في رحيل سمير أمين، أبدا لم تفارقنا يارفيقنا!


جابر حسين
2018 / 8 / 20 - 00:25     

في رحيل سمير أمين، أبدا لم تفارقنا يارفيقنا!
------------------------------------------

نراك الآن يا رفيقنا
مثلما كنا نراك
نعيشها الحياة معك،
نعيشعها في رؤاك!



مساء الأحد الماضي 12/8/2018م في العاصمة الفرنسية باريس، رحل عن عالمنا المفكر الشيوعي المصري سمير أمين عن 87عاما. سمير كان قد ولد بالقاهرة في 3/9/1931م من أب مصري وأم فرنسية وكلاهما، الأب والأم طبيبان. عاش طفولته الهادئة في بورسعيد حتي نال شهادة الثانوية من مدرسة فرنسية فيها. العام 1947م غادر إلي باريس وإلتحق لفوره طالبا في جامعتها العريقة السوربون. في ذلك الوقت المبكر من حياته الفكرية وبدايات وعيه إنتسب عضوا نشطا في الحزب الشيوعي الفرنسي ومواصلا، في الآن نفسه، دراساته الأكاديمية في العلوم السياسية والأقتصاد حيث تجلت لديه بوضوح مظاهر الذكاء والعبقرية وملازمته الحميمة للفكر التقدمي اليساري. ظل طوال سني دراسته متفوقا، دارسا وباحثا ومنقبا في وجوه الماركسية جميعها، مقلبا مناهجها، متعمقا في قراءتها باحثا عن وجهاتها التي تتجدد عبر الزمن والواقع. العام 1952م حصل علي دبلوم في العلوم السياسية، ثم نال شهادة التخرج في الإحصاء 1956م والاقتصاد 1975م، ثم عاد إلي مصر يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من السوربون. لدي وصوله مصر إنتسب لتوه للحزب الشيوعي المصري. سمير عمل، خارج مصر، مستشارا اقتصاديا في مالي وجمهورية الكنغو وفي مدغشقر، ثم مديرا لمعهد الأمم المتحده للتخطيط الاقتصادي( IDEP ) بدكار لمدة عشر سنوات كاملة.
في بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما اهتز عرش الأيدلوجيا وتململ العالم نفسه، حدث ذلك أثر إنهيار ( التجربة ) السوفيتية وتبعتها دولا أخري في شرق أوربا. وقتذاك، والامبريالية العالمية في إعاليها مسورة بالضجيج وبالإدعاء وتعاني، في ذات الوقت، من مشكلات حادة أضعفتها وظلت تعيش أطوارها تحف بها الأزمات حتي تكاد تذهب بها قبل أوان زوالها! كانت، إذن، في أوج ضعفها، لكن، ظلت، عبر آلتها الإعلامية الضخمة، تروج وتذيع في الملأ أنها هي، وحدها، الباقية الخالدة في العالم. في ظل تلك التغيرات الكبيرة التي طالت الفكر والأنظمة علي نطاق واسع، نهض عديد المفكرين والكتاب من الأكادميين من ذوي الثقافة الإمبرالية نفسها يبشرون، عبر كتب وأبحاث طرحوها في الناس، وشرعت الآلة الإعلامية الضخمة تلك، بأذرعها القادرة، في تسويقها علي العالم كله ليل نهار. كانت تلك ( النظريات ) تقول بإنتهاء وسقوط الشيوعية كتجربة والماركسية كنهج في الحياة وأنظمة الحكم، وإنتهاء عصر الايدولوجيا إلي الأبد! بعضهم قال بطريق ثالث للتطور بدأ يشكلونه فيجعلونه في الجوهر من أطروحاتهم التي كانت، في جوهرها، توفيقا وتجميعا مبتسرا وهشا لبعضا من مقولات الماركسية والكثير من أساسيات الإمبريالية حامية رأس المال العالمي. كل تلك الأطروحات سرعان ما خفتت وماتت وهي بعد في عمر الزهور، فلم يعد، الآن، من يذكرها إلا من باب الإشارات للظواهر السياسية والإجتماعية والفكرية والإقتصادية التي تحدث في التاريخ خلال حقب وأزمان التغيرات .
وحده سمير أمين، في عالمنا العربي، الذي نهض، كل مسار حياته، من تصدي لهذه المهمة الكبيرة، في نزع التشوهات والإدعاءات التي يرمونها اعداء الاشتراكية في مسارها. أكثر من 30 مؤلفا ومئات الأبحاث والدراسات جعلها سمير علي طريق التقدم والحرية والسلام والعدالة. تراوحت محتوياتها في شتي مناحي الفكر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، في نقد روح العصر وعن مناخات العصر والحوار الضروري في نقد الخطاب العربي الراهن، وفي مواجهة أزمات عصرنا وقضايا المستقبل وما بعد الرأسمالية وأزمة المجتمع العربي، ونقده المبكر للتجربة السوفيتية إضافة إلي تقديمه لخطط موضوعية لنظرية الثقافة. وفي الماركسية كتب عن الماوية و( التحريفية ) وعن أزمات الإمبريالية بإعتبارها أزمات بنيوية في اساسياتها. وإستادا إلي تخصصه العميق في الاقتصاد كتب عن الاقتصاد العربي المعاصر، وعن المغرب العربي المعاصر، وعن قانون القيمة والمادية التاريخية، وعن مفهوم الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية. ثم تناول القومية وصراع الطبقات لدي الأمة العربية، والتبادل غير المتكافي وربطه بقانون القيمة نفسه، وعن التراكم الاقتصادي علي الصعيد العالمي، وكتب دراسات عديدة عن الأنظمة المالية والنقدية وتياراتها وإتجاهاتها في مصر وغيرها.
هكذا، علي هذا المسار، ظل سمير وفيا لمنهجه الماركسي في الدرس والبحث والكتابة. وفي تناوله الجرئ الواضح للواقع المزري للعالم العربي في ظل التقدم الهائل في المعارف وفي التقنية وفيما جاءت به العولمة و ( القضبية ) الواحدة بمظاهرها في السيطرة الإمبريالية بقيادة أمريكا التي لاتزال، حتي اليوم، تطرح
نفسها، وبمعية ودعم أتباعها بذات الصلف الإستعماري، قائدة ومسيطرة علي مقدرات وإمكانيات الدول والمجتمعات البشرية في عالمنا. والحال كذلك، من المؤكد أنه سيظل، لزمان طويل قادم، التراث الفكري الكبير للراحل سمير أمين ضوءا شديد التوهج، باقيا في وجودنا بسماته الهادية لمسار الشعوب وتطلعاتها صوب الغد الأجمل. تحية لروحه ولمساره، ولتراثه الفكري الضخم الذي تركه فينا، يصاحبنا في نضالنا، يلهمنا أيضا، ونراه، سمير أمين، معنا يؤازر تطلعاتنا وأحلامنا. تري، هل نقول وداعا أيها المنور العظيم وأنت في الخلود!