الصين وماركسية القرن 21 ومستقبل الاشتراكية


محمد فرج
2018 / 8 / 19 - 00:38     

في زيارتي الأخيرة للصين، بدعوة من قيادتها، حضرت مع 200 قائد ومفكر ومناضل يمثلون عدداً كبيراً من قادة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والتقدمية من أنحاء العالم، لحضور المؤتمر الكبير احتفالاً بمرور 200 عام على ميلاد كارل ماركس، مؤسس الاشتراكية العلمية، وكان الحزب الشيوعي الصيني قد اختار عنواناً لهذا المؤتمر هو: ماركسية القرن 21 ومستقبل الاشتراكية في العالم، وقدم قادة الأحزاب مساهمات هامة، سواء في الجلسات العامة أو الورش المتنوعة، التي تم تنظيمها بطريقة تسمح للقادة والباحثين بالمساهمة، والعنوان المختار من القيادة الصينية يدخل المفكرين وقادة الحزب الشيوعي الصيني ومسئولي الدولة المشاركين ويدخلك مباشرة للحديث في الماركسية، وبالفعل كانت الصين داخل المؤتمر وحوله تتحدث عن الماركسية، وعن الماركسية في الصين، وعن تصيين الماركسية، وكان العنوان يأخذك للحديث حول ماركسية القرن 21، وهو حديث لا يكتمل إلا بالحديث عن الماركسية في القرنين الماضيين، وقد ساهمت بورقة وكلمة تحدثت فيها حول كل من ماركسية القرن 21، وماركسية القرن العشرين، وماركسية القرن التاسع عشر، وقد انطوت كلمتي على الملاحظات العشر التالية:
1- ماركسية القرن الحادي والعشرين هي ماركسية عصر العولمة، عصر الثورات العلمية والتكنولوجية، ثورة تكنولوجيا الاتصالات، وثورة تكنولوجيا المواد، وثورة التكنولوجيا الحيوية، تلك الثورات التي غيرت - ومازالت تغير- في بنية المجتمعات الحديثة، وتغير في بنية الطبقات والفئات الاجتماعية وخاصة الطبقة العاملة، و حولت العالم إلى قرية صغيرة، وطورت الصناعة والزراعة وأساليب الإنتاج والبشر، وقدمت خبرات وأدوات جديدة لإنتاج الثروات ومراكمتها وانتقالها بين الأفراد والشركات والمؤسسات والدول.
2- وهي ماركسية ما بعد صعود وهبوط ماركسية القرن العشرين، و نشأة وتأسيس ماركسية ماركس في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنها النتاج المركب لتجربتين كبيرتين، بكل ما قدمته كل تجربة منهما - خاصة تجربة ماركسية القرن العشرين سوفيتية السمات - من انتصارات كبرى وإخفاقات مدوية - وما قدمته ماركسية القرن التاسع عشر من مبادئ وأسس منهجية.
3- كانت ماركسية ماركس هي التأسيس العلمي للاشتراكية العلمية، عبر تطوير أساسها الفلسفي والانتقال من الجدل المثالي إلى الجدل المادي، وتأسيس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، وتطوير كل من الاقتصاد السياسي و طوباويات الاشتراكية وتأسيس الاشتراكية العلمية.
4- وكانت ماركسية القرن العشرين هي ماركسية عصر الإمبريالية، وأول تجربة للبناء الاشتراكي، بكل ما للتجربة الأولى من حماس واندفاع ورغبة في الإنجاز السريع، وبكل ما تواجهه من صراع داخلي وخارجي، ونجاحات وإخفاقات،، وانتصارات وهزائم، وكانت اشتراكية القرن العشرين سوفيتية الطابع روسية السمات، نقلت روسيا والجمهوريات السوفيتية من مجتمعات شبه إقطاعية فقيرة إلى مجتمعات صناعية متقدمة، ونقلت مركز الحركة الاشتراكية العالمية من قلب أوروبا الغربية إلى روسيا وأوروبا الشرقية، ونقلت الماركسية من النظرية إلى التطبيق والممارسة والبناء الاشتراكي في نسخته الأولى، نسخة هيمن عليها الصراع بين نظامين، وقطبين ومعسكرين، هيمن عليها سباق التسلح، ومؤامرات الإمبريالية وغزواتها وحروبها الساخنة والباردة.
5- ومن المؤكد الآن - ومن المعلوم بالضرورة - أن اشتراكية القرن العشرين في نسختها سوفيتية الطابع روسية السمات قد أخفقت وانتهت بتفكك جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ومازالت تلك التجربة في صعودها ونجاحاتها وتراجعها وإخفاقاتها، تحتاج إلى العديد من الدراسات والأبحاث.
6- ما تبقى من ماركسية القرن التاسع عشر هو المنهج، وما تبقى من ماركسية القرن العشرين هو التجربة، وعشرات البحوث والإضافات الفكرية النظرية والعملية في الفكر السياسي والثقافي، في نظرية الثورة والدولة والصراع الطبقي وقوى وعلاقات الإنتاج وأنماط الإنتاج وغيرها من الإبداعات والإضافات العلمية، وكل ذلك يظل تراكماً معرفياً وتراكماً لخبرات نظرية وتطبيقية تمثل إضافات جبارة لماركسية القرن الواحد والعشرين، وبالتالي فإن ماركسية القرن الواحد والعشرين هي مركب جدلي للنظرية والتطبيق وتراكمات خبرات القرنين الماضيين.
7 - ماركسية القرن الحادي والعشرين تعبر عن الحركة الاشتراكية الجديدة في عصر العولمة، عصر الكوكبية التي نتجت عن تفاعلات الثورة العلمية والتكنولوجية في عدة مجالات، أهمها الاتصالات وتكنولوجيا المواد والتكنولوجيا الحيوية، وهي حركة جديدة تنتقل مركز قيادة الحركة فيها من أوروبا إلى آسيا، ومن روسيا إلى الصين، وهو انتقال للقيادة في ظل ظروف جديدة وتحديات جديدة، فهزيمة اشتراكية القرن العشرين - على الرغم من كونها خبرة - ظلت عنصراً سلبياً يقوم بتفاعلات السلبية في أوساط الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية وأحزاب وتنظيمات حركات التحرر الوطني، واستغلت الإمبريالية العالمية هذه الهزيمة وراحت تشن هجوماً كاسحاً على الدول الوطنية لتفكيكها وتغيير أنظمتها السياسية تحت غطاء من شعارات براقة حول نشر الديموقراطية ومواجهة الاستبداد في الدول المارقة، وعلى الوجه الآخر كانت القيادة الصينية تقدم تجربتها الجديدة لمواجهة تحديات الصمود بمقاومة مخططات الهجوم الإمبريالي لتفكيك الدول الوطنية ومواجهة تحديات الثورات العلمية والتكنولوجية في نفس الوقت، وقدمت القيادة الصينية مساهماتها في تطوير ماركسية القرن الحادي والعشرين، فلم تقاوم مخطط التفكك وتدمير دولتها الوطنية فقط؛ بل قدمت تجربتها الخاصة في التنمية المعتمدة على الذات وتجربتها في الإصلاح والانفتاح، فنقلت الصين نقلات اقتصادية جبارة، وحاربت الفقر وحاصرته بمعدلات غير مسبوقة، وحاربت الفساد وحاصرته، وقدمت تجربتها الخاصة في بناء الاشتراكية بسماتها الصينية، عبر تجربة جريئة وغير مسبوقة اعتماداً على الانطلاق من الواقع ومشاكله وقضاياه العملية الواقعية لتحقيق الأهداف المبتغاة للنظرية، من الواقع إلى الفكر، هذا تفكير جديد لعصر جديد.
8- الاشتراكية ذات السمات الصينية تسمية جديدة لتطبيقات مبتكرة خارج قفص النصوص والأقوال السياسية المحفوظة، وإعلان من القيادة الصينية أن التجربة الجديدة على الرغم من انفتاحها على كافة مكونات وفئات وطبقات المجتمع الصيني، وانفتاحها على تكنولوجيا وأسواق العالم، هي سير خاص وطريق صيني خاص نحو الاشتراكية.
9 - الاشتراكية ذات السمات الصينية هي الإضافة العملية، والابتكار العملي لأهم ما تبقى من ماركسية القرن التاسع عشر وهو المنهج وأسس الاشتراكية العلمية، ولأهم ما تبقى من ماركسية القرن العشرين وهي خبرة ما يمكن الحصول عليه من دروس معركة خاسرة، وأهم ما أنتجته تلك المعركة الطويلة من إضافات فكرية لعقول فذة مثل لينين وماو وجرامشي وبولانتزاس وألتوسير وغيرهم، مكونة عبر التراكم الكمي نقلة نوعية لماركسية عصر الثورات العلمية والتكنولوجية الكبرى هي ماركسية القرن الحادي والعشرين.
10- ولعل ماركسية القرن 21 في طريقها لأن تتحول في وضعها الراهن إلى حركة عالمية، وهي حركة ذات سمات جديدة، لعل مركز الثقل فيها قد انتقل من روسيا إلى الصين، الأمر الذي يترتب عليه ضرورة وعي مكونات الحركة الاشتراكية العالمية الجديدة والقوى المناهضة للإمبريالية وبقايا البؤر الاستعمارية، والقوى المناهضة للتوحش الرأسمالي المعولم، والقوى المناهضة لقوى التطرف والعنف والتكفير والتمييز والإرهاب الديني، وقوى الجنوب، بهذا الواقع الجديد وما يحتاجه من أطر جديدة للعمل المشترك، وبناء المصير المشترك.
محمد فرج
مايو 2018