طلب انضمام الى صفوف المندسّين!


سلام عبود
2018 / 7 / 21 - 19:23     

منذ الشرارة الأولى لقيام انتفاضة الجياع ومستلبي الحقوق والكرامة حدّد حيدر العباديّ ومعه القوى المتحاصصة جميعها، من دون استثناء، موقفهم واضحا صريحا، المنتفضون قسمان: القسم الأوّل مطالبون بالحقوق المشروعة، والقسم الثاني مندسّون.
تسليم السلطة بشرعيّة مطالب المنتفضين لم يكن بسبب شرعيّة المطالب وعدالتها، فهي عادلة منذ أن تمّ سرقتها على يد السلطة، بل بسبب الافتضاح المطلق للفساد ومصادره، والافتضاح المطلق لجهل وغباء وتفاهة الحاكم.
شرعيّون ومندسوّن! هذا التقسيم الجاهز، الذي استخدمه الطغاة كافـّة على مدى التاريخ كلـّه، رُفع الآن مجددا في وجه الشعب تحت ضغط واقع مربك، أبرز إشاراته عدم ظهور شعارات سياسيّة في الانتفاضة، وتأكيد المنتفضين على عدم انحيازهم الى جهة سياسيّة معيّنة.
في أيّ حقل سيتمّ وضع المندسّين إذاٌ؟
المعضلة الكبرى التي واجهها إعلام السلطة تكمن في نقطة واحدة حسب: الانتفاضة تندلع وسط الحاضنة الشعبيّة التي وقفت ضد داعش، وهي القاعدة ذاتها التي تمّ سحق شبابها في سبايكر وقصبات الموصل وأتياه المنطقة الشرقيّة.
أين سيتمّ وضع المندسّين إذاٌ؟
حتّى هذه اللحظة لم يعثر العباديّ وزمرة الحكم على مكان محدّد وصريح يُنسب للمندسّين.
إشارات تنويريّة عديدة بعثها إعلام السلطة، منها "الهجوم على مركز شرطة الشعلة"، رافقه توضيح مفيد "يهدف الى إطلاق سراح المسجونين!"، لتذكير الناس بهروب ألف داعشيّ من سجن "أبو غريب" الذي تديره السلطة بنفسها. الهجوم على حقول نفط في مناطق متنازع عليها. الهجوم على مطار النجف و"تعطيل الوظائف المقدّسة!"، تعطيل الميناء "مصدر رزق الشعب الحبيب"! والأماكن المذكور، جميعها، مناطق خلاف شديد بين ميليشيات أحزاب السلطة.
على الرغم من هذا التلفيق الممنهج، لم تتمكن السلطة حتّى هذه اللحظة من وضع المندسّين في مكان محدّد، ومن "فبركة" رواية قابلة للنقاش.
ناطق باسم بعض قوّات الحشد الشعبيّ أطلق تصريحا شخصيّا قال فيه: المندسّون عناصر خاضعة للتأثير السعوديّ. لكنّ السلطة ردّت عليه ردّا حاسما وعمليّا، فقد أرسلت وزيرها المتـّهم من قبل الشعب بالفساد وسوء الإدارة الى الدولة المتـّهمة بإرسال المندسّين. وهذه الواقعة تعكس أمرين: عدم اتـّفاق الحشد مع السلطة، وهو أمر معروف للجميع. لكنّ الفريقين متفقان على نظريّة تقسيم العراقيين الى قسمين: أصحاب حقوق مشروعة ومندسّين.
جمود موقف السلطة، وعدم ظهور تطوّر في محتوى الخطاب الإعلاميّ للسلطة، يدلّ دلالة قاطعة على أنّها تراهن على أمر واحد، ذي رأسين: تعب الشعب المنتفض، وزيادة منسوب القمع التدريجيّ.
أمّا الإجراءات التي قامت بها بعض أجهزة السلطات المحليّة فقد أثارت ردود أفعال معاكسة تماما. منها ما قامت به السلطة في حساب خسائر مطار النجف، وما قامت به بعض المحافظات لإحصاء الخسائر التي تعرضت لها الركائز العملاقة في اقتصاديّات مدن طويريج وعفك مثلا! الدقـّة الفائقة في حساب الخسائر، والإخلاص في الحساب، والأهمّ السرعة العجيبة، الأسطوريّة، جعلت الجميع يتفكرون في أمر واحد: لمّا كنّا نملك مثل هذه الكفاءات الخارقة، لماذا لم نتمكن منذ خمس عشرة سنة حتّى اليوم من القيام بإحصاء عدد الفاسدين واللصوص، وعدد المليارات المهدورة، وتحديد سارقيها؟ لماذا لم يتمّ إحصاء المشاريع الفاشلة والمنهوبة؟ لماذا لا نعرف حساب عدد ساعات انقطاع الكهرباء! كم عدد أطفال الشوارع؟ كم عدد المهجـّرين والبيوت المقنبلة؟ كم عدد مدارس الطين والقصب؟ كم عدد الشهداء والأيتام والأرامل؟ كم عدد العاطلين عن العمل، وعدد الذين يعيشون تحت خطّ الفقر؟
وإذا تركنا مسؤولي المحافضات وانتقلنا الى رأس السلطة، العباديّ، الذي صحا من نومه ليجد أمامه منتفضين شرعيين ومندسّين بالملايين من أقصى الجنوب (صفوان) حتّى مقر المرجعيّة المقدّسة. أيّ حاكم أصمّ وأعمى يغبى عليه هذا الغضب العارم، الذي تكتنزه صدور الناس؟ وهل حقـّاً أنّ الشعب لم يعلن عن هذا الغضب سوى الآن، في هذه اللحظة؟
أقول بكلّ صدق وأمانة: رئيس على هذه الدرجة من غلاظة الضمير والأحاسيس لا يصلح أن يجرّ عربة زبالة، إذا كان صادقا وشريفا! ولا يستحق أن يكون عربة الزبالة نفسها إذا كان كاذبا.
ملايين الناس المحرومين والحاكم لا يعرف! ملايين المليارات المهدورة وأنت لا تعرف! ملايين السنوات المهدورة من أعمار الشعب وأنت تحكم بالعدل! لماذا تحكم إذاً؟
العباديّ الأصمّ والأعمى، كما يُظهر نفسه في وسائل الإعلام، العباديّ المهندس التنفيذيّ المحليّ (الجهويّ) لنظريّة الاستعمار الجديد، نظريّة خصخصة المعابر القاريّة بقيادة إميركيّة اسرائيليّة، لم يتفتـّق عقله سوى عن أمرين عمليين واضحي المدلول خلال اليومين السابقين. الأوّل: خطابة المنتقى الكلمات والمصمّم ببراعة، الذي يقضي بتحديد الخط ّ الأحمر، الذي لن يسمح لأحد بتجاوزه من دون تلقي الردّ بكلّ الوسائل المتاحة، الخطّ الأحمر، الذي يتحدد بـالاعتداء على "المساجد والكنائس والحوزات المقدّسة..."!
العباديّ نفسه، ونحن جميعنا معه، نعلم، أنّه لا مسجد، ولا كنيسة، ولا حوزة تعرضت لأذى "المندسّين". إذاً، لمن يوجه العباديّ خطاب التحريض الدينيّ؟ ضد من توجه الدين، دين الله الواحد الأحد، أيّها المؤمن، الدعوجيّ؟
الحدث الثاني البارز هو لقاء العباديّ المفاجئ قيادة الحشد الشعبيّ. ودٌ مباغت لم يحدث مثيل له حينما قصف الأميركان الحشد مرارا، وحينما طلب الأميركان إرغام الحشد على التوقف عن ضبط الحدود مع سورية، وحينما وصل الأمر بالطيران الاسرئيليّ الإغارة على مواقع الحشد والقوات العراقيّة. كلّ ذلك لم يحرّك دمّ العباديّ البارد، ولم يحفزّه للقاء الحشد. لكنّ "مطالب الشعب المشروعة" دفعته الى ذلك. كم هي خطيرة "مطالب الشعب المشروعة"! كم هي خطيرة ومرعبة؟ أيّة رسالة يريد العباديّ توجيهها؟
تقاسم النفوذ؟ ممكن. ولكنّ على حساب من؟ أعلى حساب "مطالب الشعب المشروعة"؟
الجواب على ذلك نجده حينما نربط خطاب العباديّ حول الخط الأحمر بمشاورة الحشد الشعبيّ المفاجئة.
وأنا اقول للعباديّ: أنت تلعب لعبة القتلة القذرين نفسها، لعبة الطائفيين الأشرار، التحريض باسم الدين، ووضع المسجد والكنيسة والحوزة في مواجهة الشعب، من طريق بناء ذرائع مسبقة، ومن طريق تحفيز الميليشيات على تحقيق ما توعز به، وفي النهاية وضع القوى الشعبيّة المسلحة في مواجهة أبناء الشعب.
ربّما تنجح في رهانك، لو استجاب مندسّ ميلشياويّ لبرقياتك التحريضيّة وقام بتفجير كنيسة أو مقرّ لحوزة. ربّما تنجح في رهانك لو خدعت الحشد! لكنـّك لن تخدع أحدا، فأنت الآن رئيس اللعبة المنتهية ولايتها، اللعبة الطائفيّة، اللصوصيّة الكبرى. لعبة التخطيط لقيام حرب أهليّة باسم الدين "الحنيف"!
خطابك يجعلنا الآن واثقين تماما ماذا تعني بكلمة مندسّين. الذريعة الوحيدة التي تمتلها وتلوكها بغباء، لكي تعاقب - بضمير مستريح- شعب بأكمله، شعب مندسّ.
ولكلّ هذا الأسباب، لا تلومني يا رئيس الوزراء، لو جعلني خطابك التحريضيّ المتخلـّف أتقدم، مع سبق الإصرار والترصد، بطلب انضمام الى الشّعب المندسّ.