سنابل العمر، بين القرية والمعتقل


محمد علي مقلد
2018 / 7 / 3 - 22:47     

مقدمة لكتاب محمد فرحات وعنوانه:
سنابل العمر. بين القرية والمعتقل

يحكي هذا الكتاب عن موضوعين مؤلمين، عن حياة الكفاف في ريف الفقراء وعن غابة النضال الوطني والقومي. لكن الصفحات تقلب بغبطة ومتعة ولا تترك للقارئ مجالاً لأن يكره الفقر الذي قيل فيه "لو تمثل الفقر لي رجلاً لقتلته"، ولا للمناضل أن يندم على سنوات من التضحية. ذلك أن محمد فرحات ينتقل بنا من نصوص المعتقل إلى نصوص القرية بسلاسة الراوي وبلاغة الشعراء، ويجعلنا نشاركه حبه للأرض والفلاحين من أهله وأجداده وأبناء القرى، وحبه لقضية قد تكون واحدة من تلك التي قال عنها الشاعر: سأبقى مع القضايا الخاسرة حتى الموت. هو يروي وقائع بألوان زاهية وطعم مر. إنه يكتب عن الفرح المر.
تذكّرك نصوصه عن المعتقل بالأسماء اللامعة ممن كتب في أدب السجون، وما أكثرهم وما أكثر السجون في العالم العربي، لا لأضعه في مصاف عبد الرحمن منيف والطاهر بن جلون وفواز حداد وصنع الله ابراهيم وياسين الحاج صالح، فهو حديث العهد في مجال النشر والتأليف، ونأمل أن يكون كتابه باكورة لأعمال أخرى، ولا لأفاضل بينه وبين رموز أدبية كبرى، بل لأشير إلى أنه دخل إلى ناديهم من غير أن يقلد أحداً منهم أو أن يكون قد اطّلع على أي من كتاباتهم، وأنه اقتحم هذا المضمار بالصدفة وبخجل ورهبة من غير أن يتوقع هذا القدر من الإعجاب بنصوصه الأولى، والتشجيع من قبل أصدقائه ورفاقه على الاستمرار في نشر ما يكتبه من انطباعات وملاحظات واعترافات عن المعتقل فتحت شهية قلمه لاسترجاع شريط الذكريات الممتد من زاروب الجامع في جرجوع إلى بستان والده على ضفة نهرالزهراني ثم إلى خنادق النضال في الحزب الشيوعي.
يستهل محمد الكلام عن المعتقل بنص يروي لحظة الخروج منه إلى الحرية. كان يتخيل أن جماهير الشعب اللبناني ستكون في استقبال أبطال المقاومة، وأن الناس ستعطل أعمالها وتتفرغ لتكريمهم، وفاجأه أن تكون عودته مع رفاقه حدثاً عادياً على مفرق حاروف، وأن تبدو حياة الناس في المناطق المحررة تسير سيراً طبيعياً من غير أن تلحظ اهتماماً بقدومهم، إذ لم يكن في انتظارهم سوى فضوليين للفرجة. حدث استثنائي فقط في نظر سائقي السيارات العمومية الذين لم ينتبهوا إلى أن القادمين من المعتقل لا يحملون غير الانتظار والخيبة والجيوب الفارغة. فكان يمكن أن يواصل طريقه من مفرق حاروف إلى جرجوع مشياً على الأقدام، لولا نخوة المناضل أبو خلدون الذي التقاهم في كفررمان وأوصلهم إلى مدخل القرية. هذا النص يلخص الخيبة المثلثة، "من جحيم الوعي الطبقي ومن الهزيمة ومن تفاصيل الاعتقال".
المعتقل مدرسة فيه يختبر المرء ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. مناضلون أشداء يشحذون الهمم والنفوس وينتصرون على آلات التعذيب النفسي والجسدي، ومعهم، في الخيم ذاتها ينام عملاء ولواطيون ولصوص وانتهازيون ومدمنون. في المعتقل تطبع "نداء أنصار"، يخطها محمد بيده، ويشرف على تحريرها علي فاعور وذيب الجسيم. وفي المعتقل خليل مشورب الذي يفيض صلابة وثباتاً وعلي فرحات وفرج فوعاني وجعفر ياسين، وفيه ألحان عابرة للأسلاك، وفيه صمود مبتكر وتضامن رفاقي وتقاسم للهموم وكسرة الخبز، وفيه أيضاً تظهر "عورات الأمة في بيضة"، بل في بيضتين يسرقهما بلطجي في المطبخ، أو في تسابق الأنذال على التملق للسجان، وفيه الحشاش والمُخبر وشاويش الخراء، وفيه الانتهازيون من ذوي النفوس الضعيفة والمريضة.
ما كان مموهاً خارج المعتقل صار مكشوفاً ومفضوحاً فيه. المحشورون معاً في خيمة واحدة هم صورة مكبرة لمن يشبههم في موقع عسكري أو على طاولة اجتماع واحدة في مركز حزبي أو في "قيادة مشتركة". في المعتقل ذاته أبطال عملية وادي الزينة من رفاق برجا وقادة شرفاء من المقاومة الفلسطينية، وفيه أيضاً عميل أضرم النار في كنائس صيدا وآخر شارك في تفجير السيارات المفخخة. قبل المعتقل كانت صورة النضال أكثر صفاء وأكثر صدقاً. قبل المعتقل لا تظهر الفوارق بين صدق الالتزام وتجارة المواقف. الكل في خندق واحد في مواجهة العدو الذي لا نعرفه إلا باسمه ونعته الصهيوني. داخل المعتقل تظهر الحقيقة عارية على صورة عدو مزدوج: السجان على ظهر الملالة، الذي قد يطلق النار عشوائياً على العزل والذي قد يرمي لهم راديو ترانزيستر ليصلهم بأخبار الخارج ... وعدو آخر بين صفوف المعتقلين، وهو الأخطر. هو الأخطر لأنه من "ذوي القربى" و سليل "أبناء الخندق الواحد"، قد يكون فرداً نذلاً ضعيف النفس رخيصها وقد يكون الاستسلام لليأس.
صدق الالتزام بالقضية لا يسمح للخيبة أن تتحول إلى يأس. لكن من حق كل المناضلين والمقاومين أن يطرحوا السؤال السياسي، سؤال من لم يبخل على القضية لا بالوقت ولا بالمال ولا بالدم ولا بالروح، هل كنا على خطأ؟ هل ذهبت تضحياتنا سدى؟ وماذا بعد؟ سؤال كذاك الذي طرحه محمد الماغوط بصيغته الشاعرية الفلسفية حين قال: أحلم بسلّم من الغبار والظهور المحدودبة، لأصعد إلى أعالي السماء وأعرف أين تذهب آهاتنا وصلواتنا؟ سأل محمد فرحات هل أساء إلى والديه حين تمرد على نصائحهم ونقل أحلامه من الحقل والبستان والمدرسة إلى توزيع جريدة النداء والتبرج بالسلاح "زينة الرجال"، والانخراط في دورات التدريب العسكري لمواجهة العدو الصهيوني؟ هل يفرح لأنه نجا من الحرب ولم تعلق صورته شهيداً على عامود الكهرباء؟ هل يندم لأنه مضى من غير تردد على دروب الآلام ؟
هذا النص ممتع لأنه لا يدفعنا إلى خيبة أو ندم أو تأنيب ضمير، بل إلى التمسك بقيم النضال الجميلة. وهو ممتع لأن أسئلته لا تذهب أبعد من النظر إلى الماضي بعين نقدية، أو أبعد من المطالبة باستخلاص الدروس المفيدة والعبر من الحرب الأهلية.
اقترح أحدهم اسم "الكشكول" عنواناً لهذا الكتاب، وهي كلمة من اللغة الفصحى، تعني الأوراق التي يكتب عليها ما هب ودب من الخواطر، في نقد الشعر أو في الطرائف والمآدب والرحلات والصيد البري وحفلات السمر، بل هي أقرب إلى أوراق الرزنامة السنوية التي يكتب عليها كل شيء وفيها من كل واد عصا. أما كتاب محمد فنقرأه، على تعدد نصوصه، كأنه نص واحد من كتب السيرة أو من المذكرات، بل هو اختار من السيرة أو من المذكرات الوجه المؤلم وأزال عنه الألم وغلفه بالحب والأمل.
لست أدري أيهما أكثر إيلاماً، الفقر أم المعتقل. خرج محمد من المعتقل شامخاً صلباً، رافضاً المساومة على المبادئ والقيم حتى لو دفع ثمن الإصرار على تمسكه بها غالياً. أما الفقر فهو محل اعتزازه. وفيما يخجل آخرون من انتمائهم الريفي الفلاحي، يتباهى محمد بأنه ابن مزارع ماهر، قلت في تأبينه: "أبو علي كان طبيب الشجرة الجراح. مبضعه لا يخطئ، وسكينه مع البراعم مثل القلم في يد الشاعر أو الريشة في يد الرسام أو الإزميل في يد النحات. يعرف مواقيت الشجرة، وتبوح له بأسرارها، وتأنس البراعم لدفء أنامله. مثل الطبيب أو المهندس وعدّتهما في حقيبة، كانت عدته على خصره أو في جيبه، يلبي نداءات البساتين والفلاحين، ويقول لمولود الشجرة الجديد، كن فيكون: أنت في الربيع وذاك في أول الصيف، وفي كل عام ثمر وخصب، ومن خصبه وثمره أتى يوسف ومحمد برعمين صغيرين، وأصبحا شجراً وارفاً من دفء حبه ومن مدرسته ومن الجامعات والعمل الناجح. هكذا كان أباؤنا الفلاحون. لم يكونوا فحسب أرضاً وشجراً ومزروعات. أهلنا القيم، أهلنا الكرم والبيوت المفتوحة ...أهلنا القلوب المفتوحة".
طفولة محمد تشبه طفولة كل أبناء الفلاحين، لكنه، حين يكتب عنها يعلّم جيله درساً في الإباء وعزة النفس والكبرياء. فقرالفلاح ليس فقراً. "فلاح مكفي سلطان مخفي". وحدة القياس عند الفلاح في الريف هي غيرها عند من يعيش من التجارة أو الوظيفة أو الأعمال الحرة. "البركة" هي وحدة القياس، الثمار بركة والغلال بركة والزائر بركة والصداقة بركة وكذلك خوابي الزيت أو نعارة القورما أو كوارة القمح. الفلاح سلطان من غير نقود، فيما الذين يكدسون المال قد لا ينعمون بما لدى الفلاح من غنى النفس. بستانه كرم على درب، أما الحوانيت فلا تقاس السلعة فيها بالبركة بل بحجم الربح و"القمية الزائدة"
ليس أمراً عادياً أن يضم الكتاب مقاطع طويلة عن "العتالة العشوائية"، عن جد محمد الذي غادر إلى المدينة ليوفر لإبنه ولأحفاده ما يفتقر إليه الفلاح والمزارع، أي النقود. بل ليس أمراً عادياً أن يكتب محمد باعتزاز عن العتال والكرتونة الأسبوعية أو الشهرية التي كان يرسلها جده إليهم من بيروت. هكذا تداوى الجد من الحرمان بالعمل الشريف وعرق الجبين، فيما لجأ جيل الحرب إلى الثأر من الحرمان بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى لغة السلف الجاهلي والغزوات والأتاوات والجعالات والتشبيح والمال الحرام والخروج على القانون.
هكذا لا يعود الفقر عاهة ولا مصدر كآبة وحزن وعويل . كأني بمحمد يكرر حكمة تعلمناها من أهلنا، الفقر هو فقر العقل، وتكون أكثر دقة لو قيل، الفقر فقر العقل النقدي. فقراء العقل وحدهم يداوون فقرهم بالعويل والبكاء والبطالة والخوف من نقد الماضي والإصرار على الإقامة فيه. في نصوص محمد الآلام مدرسة، لا على الطريقة الرومنسية، بل بالواقعية والنظر إلى النصف الملآن من الكأس، لا إلى النصف الفارغ.
لا بمنهج النظر إلى الأحداث فحسب يمتعنا كتابه، بل بإسلوبه الجميل "السهل الممتنع". صار مدرسة في الكتابة، بعد أن تحولت الوقائع بين يديه إلى فن رفيع المستوى لا يبلغه إلا الراسخون في الموهبة من كتاب السيرة والمذكرات والروايات. في نصوصه رشاقة في التعبير ودقة في الملاحظة لا تجدها إلا لدى الرواة. حين يكتب عن "الطبلية" ووظائفها المتعددة، أو عن الساحة، التي تكون تارة للدبكة القروية وتارة للموت بشظايا القنابل، أو عن العلّية والأرضية في منزله وعن الدلفة والمزراب، أو عن الاحتفال الموسمي "بالكبة النية" وزيت الزيتون، أو عن وجبة الأسنان التي كان يتباهى بها والده أمام "السهيرة المتحوكمين قرب الصوبيا"، أو عن جزمة عمرت طويلاً في قدميه... حين يكتب عن كل هذا وعن كثير غيره من صور الطفولة والريف، لا يترك شاردة ولا واردة، ولا يطيل بل يعرض الصور باللمح كالشعراء ويغادر المشهد قبل أن أن يكون القارئ قد ارتوى من متعة القراءة.
كتب محمد بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عمن يشبهه من المناضلين أو من أبناء الفلاحين. قد يصح فيه قول المتنبي لسيف الدولة عن معاني المدح، إنك معطيها وإني ناظم، فالمعاني لم يجدها محمد "مطروحة في الطرقات"، بل اشتقها من مرارات عاشها رفاق له في المقاومة وأتراب له في زواريب القرية وعلى ضفة النهر.