الصادق المهدى وإعادة ترتيب البيت في المركز


محمود محمد ياسين
2018 / 6 / 11 - 21:20     

إن تحركات السيد الصادق المهدى السياسية في الآونة الأخيرة لا تعدو أن ـتكون جزءا من محاولاته المحمومة
لإيجاد طريقة لتكريس التوجهات التي يتسم بها حكم السودان خلال العقود الستة الماضية بصرف النظر عن عن شكل وإدارة الحكم؛ يفعل المهدى هذا كلما بدا جليا أن حكم الإنقاذ الفاسد ما عاد يمنح الصيغة الموائمة للحفاظ على تلك التوجهات. فحكم الإنقاذ المتمادى في بلطجته (thuggery) صار أضعف من حماية الأنساق السياسية المعبرة عن علاقات اقتصادية معادية للشعب؛ وهى الحماية التي ظلت تتبناها الحكومات المتعاقبة الواحدة تلو الأخرى إبان فترة ما بعد تحرر البلاد من السيطرة الاستعمارية المباشرة. وهكذا أصبحت الحاجة الآن ملحة من وجهة نظر الطبقة السائدة (التعبير الدارج يسميها "الدولة العميقة") لإعادة ترتيب المركز بالصورة التي تمكنه من إدامة الوضع الراهن (status que) بتعزيز التبعية ومناهضة التوجهات السياسية ذات الصبغة الوطنية-الديمقراطية وتحجيم الحركة النقابية، الخ.

كشف المهدى، خلال اجتماعات ما يسمى ب "نداء السودان" في الفترة 23-28 مايو 2018 في باريس 2018، وفى حواراته الصحفية ومقالاته الأخيرة عن تصوره للماهية التي يجب أن تكون عليها معارضة حكم الإنقاذ؛ ويمكن تلخيص رؤيته في أربعة نقاط والتعليق عليها بإيجاز:

أولا، يريد المهدى معارضة لا تضم في صفوفها اليساريين ففي مقالته (الماركسية قراءة جديد) قدم تحليلاً أراد منه القول بموت الماركسية وإفتقادها للصلاحية والتسليم المطلق بأن النظام الرأسمالى هو الأمثل؛ وتحليله كان بدائيا لأنه إعتمد على مقولة لماركس لم يورد مصدرها وقال بأنه سمع بها سمعا، هذا بالإضافة إلى إفتقاده للفهم الصحيح للأسس الفلسفية للماركسية ونظرتها للتغيير.

ومما يجدر ذكره أن المهدى في إشارة منه لما ينفع السودان أبدى قناعة بأن السياسة الاقتصادية للدولة المهدية (1885-99) “ثورية وتقدمية" مستندا، كما قال، على رأى بعض الماركسيين السودانيين حول هذه المسألة؛ وإحالته، ليدعم حججه، لأفكار أولئك البعض من الماركسيين تشئ بأنه يفكر بمنطق " بالنسبة للفار لا يوجد شيء في الدنيا أقوى من القط". فهذه القناعة تنافى القراءة الواقعية "الصحيحة" للتاريخ التي تضع نظام المهدية كحقبة اجتماعية اقتصادية تسودها علاقات الإنتاج الإقطاعية والعبودية وأي محاولة لإعطاء وصف آخر للمهدية هي محاولة غير صحيحة من نسج الخيال. المهدية لا تفهم إلا بالنظر لحالة الوضع العالمى آنذاك حيث كان النظام الرأسمالى متقدما ومتمددا في شكل الإمبريالية النازعة للهيمنة على العالم منذ نهايات القرن التاسع عشر. والرأسمالية كانت (وما زالت) تمثل النظام الاجتماعي-الاقتصادي الأعلى تقدما على كل الدول والكيانات السياسية ذات الأنظمة الاقتصادية الما قبل الرأسمالية. كما أن قادة الثورة المهدية كانوا أبناء زمانهم لا مقدرة لهم على تخطى واقعهم الذى استلهموا منه افكارهم ولم يكن في وسعهم أن يمدوا بصرهم إلى ابعد من عالمهم المحلى المعاصر.

ثانياً، عزل الحركات التي تنازل النظام عسكرياً. لكن المشكلة مع تلك الحركات ليس لأنها تسلك طريق العمل المسلح لمواجهة العنف الذى تمارسه السلطة الحاكمة (وهو العنف الذى، للمفارقة، أسس له المهدى بمليشيات المراحيل خلال الفترة 1986-89)، بل لأنها تفتقد للبرامج السياسية الصحيحة وانغلاقها في حيز سياسات الهوية وتلاعبها بشعار تقرير المصير؛ وحتى العمل المسلح لم ينجو من فقر السياسة التي توجهه متحولاً أحياناً إلى عنف عرقى همجى.

ثالثاً، الدعوة لمعارضة تسعى للتحاور مع النظام بحيث تدفع به إلى إبرام إتفاقية لتحقيق الأهداف الوطنية المدنية!! لكن فئات الشعب المختلفة تريد ذهاب النظام ولا ترى جدوى من وراء الحوار معه؛ وهذا يفسر عدم إهتمامها ب "نداء السودان". إن هدف المهدى من وراء "نداء السودان" يتلخص فقط في دفع الحركات المسلحة التي تسبب الخطر الأعظم لحكم الإنقاذ إلى قبول مبدأ الحوار، ولكنه لم يحرز أي تقدم فى هذا الأمر إذ أن المعارضين الذين إنضموا اليه فقدوا مواقعهم في تلك الحركات.

رابعاً، والأخطر رهن إنتصار المعارضة بإسناد مصيرها للدول العظمى التي ذكر أنه يطمح في أن تعقد أطرافها مؤتمرا يسمى (مؤتمر دعم السلام العادل الشامل و الإستقرار الديمقراطي في السودان). فالمهدى يريد من الأسرة الدولية، كما قال” أن لا تطبع مع هذا النظام و لا ترفع عنه الدين وتربط ذلك بالتحول الديمقراطي الكامل الشامل “ويواصل قائلا إن المجتمع الدولي إذا فعل هذا فسيكون بمثابة تحرير للوطن يُمكِّن أبناءه من الالتفات لبنائه” من كل النواحي، .... سياسات بديلة في الإقتصاد والتعليم والصحة والعلاقات الخارجية“. بالطبع هذا الراى يعكس سذاجة منقطعة النظير وكأن صائغه لم يسمع ب "التبعية" التي تمارس عبرها الدول الكبرى، سياسيا وعسكريا وثقافياً، خدمة مصالحها الاقتصادية. لكن الطرح الصحيح هو تأكيد أن مواجهة الأزمة السودانية تتم بالاعتماد على الذات وليس على المحاور الخارجية.

وبعد، نقول إن التغيير المنشود هو سياسى يتطلع إلى تحرير القرار السيادى من الخضوع للشروط التي تفرضها التبعية وضمان حركة نقابية مستقلة وتحقيق مشاركة فقراء واجراء الأرياف والمدن في العملية السياسية؛ فهو التغيير السياسى الذى يضمن تحقيق النمو الإقتصادى الشرط الازم لإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية البالية السائدة وتطوير الخدمات الصحية والتعليم وتحقييق مجانيتها للجميع. هذا هو التغيير في أفقه الاستراتيجي. والتكتيك يفرض على أن يواكب النشاط المعادى لنظام الإنقاذ بما فيه الدعوة لإسقاطه التركيز على ما يمكن إنجازه في هذه المرحلة وما يخدم الإستراتيجية.
والتغيير بأفقه السابق ذكره هو ما ظلت تمنع تحقيقه القوى التقليدية المهيمنة على الدولة منذ استقلال البلاد في 1956 عبر الديمقراطية الليبرالية الشكلية أو الحكم العسكرى. ومن تجربتنا الوطنية فإن الثورة المضادة التي سحقت انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل1985 لا يمكن التعبير عنها بالتجريد، بل بالتعبير الحسى الذى يراها في الواقع متجسدة في الحزبين الطائفيين والحركة الإسلامية. وعرضاً، عندما نبحث عن أمارات التخلف في السودان، فنجد كأمثلة تشي بهذا التخلف:
- فيما يتعلق بالعمل السياسى وجود أحزاب قائمة على مرجعية دينية تدعو لتطبيق قواعد ترجع لأربعة عشر قرن ماضية وأخرى مؤسسة على أسس طائفية.
- على صعيد الاقتصاد وضع الدولة كدولة زراعية، يوجد فيها مواطنون يعيشون في مرحلة تاريخية موغلة في القدم وسيلة كسب العيش فيها هي الرعى المترحل.
- بالنسبة للوضع الاجتماعي سيادة الدجل والخرافة.
الخلاصة هي أن السير على الطريق الصحيح في اتجاه انتشال السودان من أرزائه هو عدم التعويل على التحالفات السياسية مع القوى التقليدية؛ فهذه التحالفات هي دعوة صريحة للتاريخ لكى يعيد نفسه، مرة أخرى، مأساة.