أول وآخر مثلث علاقة ناجح: السادات، الشعراوي، ومصطفى محمود


آلاء أبو ناجي
2018 / 6 / 28 - 15:19     

خلال العقود الثلاثة من القرن العشرين بدأت ظاهرة متكاملة تكتسح الوطن العربي الذي كان يلملم جراحه جراء نكسة 68. وقد كانت هزيمة إنسانية واجتماعية ونفسية أكثر منها هزيمة سياسية. هذه الظاهرة الغير مسبوقة تؤسلم السياسة والعلم.
في أعقاب نكسة 1967 وجد العالم العربي نفسه معزولًا ومتخلفًا عن التقدم العلمي الذي كانت تقطع فيه دول الحرب الباردة أشواطًا كبيرة في وقت قياسي بسبب المنافسة، ونحن نعلم أن لا شيء يحرك المياه الراكدة في الدول سوى الرغبة بالتفوق العسكري. كان هذا التفوق يحز في نفس الشعوب العربية والتي وجدت نفسها معزولة ومتخلفة بعدما كانت تبني آمالا عظام وأمجادا كبيرة في حال الانتصار في حرب يونيه كما كانت تصور النشرات الإخبارية في ذلك الوقت وكان الفخر العربي بجمال عبد الناصر وقدرته على ترهيب الأعداء يبلغ مدى كبيرًا مما أدى إلى خيبة أمل مساوية. كان هذا المناخ مثاليًا لزرع بذرة جديدة في عقل العربي الذي كره كل ما كان يمثله عبدالناصر ، أو على الأقل بدأ يشك فيه. كانت هذه البذرة المستوردة هي الرأسمالية منكهة بنكهة دينية محلية. كانت أمريكا تبرز كقوى عالمية جديدة وكان يجب الابتعاد عن الاتحاد السوفيتي وكل ما يمثله السلف المهزوم عبدالناصر.
وسواء كان ذلك أمرًا خارجيًا لا مفر منه،أو اقتناع شخصي من السادات بصحة أفعاله وإيمانه بوجوب التعلق بذيل أمتن سفينة للنجاة، أدرك السادات أهمية غرس أيدلوجية متكاملة تشمل جوانب مختلفة تتكون من أهم ما يحترمه العقل المصري والعربي ويقدسه: الدين ثم العلم الذي أصبح الشعوب تتباهى به. فيجب أن يظهر رائدًا لحماية التقاليد لكنه منفتح وتقدمي لذا هو يهتم بالعلم، حارسًا للتقاليد ولكن غير منغلق التفكير فهو متفكر مستنير. وجد السادات ضالته في شخص كان يبدي بوضوح عدم موافقته لعبد الناصر وهو الشيخ متولي الشعرواي الذي سجد عقب هزيمة يونيو فرحًا وهو يقول" لو نصرنا ونحن في أحضان الشيوعية، لأصبنا بفتنة في ديننا، فربنا نزهنا."* كما عينه وزيرًا للأوقاف لمدة عامين.
أما بخصوص العلم، والعرب كحكومات وشعوب يكنون احترامًا ما للعلم والطب –مقارنة بعدم احترام العلوم الاجتماعية والفنون - وإن كانوا لا يجيدون رعايته وتشجيعه، فلم يكن هناك أفضل من مصطفى محمود الذي لم يكن طبيبًا فحسب بل مفكرًا دينيًا أيضا. وكان هذا ضروريًا لتكوين أيدلوجية رأسمالية دينية مدعومة من المثقفين وطلبة الجامعات. ففي احتلال التقدم التكنولوجي والعلمي لواجهة الأخبار الناتجة عن المناكفة العلمية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي ، كان لابد من ظهور "ند" علمي إسلامي يؤكد للجموع العربية الشاعرة بالهزيمة والإهمال بعد أن كانت تظن نفسها في ركب تطور مفترض صوره عبدالناصر على شكل إصلاحات زراعية وبناء سدود و التعاون في مجال الطاقة النووية ، وجدت نفسها بعيدة عن هذا التطور مما ولد لديها فراغًا ملأه مصطفى محمود من خلال برنامجه " العلم والإيمان" وطمأن النفوس المهزومة القلقة بأن القرآن يحوي من المعجزات العلمية الشيء الكثير والذي عرفته العرب قبل أن يكتشفها الغرب في القرن العشرين. وقد استطاع بشكل منقطع النظير إقناع الشعوب المنسحقة بالهوان السياسي والاقتصادي، بأن الدين والعلم لا فصل بينهما مثلما ربط السياسية بالدين بتسمية نفسه "الرئيس المؤمن" كما ذكرنا سابقًا. وكان ما فعله مصطفى محمود- وأظن أن أحدًا لم يسبقه بمثل شهرته- مؤثرًا كبيرًا في الثقافة العربية حتى يومنا هذا فمازال هناك أشخاص يخرجون مدعين أنهم وجدوا علاجًا أو معجزة علمية في القرآن والسنة كما أنه تقام الكثير من دورات الإعجاز العلمي المدفوعة والتي نجح الكثيرون في التكسب منها في مختلف أقطار العالم العربي.
إن الانقلاب الفكري والنفسي الكبير الذي بدأ في السبعينيات لم يكن ثمرة ديكتاتورية سلطوية لفرض عادات واتجاهات فكرية بعينها. بل تم من خلال تضافر وتعاون بين الثلاث قوائم التي ذكرناها والتي يحترمها الشعب العربي بشكل عام والشعب المصري بصفة خاصة.
فالدين له سطوته وقدسيته التي لا تسمح بالجدال حتى عندما يتدخل في السياسة، و خصوصًا حين يكون هناك إرهاب نفسي وخوف من الاتهام بالشيوعية والاشتراكية ، وهما صفتان أصبحتا بفضل اجتهاد قوات الأمن والمنابر الإعلامية المحترفة مرتبطتا بالإلحاد والمؤامرة على الوطن، وكانتا تهممتين جاهزتين لكل من سول لنفسه معاداة السادات.
القائمة الثانية هي قائمة السياسة والاتباع الفوري لأوامر القائد. فمن طبيعة الإنسان اتباع قائده حتى يبدر عنه مخالفة و شذوذ واضح. وقد أكد الدين والشعراوي فطرة الطاعة بشعارات معروفة مثل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولم يخرق السادات المشاعر الدينية وبقايا مشاعر العروبة إلا من خلال اتفاقية السلام كامب ديفيد ، وهو الفعل الوحيد للسادات الذي أدى إلى موجات غضب هائلة في جميع الوطن العربي.
أما القائمة الثالثة وهي قائمة كانت حديثة وشديدة الأهمية لأنها كانت تعمل كختم لصلاحية ما يفعله السادات وما يقوله الشعرواي ، فقد وافق الأطباء والعلماء مصطفى محمود فيما يقول ولم يجرؤ أحد على الاعتراض على استنتاجات تأملاته العلمية. وإلى الآن فكتب مصطفى محمود وإشاعة إلحاده لهما أثر كبير في نفسية الإنسان العربي رغم أن كتبه لم تعد تلق رواجًا في صفوف المثقفين الآن بل أصبح معظم قارئية من عامة الشعب والفقراء وذلك لسببين بسيطين وهما التطور العلمي الكبير بعد وفاته وبسبب أن كتبه أصبحت تباع بالملاليم في بسطات الشارع، وعندما يكسب المرء عامة الشعب فقد كسب عموم الشعب ومن هنا تكمن خطورة فكر مصطفى محمود.

هؤلاء هم الفرسان الثلاثة الذين نجحوا بسبب شد عضدهم لبعض حتى آخر لحظة من وفاتهم، وقد أردنا إلقاء نظرة عامة توضح الصورة الكبرى عن الكيفية التي تم بها تغييب وتغيير أيدلوجية إنساننا العربي الحديث.