المعجزة الصينية: بين الرسملة والاشتراكية ذات الخصائص الصينية


محمد فرج
2018 / 8 / 11 - 22:15     

تمر جمهورية الصين الشعبية بمرحلة جديدة من تجربتها في الإصلاح والانفتاح، وتثير المرحلة الجديدة من الإصلاح، كما كانت تثير المرحلة السابقة التي مر على تطبيقها 40 عاماً، العديد من الأسئلة ذات الطابع النظري والتطبيقي، أسئلة فكرية؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ومن المؤكد أن التجربة الصينية في الثورة كانت مختلفة منذ البداية، كثورة وطنية فلاحية ذات آفاق اجتماعية، ومن الطبيعي أن تكون تجربة البناء الاقتصادي والاجتماعي للنظام الاقتصادي والسياسي مختلفة أيضاً، ولذلك فالقول بالسمات الصينية الخاصة للتجربة الصينية لمرحلة الإصلاح والانفتاح في مرحلته الأولى وفي العصر الجديد هو قول صيني ينطبق على واقع الطريق الصيني في التقدم والتنمية.
والاشتراكيون في مصر والعالم العربي والعالم يتابعون هذه التجربة بجدية مرتبطة بقدر من الفخر وكثير من الدعم، حتى حين يختلفون في تقييمها.
وفي تقدري أن التجربة الصينية تحتاج منا أن نتأملها، وأن ندرسها ونتعلم منها، نتأمل ما تطرحه علينا هذه التجربة من أسئلة، وما تنتجه من مشاكل نظرية أو تطبيقية، ونتأمل ما تطرحه وما تبتكره القيادة الصينية من إجابات وتصورات وحلول لهذه الأسئلة وهذه المشاكل التطبيقية.
لقد تابعنا ما تطلبه النهج الصيني الجديد في الإصلاح والانفتاح من تفكير جديد ومن تعديلات دستورية تفتح الطريق أمام مشاركة القطاع الخاص ومشاركة رجال الأعمال في البناء الاشتراكي في الصين، وإدخال تعبيرات جديدة كالقطاع غير العام والسوق الاشتراكي وغيرها، وبينما ظهرت بعض الكتابات الفكرية والسياسية تتكلم عن تراجع القيادة الصينية عن طريق البناء الاشتراكي، وتخليها عن النهج الماركسي منذ قيادة الرفيق الراحل دنج شياو بنج؛ قدمت القيادة الصينية في الحزب وفي الدولة تسميتها المبتكرة لتجربة الإصلاح والانفتاح والسوق ومشاركة القطاع الخاص ورجال الأعمال في البناء الاشتراكي باعتبارها : بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وقد قدم الرفيق شي جين بنج أمين عام الحزب الشيوعي الصيني ورئيس جمهورية الصين إسهاماته الفكرية حول نهج الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد.

تناقضات نظرية:
ومن الناحية النظرية فإن التفكير الاشتراكي السائد قد توقف أمام نهج الإصلاح والانفتاح الصيني منذ إعلانه عام 1978 بقلق، فالاعتماد على القطاع الخاص الصيني ودخول رؤوس الأموال الأجنبية في الاستثمار يقوم بتدعيم نوازع البحث عن الربح كهدف رئيسي لأي مستثمر، فرداً كان أو شركة خاصة أو مؤسسة وطنية أو أجنبية، وبناء على هذا المنطق فإن نهج الإصلاح والانفتاح قد يقوم بتدعيم عملية نمو قطاعات رأسمالية وفئات وطبقات رأسمالية في المجتمع الصيني، ويعمق التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء وينتج علاقات اجتماعية قائمة على الاستغلال، الأمر الذي قد يترتب عليه تعميق التناقضات والصراعات الطبقية، بدلاً من حلها.
ولم يكن هذا التفكير وحده منبع القلق عند المتابعين من بعيد لتجربة الإصلاح والانفتاح في الصين التي بدأت منذ عام 1978 مع الرفيق بنج شياو بنج، فقد تولدت فكرة تقول بتراجع النهج الاشتراكي الصيني لصالح تقدم نهج الرسملة وبناء نمط رأسمالي جديد يقوم على قاعدة من قيادة رأسمالية الدولة، ومن الناحية النظرية فإن دعم القطاع الخاص الصغير والمتوسط ، ودعم رجال الأعمال وفتح الطريق أمام نمو استثماراتهم، ودعم هذا التوجه عبر التعديلات الدستورية، قد يولد داخل المجتمع وفئاته وطبقاته ميولاً للترقي الاجتماعي عبر تبني النهج الرأسمالي والتفكير الرأسمالي الفردي، على حساب التفكير الاشتراكي والترقي الاجتماعي الجماعي عبر تبني التفكير الاشتراكي، ومن الناحية الفكرية النظرية هذا التناقض يتولد في فكر وعقل الفئات والطبقات الفقيرة مع دعم الدولة أو النظام السائد للعمليات الرأسمالية والاستثمارية على طريق رسملة المجتمع.
فكيف واجهت القيادة الصينية احتمالات نمو مثل هذه التناقضات الاجتماعية؟ والميول الفكرية؟ والتصورات النظرية؟
على المستوى العملي سارت القيادة الصينية قدماً في تجربتها في الإصلاح والانفتاح مقدمة إنجازاتها وابتكاراتها العملية، وأصبح عمر هذه التجربة حتى الآن 40 سنة، وعلى المستوى الفكري والنظري قدمت القيادة الصينية إجابتها، وقدمت تصورها لنهجها الجديد، الذي أسمته بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ويستكملها الرئيس شي جين بينج الآن عبر نهج الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد.

تطوير الصين وتحديثها:
خلال السنوات الأربعين لنهج الإصلاح والانفتاح تطورت الصين من دولة نامية نصف سكانها تقريباً فقراء، إلى دولة تزداد ثراءً تدريجياً، إذ بلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي ثمانية آلاف وثمانمائة دولار أمريكي، والأهم أصبحت نسبة الفقراء فيها لا تزيد عن 3.1% فقط، وقد ظلت مهمة القضاء على الفقر وتحسين معيشة الشعب وتحقيق الرخاء المشترك بصورة تدريجية ولازالت مطلباً وهدفاً للقيادة الصينية في الماضي وفي المستقبل، وهو هدف أصلي للاشتراكية.
في السنوات الخمس الأخيرة وفي ظل تطبيق نهج الإصلاح والانفتاح قطعت القوة الاقتصادية الصينية شوطاً كبيراً، إذ ارتفع إجمالي الناتج المحلي من 54 تريليون يوان إلى 82.7 تريليون يوان بمعدل نمو سنوي قدره 7.1% ، (الدولار الأمريكي يساوي 6.3 يوانات) ، وازدادت نسبته في الاقتصاد العالمي من 11.4% إلى حوالي 15% ، وبلغت نسبة مساهمته في نمو الاقتصاد العالمي أكثر من 30%.
والمهم في ظل هذا النهج – نهج الإصلاح والانفتاح – وتنوع قطاعات الإنتاج تحت قيادة قطاع الدولة ودعم عمليات مساهمة القطاع غير العام ورجال الأعمال في الاستثمار، وتطور ونمو الناتج المحلي الإجمالي، استمر التحسن في معيشة الشعب، وتحقق تقدم حاسم في التغلب على المشكلات المستعصية للقضاء على الفقر، وتم تخليص 68 مليون نسمة من الفقر، ومساعدة 8.3 ملايين فقير من خلال إعادة توطينهم، وانخفضت نسبة الفقر من 10.2% إلى 3.1% ، وازداد دخل السكان بمعدل سنوي 7.4% ، وهو معدل أعلى من معدل النمو الاقتصادي، والسيطرة على معدلات البطالة وقيام الدولة بتوفير ومتابعة توفير فرص العمل الجديدة، خاصة فيما يتعلق بتوظيف الفلاحين المنتقلين إلى المدن، وأصبح في الصين أكبر فئة من الفئات متوسطة الدخل في العالم يبلغ عدد أفرادها 400 مليون نسمة.

التناقض الرئيسي الجديد:
ويرى الرفيق شي جين بينج أن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية قد دخلت عصراً جديداً. وقال أن التناقض الرئيسي الذي يواجه المجتمع الصيني قد صار التناقض بين التنمية غير المتوازنة وغير الكافية وحاجة الشعب المتزايدة إلى حياة أفضل، وبناء على هذا التوجه يرى الرفيق شي جين بينج ضرورة الانتقال من التنمية عالية السرعة إلى التنمية عالية الجودة، وهي مهمة جديدة لدفع التجربة الاشتراكية الصينية نحو التركيز على عمليات تعميق التنمية بإدخال أساليب جديدة من الإبداع والابتكار، والانتقال من التركيز على الكم إلى التركيز على الكيف والنوعية، إذ لا يكفي وجود معدلات نمو عالية فقط، بل لابد من وجود جودة عالية، في السلع الصناعية والزراعية، وجودة عالية في الخدمات، في التعليم والصحة والبحث العلمي، وجودة عالية في النقل والمواصلات، وجودة عالية في الأرض والبحر والجو، بما يتطلبه كل هذا من مواجهة مخاطر الفساد الاجتماعي والأيكولوجي، وبما يتطلبه ذلك من توفير مساحات واسعة باستمرار للتنمية الخضراء، وللتكنولوجيا عالية التقنية، تكنولوجيا المواصلات والاتصالات، وتكنولوجيا المواد وابتكار المعادن الجديدة والخيوط الجديدة والابتكارات الجديدة والصناعات الجديدة.
لكن الأهم في كل ذلك، أن عملية الانتقال من عمليات التطور والتنمية عالية السرعة، إلى التنمية عالية الجودة، ترتبط فيما طرحه الرئيس شي جين بينج بهدف انتقال الشعب الصيني إلى مستوى جديد من المعيشة عالية الجودة، بما تطلبه من تطوير عالي المستوى في نوعية الحياة للشعب الصيني، يسميه بالانتقال إلى الحياة الرغدة.
ولا تقف أفكار الرفيق شي جين بينج عند الداخل الصيني وحده، بل تنطلق إلى الخارج لتطرح شعاره في العيش المشترك، وبناء رابطة المصير المشترك للبشرية، وتنطلق من احترام التنوع الداخلي واستثماره لتطوير الصين وتنمية حياة الشعب الصيني ومواجهة مشكلات الفقر والبطالة والعمل من أجل تطوير الريف ومحاربة الفقر والفساد والتلوث البيئي وتطوير وتحديث أجهزة ومؤسسات الدولة، إلى احترام التنوع في النظم على مستوى العالم، ومع بناء تحالفات الجنوب جنوب والمساهمة الفعالة في مجموعة بريكس، يطرح مبدأ العيش المشترك، وضرورة الحلول السياسية للصراعات الدولية، ورفض التدخل الخارجي لتغيير نظم الحكم.
وتطرح هذه التوجهات الجديدة التي يطرحها الرئيس شي جين بينج علينا نحن ممثلي الأحزاب والقوى الاشتراكية في مصر والعالم العربي والعالم، مستويين من التأمل والتفكير، مستوى فكري نظري، ومستوى عملي، أما المستوى الفكري النظري فيتطلب ضرورة الدخول في محاولة جادة لدراسة أثر هذه الأفكار الجديدة على الفكر الاشتراكي في ظل الأوضاع العالمية الجديدة، وبصفة خاصة الإجابة على سؤال: كيف يمكن لدولة واحدة - حتى ولو كانت بحجم الصين - بناء تجربة اشتراكية في عالم تهيمن عليه النظم الرأسمالية؟ وسؤال: كيف لدولة كبيرة كانت أو صغيرة أن تسير قدماً في بناء تجربة اشتراكية جديدة بعد انهيار تجارب بناء الاشتراكية في القرن العشرين، وبصفة خاصة بعد انهيار تجربة الاشتراكية السوفيتية،
أما المستوى العملي فيتطلب متابعة جادة صديقة للتجربة الصينية، للمساهمة في مواجهة المخاطر والمشكلات العملية التي يمكن أن تتولد في التطبيق، ومتابعة قدرة القيادة الصينية على مواجهة مشكلات ومعضلات التطبيق.

خلاصة :
إن التجربة الصينية، بما فيها من عناصر رأسمالية، وعناصر وتوجهات اشتراكية، والتي اختار قادتها تسميتها بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية، نموذج جديد للفكر الاشتراكي العلمي، وتجربة جديدة غنية للبناء الاشتراكي المنطلق من قاعدة التعامل مع الواقع كما هو، وإضافة شديدة الثراء للفكر الاشتراكي القائم على الانطلاق من الواقع الفعلي ومشكلاته ومعضلاته الفعلية، والانطلاق من النظرية الماركسية باعتبارها منهجاً للتفكير العلمي ومرشداً لتحليل الواقع ودراسته والانطلاق منه، وهي تجربة جديدة للتعامل مع الماركسية ونظريات البناء الاشتراكي، كنظرية قابلة للتطوير والإضافة مع كل تطور علمي جديد، ومع كل تجربة واقعية جديدة، ورفض التعامل معها كوصفة جاهزة كاملة الأركان، ورفض التعامل معها كعقيدة دينية مكتملة ونهائية وصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
محمد فرج