ما قيل وما لم يقال عن ثورة 14 تموز الوطنية المجيدة


فاضل عباس البدراوي
2018 / 7 / 10 - 23:04     

كثُر الحديث وكثُرت الكتابات، عن ثورة 14 تموز عام 1958 ، من قال عنها انها ثورة وطنية، أزاحت النظام الملكي السعيدي الدكتاتوري الرجعي، السائر في ركاب ألأستعمار وأحلافه العدوانية، وأقامت نظاما وطنيا حررت البلاد من ألأحلاف العسكرية والهيمنة ألأستعمارية على مقدرات البلاد، وحققت الكثير من المنجزات الشاخصة للعيان حتى يومنا هذا، بالرغم من قصر عمرها، ومن يصفها بألأخص في أيامنا هذه، بأنه انقلاب عسكري أطاح بنظام (ديمقراطي برلماني!!)، حسب زعمهم! ومرد ذلك، نابع من صنفين، أحداهما من ذوي ألأفكار الرجعية وبقايا أولاد وأحفاد أزلام ذلك النظام، يحاولون بشتى الطرق من أستغلال ألأنقلابات العسكرية، التي تلت الثورة وكانت الثورة وقادتها أول ضحاياها، وما آلت اليها ألأوضاع في البلد حتى يومنا هذا، وألأحداث التي تلت بعد أغتيالها على يد عملاء ألأستعمار من الزمر البعثية والقومية والرجعية، يحاول هؤلاء من تحميل اوزار كل تلك ألأمور للثورة للنيل منها. اما الصنف الثاني، فهم فئات من الشباب، الذين لم يطَلعوا بشكل واسع على التاريخ السياسي لبلدهم وذهبوا ضحية تشويشات وألأدعاءات الباطلة من قبل الصنف ألأول.
لما كنت قد عشت أحداث السنوات التي سبقت الثورة، وأيام الحدث العظيم الذي هز العالم، وقضَ مضاجع القوى ألأمبريالية، وحطم مخططاتها الشريرة. انها الثورة بمعنى الكلمة، صحيح ان القوات المسلحة هي التي فجرت الثورة، لكن القوى الوطنية العراقية التي كانت منتظمة في جبهة ألأتحاد الوطني، كانت على صلة وثيقة وتنسيق مسبق مع قادة الثورة، ومنذ الساعات ألأُول لقيام الثورة، خرج الملايين من العراقيين الى الشوارع، ملبية نداء الثورة، ومستجيبة للبيانات التي اصدرتها القوى الوطنية وجبهة ألأتحاد الوطني الداعية الى احتضان الثورة والذود عنها، مما اسقطت كل الرهانات لوأد الثورة، وكانت عاملا أساسيا لأنتصارها.
قبل الثورة بأعوام ومنذ صغر سني، كنت منتظما في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، سأسرد أحداثا عشتها، وبقيت منقوشة في ذاكرتي، حيث تعود بي الذاكرة الى فترة ما قبل الثورة بأربعة أعوام، لا أبتغي منها سوى اظهار للحقائق، بلا تزويق أو مبالغات أو انحياز، بعد مضي ستة عقود على الثورة، كي يطلع من يقرأ هذه السطور على ما كان عليه العراق ، من بؤس وفاقة وأمية وأمراض تفتك بفقراء الناس، أضف الى ذلك تكبيل البلاد بقيود ألأحلاف العسكرية التي فرضت على البلاد دون أرادة شعبنا. ان النظام الملكي البائد لم يكن نظاما ديمقراطيا برلمانيا كما يزعم البعض من مزوري التاريخ، وهناك أمثلة عديدة تدحض تلك المزاعم، حيث كتب عنها الكثير، لكنني سأتناول الفترة الزمنية من أواسط عام 1954 الى يوم قيام الثورة المجيدة. لقد كان يلف أجواء العراق غمامة سوداء، لا برلمان حقيقي منتخب، بعد أن أصر نوري السعيد بعد تكليفه من قبل الملك بتشكيل الوزارة، بحل البرلمان الذي فازت الجبهة الوطنية بالرغم من المضايقات والتزوير بـ 11 مقعدا من مجموع 136 مقعد، لكن نوري السعيد كان يخطط للقضاء على ما تبقى من أطر ديمقراطية محدودة جدا، لتنفيذ ألأهداف التي رسمها ذلك بربط العراق بألأحلاف العسكرية التي لا ناقة لشعبنا بها ولا جمل، بل كان يعرَض سلامة البلاد للخطر في حال كان قد اندلع نزاع مسلح بين أطراف الحلف من جهة والمعسكر ألأشتراكي آنذاك من جهة أخرى. حل البرلمان وجيء ببرلمان فاز 90% منهم بالتزكية لأن القوى الوطنية قاطعت ألأنتخابات احتجاجا على حل البرلمان المنتخب السابق، ولم تجر انتخابات بالمعنى الحقيقي، كان جل أعضاء البرلمان الجديد من أعوان النظام وغالبيتهم من ألأقطاعيين، الغريب في ألأمر، ان بعض المناهضين لثورة تموز، يتكلمون ألآن عن تزوير ألأنتخابات التي جرت مؤخرا، بنسب متفاوتة، وقد حصل هذا التزوير بالفعل، لكن ما بالكم ان انتخابات نوري السعيد لم يشهد تزويرا لسبب بسيط هو انه لم تكن هناك منافسة أصلا، انما جرى شبه تعيين للنواب.
أول انجازات البرلمان (المنتخب ديمقراطيا)!! هو تشريع القوانين التي قدمتها حكومة السعيد وهي كالآتي:
1- حل كافة ألأحزاب السياسية، كان المقصود منها ألأحزاب الوطنية والقومية (الوطني الديمقراطي بزعامة الشخصية الوطنية الديمقراطية المعروفة الراحل كامل الجادرجي وحزب ألأستقلال بزعامة الشخصية القومية الراحل محمد مهدي كبة وحزب الجبهة الشعبية بزعامة الشخصية الوطنية الليبرالية الشيخ الراحل محمد رضا الشبيبي).
2- غلق كافة الصحف، عدا أربعة منها تسبَح وتحمَد بالنظام.
3- غلق ما تبقى من نقابات عمالية وعدم السماح بتشكيل نقابات مهنية، عدا نقابتي المحامين وذوي المهن ألطبية، ومنع تأسيس منظمات مجتمع مدني
4- أصدار مرسوم لم يسبق لأية حكومة في العالم أصدرتها ضد معارضيها وهو مرسوم اسقاط الجنسية عن معتنقي المباديء الشيوعية، أي حرمان المواطن من حقه في المواطنة بسبب افكاره ومعتقده السسياسي، والغريب ان أول من طبق عليه هذا المرسوم لم يكونا عضوين في الحزب الشيوعي العراقي، انما كانا شخصيتين ديمقراطيتين هما المحامي الشهيد كامل قزنجي والمحامي الشهيد توفيق منير نائب نقيب المحامين، حيث أبعدا الى تركيا، وأعيدا الى البلاد بعد الثورة.
5- تم فصل المئات من أساتذة الكليات والمدرسين والمعلمين والموظفين من وظائفهم بسبب معارضتهم السلمية لسياسات النظام، وأرسل العديد من هؤلاء الى معسكر السعدية بتهمة (التشرد)!! ان دل ذلك على شيء انما يدل على مدى استخفاف النظام السعيدي بأصحاب الشهادات العليا من خيرة مثقفي وفناني وعلماء شعبنا، منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكاترة (فيصل السامر وصفاء الحافظ وعبدالله البستاني وابراهيم كبة وصلاح خالص وعبد الرحمن البزاز وجابر عمر وألأساتذة حسن الدجيلي، ونصير الجادرجي والمربي الكبير نجيب محي الدين والشاعر الكبير مظفر النواب والشاعر رشدي العامل والفنان الكبير يوسف العاني وعشرات آخرين لا تحضرني أسمؤهم).
6- قدمت النقطة الرابعة ألأمريكية، مساعدات (جمة) للعراق!! وهي عبارة عن بناء سجن انفرادي في مدينة بعقوبة، لا تتسع الغرفة الواحدة منها لثلاثة أشخاص بمساحة مترين مربعين، كان جل هؤلاء السجناء من الشيوعيين والديمقراطيين وعدد قليل من أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني. اضافة الى تزويد النظام بعدد كبير من الحباسيات (الكلبجات) الجديدة لتقييد أيدي المعتقلين، وغيرها من ألأنجازات (العظيمة) التي يتبجح بها مزوروا التاريخ.
7- الدخول في حلف عسكري مع بريطانيا وفرنسا التي كانت تشن حربا شعواء على الشعب الجزائري المطالب بحقه في الحرية وألأستقلال، اضافة الى نظام شاه ايران وتركيا، والولايات المتحدة ألأمريكية كمراقب، وأتخذ الحلف من بغداد مقرا له وسمي بحلف بغداد.
قبل الثورة بأيام قليلة، وزع حزبنا الشيوعي، منشورا داخليا خاصا برفاق الحزب، يتضمن شرحا لأوضاع البلاد، وفيه أشارة بضرورة التزام اليقظة والحذر ربما لأحداث قد تقع في البلاد (لكنني في الحقيقة لم أكن على درجة من النضج السياسي آنذاك، حيث كنت مرشحا للعضوية لصغر سني، كي أفسر ماهية ألأحداث المتوقعة في البلاد).
في صبيحة ذلك اليوم ألأغر، كنت نائما على سطح درنا التي كانت تقع في محلة أبو سيفين في شارع الكفاح حاليا، حينها سمعت أصواتا وضجيجا، وعند نزولي من السطح طلبت مني الوالدة فتح المذياع لأن تلك ألأصوات تبث من خللا ألمذياع، بالفعل عند فتحي للمذياع، أخذت أسمع مارشات عسكرية، ثم بدأ ببث بيانات من القائد العام للقوات المسلحة يعلن فيها القضاء على النظام العميل للأستعمار، وتيقنت حينذاك بأن ثورة قد حدثت، وبقيت ملازما للبيت لأستمع الى بيانات تعلن فيها على تعين مجلس للسيادة وتشكيل حكومة جديدة كان معظم الوزراء معروفين لدينا اذ انهم كانوا من شخصيات الحركة الوطنية.
لكن المفارقة كانت، بأن جميع أطراف جبهة ألأتحاد الوطني تم أشراكها في حكومة الثورة، بأستثناء الحزب الشيوعي، الذي كان بأعتراف الجميع رأس رمح الحركة الوطنية وأقدمها وأكثرها تضحية، لقد مثل الحزب الوطني الديمقراطي وزيران، هما الراحلان محمد حديد وزيرا للمالية وهديب الحاج حمود وزيرا للزراعة ومثل حزب ألأستقلال في الحكومة، الشيخ الراحل محمد مهدي كبة كعضو في مجلس السيادة والراحل صديق شنشل اذ عيَن وزيرا للأرشاد ومثل حزب البعث أمين سر قطره الراحل فؤاد الركابي الذي قتل بعد سنوات على يد رفاقه في حزب البعث المقبور. ألأَ ان ذلك لم يحلَ دون دفاع الحزب الشيوعي عن الثورة منذ اليوم ألأول لأنطلاقها وأسهم بشكل فعال في حماية الثورة.
بعد ساعات قليلة من استماعي لبيانات الثورة، حضر الى دارنا مسؤولي الحزبي الرفيق الراحل صبحي جواد طالبا مني الخروج الى الشارع لتوزيع البيان الصادر من الحزب الذي كان يحمله، ومضمونه الترحيب بالثورة والعمل على مساندتها ووضع كافة امكانيات الحزب تحت تصرف قيادتها، مع التركيز على ضرورة حماية ألأموال والممتلكات العامة والخاصة، من أيتام النظام البائد. عند قيامنا بتوزيع البيان في شارع الكفاح تلقفتها أيدي الجماهير وهي تهتف للثورة وللحزب الشيوعي. خلال شهر كامل من قيام الثورة، لم تسجل مراكز الشرطة أية جريمة جنائية، في اليوم الثاني خرج الموظفون الى دوائرهم، يهنئون بعضهم البعض ويوزعون الحلوى، وترى المواطنين يصافح ويقبل بعضهم البعض وساد البلاد جو من فرح غامر بالتخلص من ذلك الكابوس الذي جثم على صدورهم لسنوات طوال. لقد كنا نشاهد بعض وكلاء وشرطة ألأمن يسيرون في الشوارع دون أن يمسهم أحد من ضحاياهم بسوء، أمتثالا لتعليمات حزبهم الشيوعي التي كانت تؤكد على رفاقه وأصدقائه بأحترام القانون، وترك القانون يأخذ مجراه الطبيعي لمحاسبة هؤلاء (لكن مع ألأسف ترك هؤلاء دون عقاب ليسهموا بعدئذ في التآمر على الثورة)، حتى ان بعض الرفاق الذين كانوا سجناء في سجن بعقوبة ألأنفرادي ذكروا لنا بأنهم شاهدوا مدير السجن الجلاد علي زين العابدين الذي كان يقوم بتعذيب السجناء لأسقاطهم سياسيا وهويسير بطوله وعرضه في الشارع دون أن يمسه أحد بسوء. هكذا غيرت الثورة المغدورة حياة العراقيين، لكنها لم تدم طويلا مع ألأسف بسبب غدر الغادرين وتآمر ألأمبريالية، وأنحراف الثورة عن نهجها الديمقراطي بعد عامها ألأول.
تحية ومجدا لذكرى ثورة 14 تموز المجيدة وخلودا لشهدائها ألأبرار.