ماركس في ذكريات معاصريه(2)


خليل اندراوس
2018 / 6 / 30 - 15:54     


أوجاع الفقر
يكتب الحفيد ادغار لونغاعن بؤس حياة المهاجرين في لندن وخاصة عائلة ماركس فيقول: "والآن اود ان اصف باقتضاب ظروف عيش المهاجرين وعوائلهم الذين وصلوا الى لندن في منتهى الفاقة، وبالنسبة لماركس وعائلته بدأت حياة مليئة بالفقر والآلام والاحزان ويستحيل اعطاء صورة افضل عنها الا بايراد بعض السطور من رسالة ماركس الى انجلز التي يقول فيها ماركس انه لم يكن في طاقته ان يتحمل الليالي الرهيبة التي كانت زوجته تذرف فيها الدموع.


يستمر ولهلم ليبكنخت في ذكرياته عن ماركس ويقول: "في دقائق الفراغ او في النزهات كان ماركس يركض مع الأطفال ويلعب معهم في اكثر الالعاب صخبا ومرحا – وقصارى القول، فقد كان هو نفسه يتحول الى طفل. "كانت عِشرة الاطفال حاجة لدى ماركس فمعهم كان يرتاح ويستعيد قواه، وعندما شب اولاده او ماتوا كان الاحفاد يحلون محلهم". "كانت ابنته جيني التي تزوجت في بداية السبعينيات (من القرن الثامن عشر) من مهاجر الكومونة لونغه، تشيع البهجة والنشاط في بيت كارل ماركس بأبنائها اللعوبين جدا وكان الابن الاكبر – جان او جوني، بوجه خاص الحفيد المحبب لدى ماركس".
ويتابع: "كان امرا مؤثرا، لا بل مسليا احيانا ان يرى المرء كيف ان ماركس الذي كان في الاحاديث في مواضيع سياسية واقتصادية يستعمل العبارات والتعابير العنيفة وحتى الفظة، كان في حضور الاطفال والنساء يتكلم برقة ولطف قد تحسده عليهما اية مربية انجليزية. كنا نحن، المهاجرين الشبان جماعة مقحامة ونحب بالمناسبة انشاد اغان لعوب، وحدث ذات مرة ان احدنا وكان يملك صوتا حسنا وهذا ما لا استطيع قوله بالنسبة للآخرين (يبدو ان رجال السياسة وعلى الاخص الشيوعيين والاشتراكيين في علاقات متوترة مع آلهة الفن والغناء) راح ينشد في غرفة الاستقبال عند ماركس اغنية جميلة ولكنها ليست مع ذلك محتشمة بعض الشيء عن "مساعد النجار الفتى الفتى".. اثناء ذلك لم تكن السيدة ماركس في البيت – والا لما كنا تجاسرنا – ولينخين والبنات ايضا لم نشاهدهن واعتقدنا اننا موجودون "في جماعتنا"، وفجأة اخذ ماركس الذي كان في البدء يغني او على الاصح يصرخ مع الجميع يبدي قلقا، وهنا سمعت انا حفيفا في الغرفة المجاورة وعنى ذلك انه يوجد اشخاص هناك، وماركس سمع ايضا على ما يبدو هذا الحفيف، وتحرك على الكرسي وقد ظهر عليه ارتباك بالغ، ثم نهض فجأة وهمس او هس وقد احمر وجهه: "اصمتوا، اصمتوا فهناك بنات!" في الحقيقة ان البنات كن آنذاك صغيرات جدا بحيث لا تستطيع الاغنية عن "مساعد النجار الفتى، الفتى" ان تلحق الضرر بأخلاقهن، وضحكنا قليلا وتمتم هو قائلا انه لا يجوز في حضور الاطفال انشاد اغنيات كهذه، ومنذ ذلك اليوم لم نعد نغني ابدا في بيت ماركس لا "مساعد النجار الفتى الفتى" ولا غيرها من الاغاني المماثلة".
ويضيف: "على اية حال، فان السيدة ماركس كانت في احوال كهذه اقل رغبة في سماع النكات، فلذا اقل بادرة للخروج على قواعد اللياقة كانت تلقى نظرة علينا بحيث تجمد الكلمات في حناجرنا.ولعل السيدة ماركس كانت ذات سلطة علينا اكبر من سلطة ماركس نفسه، فقد كانت "كرامتها وعظمتها" اللتان اتاحتا لها الحفاظ على التكلف دون السماح بوقوع تصرفات غير لائقة ولا شيء مخالف للاعراف – تمارسان تأثيرا سحريا على شبان مشهورين وحتى متوحشين بعض الشيء كما كان حالنا نحن".
ويقول ولهلم ليبكنخت عن زوجة ماركس، جيني: "قبل لقائي بالسيدة ماركس لم اكن افقه كل عدالة كلمات غوته: "اذا اردت ان تعرف كيف تسلك. فاسأل امرأة نبيلة عن ذلك!" (كلمات غوته "توركفاتو تاسو" الفصل الرابع المشهد الثاني)، لقد كانت بالنسبة لي تارة ايفيغينيا الملطفة والمنورة للبرابرة، وتارة اخرى ايليونورا حاملة السكينة والهدوء الى المتنافر مع نفسه والمشكك في ذاته – كانت الأم والصديقة وكاتمة السر والناصحة، كانت وتبقى بالنسبة لي المثل الاعلى للمرأة. واكرر القول هنا انه اذا كنت انا لم امت في لندن روحيا وجسديا فإنني مدين بذلك لها الى حد كبير، وهي التي كانت عندما افكر بأنني سأغرق في المحيط الهائج لفقر الهجرة، مثلت امامي مثلما كانت ليفكوتيا مثلت امام اوذيس المصاب بكارثة فزرعت في نفسه من جديد الشجاعة على مواصلة الابحار".
ليبكنخت يكتب أيضا عن ماركس: "عندما جرى دفن رفيقة حياة ماركس الوفية في مقبرة هايغت اخذت معها نصف "اناه"، نصف حياته. كان سيندفع الى القبر لو لم يفلح انجلز– الذي حدثني هو بنفسه عن ذلك فيما بعد – في الامساك بيده. وبعد 15 شهرا لحق بها. إثر وفاة انجلز كتب ولهلم ليبكنخت عن العلاقة بين ماركس وانجلز، وجاء في هذه المقالة: "مَن كان فريدريك انجلز ومن لا يزال بالنسبة للحزب – فليس من حاجة للحديث المستفيض عن ذلك، فهو وكارل ماركس يعتبران ذينك الرجلين اللذين تدين لهما البروليتاريا اكثر من غيرهما بين جميع الذين شقوا لها سبلا جديدة وهما الكشافان والرائدان كانا مفكرين وباحثين ومناضلين، لقد رفعا الاشتراكية الى مصاف العلم، وارسياها على الاساس الغرانيتي للوقائع وجعلا الانتصار نتيجة حتمية لمعادلة ذات مقادير ثابتة متينة.
لقد ذُبح الكثير من الحماقات بصدد العلاقات بين ماركس وانجلز – اما ان انجلز وضع نفسه خلف ماركس وانه كان على حياة ماركس يضحيبشخصيته تقريبا، فان ذلك امر صحيح ويعكس بكل سطوع طبع انجلز، ولكنه لا يقلل من اهميته من الناحية العقلية. لقد كان شخصا مغايرا لماركس ولكنه لم يكن ادنى درجة منه، لقد كان كلاهما يوافق الآخر، وكانا يكمل احدهما الآخر وكل واحد منهما كان بحد ذاته مساويا لقدر الآخر، لقد كانا يؤلفان شخصية ثنائية واحدة لم يعرف التاريخ مثيلا لها". "وليس من الصحيح على الاطلاق الاعتقاد بان ماركس كان شخصا منيعا حصينا، بينما كان انجلز اكثر ليونة ومرونة ووسيطا بين الاولمبي المنطوي على نفسه وبين "الجمهور"، في الحقيقة ان انجلز ذا الدماغ النيّر على غرار ليسنغ كان يكتب بصورة مفهومه اكثر من كتابة ماركس – لقد كان ذلك متأصلا في طبعه وفي الاحوال المعيشية التي دفعته، وهو ابن صاحب معمل، الى ميدان النشاط العملي. ولكن ماركس كان شخصا اسهل ولطيف المعاملة مع الناس وكان انجلز اكثر حدة، فقد كان يحدث لديه احيانا شيء ما حازم على الطريقة العسكرية مما يثير الاحتجاج، بينما كان ماركس شديد الجاذبية في معاملة الناس".
وحول اقامة ماركس في الجزائر يكتب ولهلم ليبكنخت وعلى لسان ابنة ماركس ايليونوا يقول: "فيما يخص اقامة المغربي (هكذا كان يلقب ماركس) في مدينة مصطفى (الجزائر) استطيع ان اخبرك فقط بان الطقس هناك كان رديئا جدا، وان المغربي وجد هناك طبيبا حاذقا ولطيفا جدا، وان جميع الناس في الفندق كانوا يلاطفونه ويعاملونه جميل المعاملة".
في ذكريات كتبها حفيد ماركس ادغار لونغه في آذار عام 1949 بمناسبة الذكرى 66 ليوم وفاة كارل ماركس لاجل مجلة الحزب الشيوعي الفرنسي كتب يقول "اذكر باقتضاب بان ماركس ولد في ترير عام 1818 بعد وقت قليل من انتهاء الحاق هذه المدينة بفرنسا وكان والده وهو من اصل يهودي وخلَف سلالة كاملة من الحاخامات قد غير ملته واعتنق البروتستانتية، الامر الذي كان ينبغي له في اعتقاده ان يسهل تعاطيه مهنة المحاماة. في الثامنة عشرة من العمر عقد ماركس خطوبته على جيني فون ويستفالن التي كانت تعتبر "اجمل فتيات ترير". ينبغي علي ان اذكر وبالدرجة الاولى انه اذا كان ماركس رغم العذابات التي قاساها وقتا مديدا من جراء صحته السيئة (مرض الكبد، ونوبات الربو، والدمامل التي كانت تعاوده في احيان كثيرة)، والضائقة المالية، واستطاع انجاز العمل (رأس المال) الذي شرع به فانه مدين بذلك لفريدريك انجلز، "ان صداقة انجلز وماركس تستحق ان تدخل التاريخ على قدم المساواة مع الاسطورة القديمة عن اوريستس وبيلاد".
ويستمر الحفيد ادغار لونغه ويكتب عن صداقة ماركس وانجلز فيقول: "في الواقع ان انجلز كان مضطرا لتمضية القسم الاكبر من حياته في تسيير الشؤون التجارية لشركة والده في مانشستر حيث كانت توجد، وان يتعاطى مهنة كانت عبئا ثقيلا عليه، لقد كان يقوم بذلك لسبب وحيد فقط وهو مساعدة ماركس وتمكينه من انجاز مؤلفه، وما من شك في انه لولا انجلز لمات ماركس وعائلته من الجوع".
ويستمر لونغا الحفيد ويقول: "كما اود قول بضع كلمات عن شخص آخر لعب دورا هاما في حياة عائلة ماركس، عنيت بذلك ايلينا ديموت المجيدة التي كانوا يدعونها في العائلة لينخين، دخلت ايلينا وهي في الثامنة او التاسعة، في خدمة ام جدتي البارونة فون
ويستفالن ولازمت جدتي في كل مكان ابتداء من زواجها وحتى وفاتها: في باريس في بروكسل في لندن وامام عينيها كان الاطفال يولدون ويموتون وعانت مع عائلة ماركس عذابات الفقر والجوع والحرمانات، وكانت تسهر على رعاية الاطفال والاصدقاء والمنفيين المعوزين وتحصل القوت عندما كان كل شيء مودعا في مصرف الرهونات وتقضي الليالي تخيط وتغسل وتجلس الى اسرة المرضى. انني احتفظ لها في قلبي بأكثر الذكريات تأثيرا في النفس. ان هذه الامرأة الرائعة استحقت تماما ان دفنت بالقرب من ماركس وزوجته وحفيدهما هاري في مقبرة هايغيت بلندن". ويستطرد الحفيد ادغار لونغا ويكتب عن بؤس حياة المهاجرين في لندن وخاصة عائلة ماركس فيقول: "والآن اود ان اصف باقتضاب ظروف عيش المهاجرين وعوائلهم الذين وصلوا الى لندن في منتهى الفاقة، وبالنسبة لماركس وعائلته بدأت حياة مليئة بالفقر والآلام والاحزان ويستحيل اعطاء صورة افضل عنها الا بايراد بعض السطور من رسالة ماركس الى انجلز التي يقول فيها ماركس انه لم يكن في طاقته ان يتحمل الليالي الرهيبة التي كانت زوجته تذرف فيها الدموع. وعن هذه المشقات والمصائب تشهد افضل ما تشهد، المقاطع التالية من رسالة جدتي (أي زوجة ماركس). "لقد أعيت زوجي هنا (أي ماركس) اكثر مشاغل الحياة تفاهة.. فبغية انقاذ الجريدة (الرينانية الجديدة) اودع فيها آلاف الجنيهات نقدا.. وأخذ على عاتقه جميع المتاعب.. لقد سافرت الى فرانكفورت لكي ارهن جميع الاشياء الفضية آخر ما تبقى عندنا وفي الرسالة نفسها تقول جدتي (أي زوجة ماركس)، انه "على الرغم من صحتها المتزعزعة قررت بقصد التوفير ارضاع الطفل الرابع من حليبها".
"لم يكن الطفل ينام لا نهارا ولا ليلا، وبدأت تعتريه تشنجات حادة وغالبا ما كان اثناء هذه التشنجات يسبب الالم لوالدته المسكينة (أي لزوجة ماركس) وبدلا من الحليب كان يمتص دمها. وفي اثناء هذه المتاعب بالذات قررت صاحبة البيت التي دفع ماركس لها مؤخرا 250 تاليرا، فسخ عقد الايجار وسرعان ما جاء شرطيان قضائيان وحجزا الاثاث كله. وبقيت جدتي المسكينة (أي زوجة ماركس) بثديها المريض، على ارض عارية مع اطفالها المرتجفين من البرد". ثم تستطرد قائلة في الرسالة: "لا تظن ان هذه العذابات بسبب تفاهات قد حطمت عزيمتي، فأنا اعرف جيدا جدا اننا لسنا على الاطلاق وحيدين في نضالنا وان القدر لا يزال يرأف بي، فأنا انتمي الى سعداء الحظ القليلي العدد لأنه يوجد الى جانبي زوجي العزيز سند حياتي (كلام زوجة ماركس عن ماركس). وان ما يؤلمني فعلا حتى اعماق نفسي وما يعتصر قلبي الما له، هو انه يتوجب على زوجي ان يتحمل هذا القدر من المتاعب التافهة في حين كان يمكن مساعدته بنزر يسير" (يستشهد ادغار لونغه حفيد ماركس هنا مع بعض الانحراف عن الاصل برسالة جيني ماركس أي زوجة ماركس الى يوسف فيديمير بتاريخ 20 ايار عام 1850).
لقد كافح ماركس رغم كل الضنى واجهاد الاعصاب والعوز والفقر والمنفى والحقد الشرس من قبل الاعداء عديمي الضمير، وكم من هؤلاء في كل زمان ومكان، الذين لم يكونوا يتورعون عن أي افتراء، من اجل القيام برسالته الفلسفية الثورية الانسانية وتأليف العديد من الكتب منها"الثامن عشر من برومير" "والسيد فوغت" ومقالاته التي جمعت تحت عنوان "الثورة والثورة المضادة" و"البيان الشيوعي" وكتاب رأس المال، ومن خلال هذه الحياة الغنية بالنضال والكفاح ونشر فلسفته المادية الجدلية التاريخية وضع في عقول وقلوب ملايين العمال والمضطهدين الروح والرسالة الثورية، رسالة بناء مجتمع المستقبل مجتمع حرية الانسان والانسانية – المجتمع الشيوعي.
*المرجع:كارل ماركس وفريدريك انجلز في – ذكريات معاصريهما.