازمنة الحديثة، هذه هي اشكال الاستعباد الكبرى الثلاثة التي تتميز بها عهود الحضارة الكبرى الثلاثة: ان العبودية السافرة في البدء والمموهة منذ امد قصير، ترافق دائما الحضارة". واستنادا الى عمل الارقاء في عهد العبودية حقق العالم القديم نهوضا اقتصاديا وثقافيا مرموقا وعلى عظام اجيال واجيال من الارقاء نمت الحضارة وتطورت كثرة من فروع المعرفة (الرياضيات، علم الفلك، الميكانيك، الهندسة المعمارية) تطورا حاسما ومحسوسا، ولكن اسلوب الانتاج القائم على الرق رغم جميع منجزاته بالقياس الى نظام المشاعية البدائية، كان عقبة في طريق تطور الانسانية اللاحق، ذلك ان اسلوب الانتاج القائم على الرق كان ينطوي على تناقضات عميقة مستعصية افضت به الى الهلاك، فان شكل الاستثمار المتمثل بالاسترقاق كان قبل كل شيء يدمر القوة المنتجة الرئيسية في المجتمع الا وهي العبيد الارقاء، فكان العبيد غالبا ما يشنون الانتفاضات ضد اشكال الاستثمار الوحشية ثم ان العبيد الذين كانوا اساس الاقتصاد في نظام الرق – العبودية انما كانت الدولة تحصل عليهم من الخارج عن طريق الحروب وكان الفلاحون والحرفيون القوة الرئيسية لخوض غمار الحروب. وكانوا يخدمون في القوات المسلحة ويحملون على اكتافهم كل عبء الضرائب التي تستلزمها الحروب وعلاوة على ذلك شمل الخراب استثمارات الفلاحين والحرفيين نتيجة لمزاحمة الانتاج الكبير المرتكز على عمل الارقاء الرخيص، وهذا ما قوض قدرة دول الرق اقتصاديا وسياسيا وحربيا، وبعد الانتصارات حلت الهزائم ونضب الينبوع الذي يقدم العبيد بلا انقطاع وبثمن رخيص ولهذا السبب بدأ تدهور الانتاج على نطاق عام.
"الاملاق العام وتدهور التجارة والحرف والفنون، انخفاض عدد السكان وانحطاط المدن وعودة الزراعة الى مستوى ادنى – تلك كانت النتيجة الاخيرة للسيادة الرومانية العالمية" (فريدريك، انجلز، اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. ماركس وانجلز – مختارات في اربعة اجزاء، الجزء الثالث ص 377 – الطبعة العربية موسكو 1970).
(يتبع)



المراجع:
ماركس وانجلز مختارات في 4 مجلدات. اسس الاقتصاد السياسي – نيكيتين