من القرابة إلى الجيوسياسة: حوار مع موريس غودلييه


هشام صالح
2018 / 8 / 3 - 09:31     

ترجمة: هشام عقيل صالح
[نُشر هذا الحوار، الذي أجراه نيك أولمي، لأول مرة في صحيفة لو تيمب [Le Temps] السويسرية (3 فبراير 2017). ترجمه ديفيد برودير إلى الانكليزية، ونشره في موقع دار(فيرسو) اليسارية (10 فبراير 2017)[1]. وفقاً لنيك أوملي، استذكر غودلييه أيامه مع قبيلة البارويا [Baruya] في بابوا غينيا الجديدة، في مشاركته لمؤتمر نظمته جامعة جنيف ومؤسسة لاتسيس، قائلاً: (كانوا يسمونني “موريس الأحمر”؛ ليس لأسباب سياسية، بل بسبب سفعة الشمس التي أصابتني.)]

أنت حددت نزعتين متضادتين في “جيوسياسية القرن الحادي والعشرين“…
العولمة هي حركة مزدوجة. من جانب،هي حركة خضوع كل الاقتصادات لمنطق السوق، ومن جانب آخر، هي حركة تتجه نحو رفض الغرب وهيمنته. في المستوى الثقافي، هذا الإنفصال عن السيطرة الغربية يوحي بالإقرار بالهويات القديمة، والعودة إلى التقاليد المنسية غالباً، لكن تلك التي يتم إعادة إنتاجها في ذات الوقت؛ نحن نصنع المستقبل عبر الماضي.
– هذا يعني أنك تلاحظ أن هناك تقوية للإختلافات، فضلاً عما يتم وصفه غالباً بالتجانس الثقافي…
جميعنا يرتدي الجينز، وجميعنا، ليحمي نفسه من البرد، يرتدي ملابس محشوة – التي هي في الحقيقة اختراع صيني. لكن هذا ليس العمق الحقيقي للهويات. يمكننا أن نلاحظ في الصين عودة لكونفوشيوسية جديدة. يبني الصينيون مدارس كونفوشيوسية ويرفضون النمط الغربي للتدريس، قائلين إن هذا النمط يفرض الكثير من الرياضيات لكن القليل من الحكمة، أيّ التفكر حول كيف يمكن للمرء أن يقود حياته.
إذا أردنا أن نفهم عالمنا المعاصر، علينا أن نحاول معرفة عناصر تاريخ الشعوب التي لا تزال فاعلة. وأن نعيد كتابة الكتب المدرسية، ونعيد مركزتها على تاريخ عالمي. حيث هذا هو العالم الذي سيعيش فيه شبابنا؛ فهم لن يفهموا شيئاً إذا قرؤوا الكتب المدرسية الفرنسية وحسب، التي تتحدث كثيراً عن فرنسا وقليلاً عن الدول المجاورة.
–أنك تقول إن تأسيس أي مجتمع هو تأسيس سياسي–ديني.
تخلت قبيلة البارويا، التي عشت معها، عن الأدوات الحجرية وبدأت بإستعمال الخناجر المعدنية عشر سنوات قبل وصولي. قدمت إليهم من باريس مع معرفتي الأكاديمية، وأعتقدت أنني في إحدى المجتمعات البدائية النموذجية التي تكون فيها القرابة -العشيرة- أساس كل شيء. بعدما أمضيت بضعة سنوات في الميدان، سُمح لي أن أشهد بضعة طقوس التأهيل. قاموا بإصطفاف كل الغلمان من نفس العمر في وقت واحد، لتثقب خشومهم كي يتم تأهيلهم جميعاً؛ بصرف النظر عن إنتماءهم النسبي أو القروي.
بذلك، تم محو الفروقات ما بين العشائر أو المناطق؛ كانوا هنا يصنعون جيلاً من المحاربين والشامان الذين سيخدمون المجتمع بأكمله. هذا لا يعني تجاهل العلاقات القرابية، بل تم تجاوزها بفضل هذه التأهيلات التي انخرطت فيها قبيلة بأكملها – مكونة من ألفي شخص. اتسعت ملاحظاتي، ورأيت أن هذه الحالة موجودة في كل مكان: عندنا، كما هي عند من يتم تسميتهم بالبدائيين، هناك مؤسسات تخضع القرابة إلى نسق سياسي- ديني كوني، الذي عبره يمكن للمجتمع أن يعمل على نفسه ويمثل نفسه ككل.


كيف جرى عملك الميداني عملياً؟
أولاً، أمضيت مدة شهر كامل، وحيداً في كوخ على طريق جبلي واقع ما بين قريتين. أكلت ما استطعت الحصول عليه، ولم يكن معي سوى مصباح زيتي. أتى الصغار من القرى ليروا هذا الرجل الأبيض الوحيد. بعد فترة قليلة، قلت لهم: أيمكنكم أن تسألوا آبائكم عما إذا كانوا لا يمانعون بقائي معهم؟ بعد شهر واحد، أتى ثلاث رجال ليأخذونني. بنيت لنفسي بيتاً، بمساعدة القبيلة، كي تأتي زوجتي مع أطفالي كذلك. حين سألني الباروياويون عن سبب مجيئي، أريتهم الكتب التي كانت بحوزتي وقلت لهم: جزء من مقدرة الرجل الأبيض موجود في الكتب؛ أنا أريد أن أكتب كتاباً معكم، كتاباً يحكي قصتكم.


أنت تشدد على الحاجة في الإنتقال والسفر من أجل فهم الآخر، وبذلك تقف في وجه الفكرة – الشائعة عند هؤلاء الذين يتبنون التفكيك بتطرف – القائلة بإنه من المستحيل فهم أي شيء عن مجتمعات الشعوب الأخرى.
أمضيت سبع سنوات مع البارويا؛ كنت في الحقول مع العوائل كل يوم. قمت بمسح لديموغرافية كل قرية، مموضعاً من يسكن قرب من. ودرست الروابط الأسرية؛ من متزوج ممن، ومن هم أطفالهم. تمَّ تأهيلي: لم أفهم كل شيء، لأنهم لم يخبروني عن كل شيء، لكنهم في ذات الوقت حكوا لي الكثير عن أساطيرهم الشهيرة. سمحوا لي، كحالة إستثنائية، أن أحضر طقوس تأهيل النساء الممنوعة من أن يحضرها الرجال. إذا جمعنا كل هذه المعلومات، وفهمنا اللغة وتمكنا من التعاطف مع الناس، سنتمكن بعدئذ أن نفهم شيئاً من مجتمعاتهم، وبذلك نظهرها على حقيقتها.
قلت إن العمل الميداني هو أيضاً عمل المرء على شخصه.
أنت مجبر على التخلي عن أحكامك المسبقة. كان كبار سن البارويا من أكلة لحوم البشر. في البداية، لم يرد أن يخبرني أحدهم عن هذا الأمر، لأنهم – كما يمكننا أن نتخيل – كانوا يعلمون أن هذه الأمور ليست مألوفة للإنسان الأبيض. لكنه أمر لا بد من التحدث عنه، لأن المئات من المجتمعات جربت أكل لحوم البشر، كما أن الأضحية البشرية موجودة في الأديان العظمى. سأخبرك بشيء لا يعلم عنه الكثيرون؛ حين احتل الناس سجن الباستيل في 1789 قتلوا كل الضباط، وقاموا بتقطيعهم إلى قطع صغيرة. بعد ذلك، التهمت النساء اللاتي شاركن في الثورة تلك القطع من لحم الضباط.
ما هي فائدة الأنثروبولجي اليوم؟
لا يهمني كثيراً الإنغمار في العالم الأكاديمي؛ على عملي أن يخدم المجتمع – وبالفعل أنه المجتمع الذي تحمّل نفقات سفري. توجهت حكومتان لإستشارتي حول نقابات المثليين. سألوني: أهي، المثلية الجنسية، حقيقة تاريخية وأنثروبولوجية؟
وجدتُ مثالين ضمن المعلومات التي جمعتها. في تانزانيا إذا أصبحت امرأة ما أرملة، وإذا كانت من دون أي أطفال، فإن بإمكانها أن تتزوج من امرأة أخرى، بذلك تصبح شرعياً زوج المرأة الأخرى. ثم بإمكانها أن تختار عشيقاً لهذه المرأة، والأبناء الذين ينتجون عن هذا الإتحاد ينسبون إلى زوجها الميت. هذا مذهل، حيث إنه يبين أن القرابة هي حقيقة اجتماعية بحتة، رغم أن هذه الحالة هي ليست فعلاً ذات صلة بالمثلية الجنسية. أما المثال الثاني هو محاربي الماساي، الذين يتزوجون في سن متأخر جداً. إنهم يحاربون حتى يبلغوا الخامسة والثلاثين من عمرهم، وأثناء هذه الفترة يكون للمحارب شريكاً يمارس معه المفاخذة.
بذلك أجبت بأنني لم أعرف أي مؤسسة في التاريخ البشري تأسست على العائلة وإتحاد مثليي الجنس في مثل الوقت. بالإضافة، كنت وقتها متأثراً بشكل كلي بالتحليل النفسي، فقلت إن مكانة الأب لا بد منها لبنينة هذه المؤسسة. بذلك لم أكن مسانداً للـ “زواج للكل” [mariage pour tous: الشعار الشهير لمظاهرات حقوق الزواج المثلي في السنوات الأخيرة]. بعد ذلك، غيرت رأيي حول ذلك كلياً.
قدمتُ تقريراً سلطت الضوء فيه على مختلف الأنساب التاريخية الذي أدى إلى هذه الاحتمالية: تقييم [la valorisation] الطفولة منذ روسو؛ إزالة الصفة المرضية [la dépathologisation] عن المثلية الجنسية، من قِبل الطب؛ حقيقة أن مطالبة الأقليات، في الغرب، بحقوق لا تجرد أي شيء من الأغلبية، ينتهي بها الأمر بالإنتصار؛ الإكتشاف بأن القرود القريبة منا، البونوبو، هي ثنائية الجنس. فهم فرويد هذا الأمر جيداً، في أريكته، لكنه لم يعرف ماذا يقوم بهذا الشأن. أعتقد علينا أن نقول للناس إننا، بطبعنا، ثنائيو الجنس.
نشرة التقدمي العدد 129 اغسطس 2018
[1] مصدر الحوار باللغة الانكليزية:

Maurice Godelier, Interviewed by Nic Ulmi, From Kinship to Geopolitics: A conversation with Maurice Godelier, Trans. David Broder, Verso Books