مقدمة إلى: فريدريك إنجلز.. المُنظِّر والمناضل

مركز الدراسات الاشتراكية
2018 / 8 / 5 - 10:10     

الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية

أحيانًا ما يُنظَر إلى فريدريك إنجلز (1820-1895) باعتباره تابعًا لكارل ماركس، لكنه كان مناضلًا ومُفكِّرًا اشتراكيًا عظيمًا في حدِّ ذاته.

يبرز فريدريك إنجلز كمفكِّرٍ ومناضلٍ عظيم من أجل حقوق الطبقة العاملة، لكن إسهاماته في الاشتراكية غالبًا ما تُشَوَّه أو تُضلَّل أو يُنتَقَص من قيمتها.

وُلِدَ إنجلز في العام 1820 لعائلةٍ ألمانيةٍ ثرية، وترعرع في وقتٍ يموج بالاضطرابات. انجذب في شبابه لأفكار الفلسفة الألمانية، خصوصًا لتلك التي بلورها جورج هيجل، الذي رأى الكون كعمليةٍ من التطوير والتغيير المتواصل.

كان التقدُّم آنذاك يتطلَّب نضالًا ضد المؤسسات القائمة. في مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، كان إنجلز يكتب للصحافة حول الأدب والقضايا السياسية، ليكتشف براعته في اللغات المختلفة (1) وخوض السجالات. في الوقت نفسه، كان إنجلز الشاب يتبنَّى الأفكار الشيوعية.

تشكَّلَت أفكار إنجلز أيضًا عن طريق اتصاله بالعمال المُنظَّمين، إذ قد عمل في مدينة مانشستر الإنجليزية في العام 1842 في شركة “إيرمن وإنجلز” المملوكة لعائلته. شهد إنجلز ثورية الطبقة العاملة وصار على اتصالٍ بمنظمتها الرئيسية، ألا وهي الحركة التشارتية آنذاك (2).

وصل إلى إنجلترا بعد أسابيع فقط من الإضراب العام الذي نظَّمَته الحركة التشارتية في العام 1842، والذي رغم ما آل إليه من فشلٍ فقد أظهَرَ القوة الهائلة المُحتَمَلة لدى العمال. كان مركز الإضراب في مانشستر نفسها، كما في المناطق المحيطة بها، حيث لانكشاير وتشيشاير -المناطق الرئيسية لصناعة النسيج.

فُزِعَ إنجلز من الفقر والبؤس اللذين رآهما في مانشستر. تمركزت المدينة حول صناعة القطن، فيما تشكَّلَت من كتلةٍ من الأحياء العشوائية مُدقِعة الفقر. كان الاكتظاظ الرهيب، والمُعدَّل المتزايد في وفيات الأطفال، وانتشار أوبئة الكوليرا والتيفوس من أساسيات الحياة اليومية في المدينة.

دفعته بربرية النظام الرأسمالي الناشئ لتأليف أول كتابٍ له بعنوان “حال الطبقة العاملة في إنجلترا”، حيث كَتَبَ بانتقادٍ عنيف عن الطبقة الحاكمة التي “لا تعرف نعيمًا إلا الكسب السريع، ولا ألمًا غير خسران الذهب”. يوثِّق إنجلز في هذا الكتاب ليس فقط حال عيش الناس، بل يوضح أيضًا كيف يمكن -وينبغي- تغيير هذا الحال.

كانت المرة الأولى التي التقى فيها إنجلز بماركس في العام 1844، وامتدت علاقتهما وصداقتهما السياسية مذاك الوقت حتى وفاة ماركس بعد ذلك بأربعين عامًا. كان إنجلز طيلة تلك الفترة ملتزمًا تجاه ماركس وعائلته، ماديًا وفكريًا على السواء.

إنجلز الثوري
شارَكَ إنجلز مع ماركس كتابة العديد من الكتب والمقالات، بما في ذلك “العائلة المُقدَّسة”، و”الأيديولوجيا الألمانية”، علاوة على كتابة المسودة الأولى للبيان الشيوعي، الذي وضع لها عنوان “مبادئ الشيوعية”. طوَّر كلاهما سويًا النظرية الأكثر شمولًا للاشتراكية، وفي القلب منها فلسفة المادية التاريخية التي طوَّراها في أربعينيات القرن التاسع عشر.

بالنسبة لإنجلز، يرتبط الوعي البشري بالظروف الاقتصادية التي ينشأ منها، ويتشكَّل بواسطتها. لقد رأى ضرورةً للفعل البشري باعتباره مفتاحًا لتغيير العالم، لكنه حدَّده ضمن إطار العلاقات الاقتصادية السائدة. غير أنه رأى العالم أيضًا في حالةٍ من التغيير المتواصل، مدفوعًا للأمام بفعلِ التناقضات الكامنة في الحياة اليومية -وهذه التناقضات في المجتمع الرأسمالي تعني في المقام الأول الصراع بين العمال وأصحاب العمل.

كان إنجلز مناضلًا ومُنظِّمًا مهيبًا. في العام 1848، كَتَبَ إلى ماركس: “في ألمانيا تسير الأمور على ما يُرام بالطبع؛ فالاحتجاجات في كلِّ مكان”. اندلعت الثورة عبر أوروبا، ورمى إنجلز نفسه في الحركة الثورية في ألمانيا. في العام التالي، قاتَلَ إنجلز في حربٍ ثورية ضد جيش بروسي. وبعد هزيمة الثوار، أُجبِرَ على الرحيل إلى المنفى، إذ وزَّعَت السلطات مُلصقًا يحمل اسمه ويطلب تسليمه لاعتقاله. اضطر للعيش في إنجلترا لما تبقى من حياته.

الكثيرون مِمَّن يدَّعون أنهم ماركسيون يأخذون في انتقادِ أفكار إنجلز، الذي رغم معاونته اللصيقة لماركس، كثيرًا ما يُتَّهم بتشويه الروح الحقيقية للماركسية. لكن مركزية الفعل الذاتي للطبقة العاملة يبرز في كافة كتابات إنجلز، ولهذا السبب هو ثوري -على مستوى الأفكار والممارسة معًا.

تُستَدعى في هذه الانتقادات حجةٌ مفادها أن إنجلز في سنواته الأخيرة صدَّقَ على الأمارات الأولى للإصلاحية، أي الاعتقاد بأن الاشتراكية يمكن تحقيقها عن طريق نوابٍ مُنتَخَبين في البرلمان وليس عبر الثورة، في الفترة التي ظهرت فيها هذه الفكرة في خضم الحركة الأممية للعمال. من الصحيح هنا أن إنجلز كان مُصرًّا على أهمية “العمل الدعائي البطيء والنشاط البرلماني”، لكن بالنسبة له كمنت المشكلة في كيفية تحقيق تقدُّمٍ للأفكار الاشتراكية بواسطة كتلةٍ يسارية صغيرة مُؤلَّفة من حفنةٍ من العمال والمُثقَّفين الملتزمين.

وضع إنجلز آماله في الحركة الاشتراكية في ألمانيا، حيث نجح الماركسيون في التعبير عن أوجاع شرائح عريضة من العمال، ومن خلال ذلك جنوا مقاعد في البرلمان وكان لهم أثرٌ على السياسات المُتَّبعة. لكن هذا لا يعني أن إنجلز قد تخلَّى وقتذاك عن إيمانه بضرورة الثورة.

كان إنجلز شديد الانتقاد لمُحرِّري الصحيفة الاشتراكية الألمانية “Vorwärts – إلى الأمام”، الذين استأصلوا اللغة الثورية من مقدمته لكتيب ماركس “الصراع الطبقي في فرنسا”، بغية تفادي الملاحقة الأمنية. كَتَبَ إنجلز في خطابٍ احتجاجي لاذع يقول: “أندهش إذ أرى اليوم في الصحيفة مُقتَطَفًا من مقدمتي، طُبِعَت على غير درايتي وقد تقلَّصَت بصورةٍ تجعلني أبدو مُحبًّا للسلام مُتعبِّدًا للقانون بأيِّ ثمن”.

معرفةٌ واسعة
تُظهِر كتابات إنجلز في طيفٍ واسعٍ من الموضوعات معرفته الهائلة، وكذلك اهتمامه بالعلوم وبالتاريخ والجيوش. توضِّح كتابات إنجلز التاريخية فهمًا عميقًا للموضوعات التي تناولها.

في العام 1877، كَتَبَ كتاب “ضد دوهرينج”، واستقى منه الخطوط الرئيسية لكتابه “الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية”، وهو واحدٌ من أبرز المُقدِّمات إلى الأفكار الماركسية.

شَرَحَ بإيجازٍ الأزمات الاقتصادية مُتكرِّرة الحدوث المُلازِمة للرأسمالية منذ نشأتها الأولى: “في كلِّ أزمة، يختنق المجتمع تحت وطأة قواه الإنتاجية ومنتجاته التي لا يمكنه استخدامها، ويقف مكتوف الأيدي في وجهِ التناقض السخيف بأن ما مِن شيءٍ يستهلكه المنتجون أنفسهم، لأ المُستهلِكون دائمو الطلب”.

أدرك إنجلز وجادَلَ بأن ما يفرق بين الإنسان والحيوان هو قدرتنا الواعية على التكيُّف مع العالم وتشكيله وقف احتياجاتنا، والعمل الجماعي يقع في القلب من ذلك. أما العنف والمنافسة فليسوا سماتٍ طبيعية تنتقل بالتوارث بين البشر، إذ تتشكَّل “الطبيعة البشرية” بواسطة المجتمع الطبقي والدولة.

العلوم وتطوُّر الرأسمالية
وفي العام 1884، نَشَرَ إنجلز واحدًا من أفضل وأشهر كتبه، “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، الذي استحضَرَ فيه كتاباتٍ أنثروبولوجية لتعقُّب أصول اضطهاد المرأة عبر المجتمع الطبقي. رَبَطَ هذا الكتاب المُلهِم تطوُّر أشكال العائلة وهياكلها بنشوء الملكية الخاصة تحت سيطرةِ طبقةٍ بعينها في المجتمع. كان إنجلز طوال حياته يرى اضطهاد المرأة كنتاجٍ غير طبيعي للعلاقات الملكية، وباعتبار أن هناك إمكانيةً لأن يتلاشى هذا الاضطهاد مع تحطيم هذه العلاقات.

وبذلك قد طوَّر إنجلز رؤيةً تفوَّق بها على المُفكِّرين الليبراليين في إنجلترا الفيكتورية، الذين كانوا ينظرون إلى المرأة على أنها كائنٌ ضعيف بحاجةٍ إلى الحماية، وليست متساويةً مع الرجل. ورغم أن بعض البحث الأنثروبولوجي الوارد في الكتاب المذكور لم ينج من اختبارات الزمن، يظل التحليل بمثابة إسهامٍ كبير في معركة تحرُّر المرأة.

قدَّم إنجلز كذلك إسهامًا بالغ الأهمية في فهم العلوم في كتابه “ديالكتيك الطبيعة”، الذي غالبًا ما يتعرَّض للنقد والتشويه. وتُعَد الفكرة الرئيسية في هذا الكتاب، التي تربط تطوُّر العلوم بتطوُّر قوى الإنتاج، مركزيةً في النظرة المادية للتاريخ. رأى إنجلز العالم كعمليةٍ من التغيير والتطوُّر المتواصل، والتقدُّم العلمي مركزيٌّ في التغييرات الحاصلة في العالم.

امتد نشاط إنجلز على مدار فترة طويلة من الزمن -من الحركة التشارتية إلى ميلاد النقابات العمالية الحديثة. لقد عاش في خضم بعضٍ من أكبر التغييرات التي طرأت على تطوُّرِ الرأسمالية. وفي عامه السبعين، في العام 1890، كان لا يزال نشطًا، يتحدَّث إلى مئات الآلاف من العمال الذين شاركوا في مظاهرة يوم العمال في هايد بارك بلندن.

تَرَكَ إنجلز بصمةً على الحركة الاشتراكية عبر العالم. كان رجلًا ذا قدراتٍ هائلة لا تزال حياته وأفكاره تبعث إلهامها حتى اليوم.

هوامش:
(1) كان فريدريك إنجلز يقرأ 29 لغة – المترجم.
(2) أول حركة للطبقة العاملة في إنجلترا، وأول حركة عمالية في العالم تطالب بالاقتراع العام. استمرت بين عاميّ 1838 و1850، وأصدرت صحيفة “Northern Star – النجم الشمالي” في أول ظهورٍ لما يُعرَف بالجريدة العمالية – المترجم.

* هذا الموضوع مترجم عن صحيفة “العامل الاشتراكي” البريطانية.