برتراند راسل وماوراء المعنى والحقيقة


عبدالرحمن مصطفى
2018 / 6 / 8 - 20:33     

المنطق تمتد جذوره الى ماقبل ارسطو طاليس وتحديدا عند الفيثاغوريين الذين عارضوا فكرة الايليين في نظرتهم للكون كشيء واحد ورفضوا وجود الحركة والزمان والتغير واعتبروا ان ان الحركة وانقسام المكان شيء زائف ويلزم الدخول بالتناقضات (ولن استعرض حجج زينون هنا..) وكان مفهوم وحدة الوجود (الروحية) عند الايليين يلوح بالأفق بعد ان كان المفهوم محصورا بوحدة الوجود المادية (الطبيعيين طاليس وديمقريطس و..الخ) ..على العموم..ظهر الفيثاغوريين وقالوا ان اصل العالم هو العدد وان المركبات هي نتائج للبسائط وافضل الاعداد هو العدد واحد وهو اصل كل الاعداد اي العدد واحد هو الله وكل الموجودات منه(وهكذا قالوا بالتغير..) ثم ظهر سقراط وقال ان هناك معرفة كلية (وهنا اول ظهور الأسماء الكلية والتقسيم الطبيعي للموجودات ..) وأكمل من بعده تلميذه افلاطون واخذ بفكرة الحدود (الأسماء الكلية) واعتمد بضع مسلمات ليبني عليها نظريات وقسم المعرفة 3 صنوف (الأول المعرفة الحسية وهي ليست اكيد بل يشوبها الخطأ والثاني المعرفة الخيالية وهي لاتعتمد على ملاحظة المحسوس والثالث العقلية وهي اليقينية ..) ..ثم جاء ارسطو واعتمد على من سبقوه فقسم الموجودات الى اصناف واسس المنطق على هذا التقسيم (فبدلا من ان يبدأ بالعلاقات بين الموجودات اخذ بهذه الموجودات نفسها) فمثلا لدينا متغيران أ وب ارسطو بدأ بهذه المتغيرات واعتبر هذه المتغيرات موجودات واقعية رغم ان المتغير يختلف من وضع الى اخر وهنا بدأ بمنطق الفئات بدلا من منطق العلاقات فقسم الموجودات الى عدة اقسام كل قسم يشمل اخر حتى نصل الى قسم غير مشمول من اعلى وقسم مشمول وغير شامل من الادنى (مثلا الجوهر اعلى قسم شمولا ثم الجسم ..الحيوان والنبات..الانسان الادنى شمولا او غيره من انواع الحيوان الأخرى) وهكذا بدأ بمنطق الفئات ف أ عضو في فئة ب مثلا وهكذا ...رغم ان المنطق في اساسه وهذا هو تعريفه هو البحث في صورة الفكر اي البحث في العلاقات التي يستخدمها العقل البشري للربط بين القضايا (التساوي ..وعلاقة التماثل ..الخ) وهي صور العقل او الفكر اما مادة الفكر فهي الموضوعات الطبيعية والاجتماعية (الظواهر الخارجية..) او بتعبير اخر الموضوع هو الموضوعات الطبيعية (دراسة الطبيعة والاجتماع ووالخ) والادوات التي نستخدمها هي الصورة..طبعا ظهر الرواقيين الذين اعترضوا على فكرة المفاهيم الأرسطية فاعتبروا ان الاسماء الكلية ليست هي شاملة للأسماء الجزئية ثم الميغاريين وهم من اتباع سقراط الذين رفضوا فكرة شمول المفهوم للماصدق او الجزء فزيد ليس جزء من مفهوم انسان وكذا علي لأن على وزيد يختلف كل منهما عن الاخر (وهنا كأنهم اخذوا بفكرة اصالة الوجود تماما مثل الفلسفة الوجودية فيما بعد) ..,وفي هذا الموضوع استعراض لمنطق راسل من كتابه ماوراء المعنى والحقيقة ..

يبدأ راسل مباحثه بالتعريف بالكلمات (وتبيان علاقتها بالتصور او ادراك الفكرة فقط) ومبحث التصور هو المبحث الذي يبتدأ فيه المناطقة (حتى في المنطق القديم) ..والكلمة قد تكون معبرة عن شيء او اسم لشيء او كلمة منطقية مثل كلمة او نفسها والمبحث يبدأ بالتعريف بكلمات الأشياء (التي تماثل التصور في المنطق القديم) و اسماء الأشياء التي نشير بها على الواقع او الأشياء الواقعية نحو (اسد طائر فرس شجرة الخ) والكلمات تستخدم للوصف او التعبير عن حالة ويقول راسل ان الإنسان في بداية حياته يتعامل مع كلمات الأشياء او بداية تكون اللغة عنده (لأن كلمات الأشياء تعبر عن حالته) فاقتران حدث او شيء معين بكلمة معينة سيولد لدى الإنسان ربط بين الكلمة والشيء او الحدث فعندما يلاقي الحدث او الشيء المحدد سينطق بالكلمة اللازمة والتي ارتبطت (ادراكيا مع الشيء او الحدث) والكلمات بهذا المعنى لا تختلف عن التصورات في المنطق القديم حيث تستخدم للوصف او التعبير عن حالة حيث اننا نصف الأشياء الخارجية ونعبر عن حالات ادراكنا مثل (شعور الإنسان بالخوف او الجوع ..) والوصف يسبق الحكم (حيث ان الوصف انعكاس مباشر للشيء او المدرك على الذات) ولايختلف ماقرره راسل في مبحث الكلمات عن المبحث القديم إلا في اعتبار راسل ان الكلمات تعبر عن اشياء جزئية ولاوجود للإسماء الكلية حيث اننا عندما نلحظ شيئا نعبر ونعبر عنه فهذه كلمات الأشياء اما الأسماء الكلية (انسان طائر والخ) لاوجود لها واذا عبرنا عن الشيء ب انسان ورأينا انسانا اخرا فيما بعد وعبرنا مرة اخرى بإنسان فكلمة انسان الثانية تختلف عن الأولى لأن كلمات الأشياء لاتكون الا للإشارة الى اشياء واقعية ..والكلمات (الذرية او كلمات الأشياء ) اذا ضممنا بعضها الى بعض سنكون جملة ذرية او شيئية وهنا يفرق راسل اولا بين الجمل النحوية والجمل الذرية فالجمل النحوية تهتم بالجانب الزماني للخبر بينما الجملة المنطقية تهتم بجانب الحدث فقط فلا نقول خرجت من المنزل فوجدت السماء ممطرة (في الجملة المنطقية) بل عندما خرجت من المنزل وجدت السماء ممطرة فالجملة المنطقية تتجنب الصيغة الزمانية للتعبير لأنها منعكسة مباشرة من الحدث فهي تختص اولا بالحدث قبل ان تختص بالمعبر او الذات المعبرة والجمل تنقسم كما الكلمات الى جمل ذرية او اولية وجمل منطقية او ثانوية والاولى مثل أ يسبق ب او أ اكبر من ب والثانية مثل الطريق الفلاني اما من الاتجاه أ او الإتجاه ب (حيث تستخدم كلمات منطقية مثل او واما) فالجمل الأولية تصورية والثانوية جكمية .وبخصوص الجمل الأولية فالعلاقات فيما بينها هي العلاقات غير التناظرية مثل يسبق واكبر واسرع الخ (التناظرية مثل يساوي.. نقيض ..) ..وهنا يختلف راسل عن المنطق الأرسطي القديم حيث القضايا في المنطق الأرسطي القديم تعبر عن اشياء كلية (فالمنطق الأرسطي يستخدم ادوات من قبيل كل وبعض وهذه تعبر عن اشياء كلية سواء قلنا كل صقر طائر او بعض الصقور بيضاء) فميزة منطق راسل او المنطق الحديث بكل عام انه ادخل القضايا الذرية او الشيئية (المعبرة عن حدث معين في زمكان معين) والتي اهملها ارسطو واعتبرها حالات ذاتية لاتمت للمنطق بصلة وقد كان من نقود كانط على المنطق الأرسطي انه ادخل في مقولاته امور تعبر عن الواقع او الخارج لكن في منطق راسل من المهم ان تستمد العلاقات من الواقع والخارج فليس المنطق علاقات ذهنية فقط ..
الكلمات المنطقية ..
يعادل مبحث الكلمات المنطقية والجمل الثانوية مبحث الحكم في المنطق القديم ؛فالكلمات المنطقية لاتعبر عن اشياء بالخارج وانما تعبر عن حالات للمتكلم نفسه فكلمة او مثلا لاتوجد بالخارج وانما هي كلمة معبرة عن ذات المتكلم وهي تختص بحالة التردد التي تنتاب المعبر فليست معبرة عن شيء بالخارج مثل كلمات الأشياء وعلى هذا فلا يمكن ان توجد الكلمة المنطقية بمفردها ككلمات الأشياء وانما تستخدم للربط ..والأمر نفسه ينطبق على كلمة ليس فليس هناك سلب بالخارج (ولاحتى ايجاب فهذه احكام خاصة بنا نحن) وعلى هذا فالسلب معبر عن حالة لنا من قبيل ليس هذا الشيء ما اريد فهناك فكرة سابقة لدي في ذهني وعلى اساسها نحكم وعلى هذا يكون المنهج العلمي فلا يمكن للمنهج العلمي ان يكون واقعيا ساذجا فهناك دائما فكرة والواقع لايكشف اي شيء ان لم تكن هناك ذات واعية مدركة (فالواقع كل هلامي والأفكار تفصله و تجزؤه) لكن لايعني هذا ان الأفكار تتحكم في تفسير الواقع وانما تنجح في وصف الواقع بنطاق زماني مكاني معين وتختبر صحتها انطلاقا من هذا النطاق المحدد (وفي حدود الغايات التي نطمح لها) فالإدراك الحسي قد يتعامل مع اشياء كثيرة جدا لكن ما يدخل حيز الوعي هو شيء محدود وكذلك في التجربة يقتطع ما نريده منها فقط ..واما ماتثيره الكلمات في وعينا فقد تثار الكلمة او يرد ذكرها عندما تناظر ما يقابلها في عالم الأشياء وطبعا ليس هذا ما يحدث دائما فقد يرتبط الحدث بأكثر من كلمة او فكرة لذا فالكلمة الذرية (وهذا المصطلح يطلقه راسل عل الأشياء التي نلحظها في زمكان محدد) هي المعبرة عن شيء معين وينطبق عليها الحكم فلو فرضنا اننا لاحظنا طائرا معينا واكدنا وقلنا طائر فهذه الكلم ينطبق عليها الحكم لأنها تأكيد اما اذا تذكرنا شعرا معينا او حدث ماضوي معين وقلنا عندها طائر فهذه ليست حكما او تأكيدا وكذلك كلمات الأشياء قد تستخدم للنداء مثل قولنا علي فهي قد يفهم منها انها نداء او قد تكون تعبير عن رؤيتنا او احساسنا الإدراكي بوجود علي والكلمات التي يمكن ان نحكم عليها هي الكلمات التأكيدية (وهذه التفرقة مهمة لإنها تبعدنا عن مقاصد النحو واللغويات حيث المنطق يهتم في الكلمات من جانب علاقتها بالإدراك والحكم فقط ولا علاقة له بالكلمات نفسها) ..وهنا ينتقل راسل الى تراتب اللغات فهناك لغة اولية وهي التي نستخدم فيها كلمات الأشياء (بصيغتها التأكيدية) مع وكما ان الكلمات تنقسم الى ذرية ومنطقية فكذلك العلاقات (ويعترف راسل بوجود علاقات ينطبق عليها الإسم الكلي في نهاية الكتاب فيرى انه لامفر من الإعتراف بهذا...) والعلاقات الأولية من قبيل العلاقات غير التناظرية يسبق اكبر اسرع الخ والعلاقات الثانوية او ليس كل بعض ..الخ فهذه تعبر عن اشياء بالخارج ف أ يسبق ب توجد بالخارج فعلا وليس لدينا فكرة سابقة عن هذا وقد يقال ان السبق والعظم هي تعبيرات ذهنية تختص بنا وقد يبدو هذا صحيحا لكن في الواقع الزمكاني هناك سبق ولحوق وكبر وصغر مقابل لتعبيراتنا) ..فهنا اللغات الأولية تختص باسماء الاشياء والعلاقات غير التناظرية واللغة الاولية ليس فيها حكما وانما تصور وادراك فقط واللغة الثانوية نستخدم فيها كلمات منطقية من قبيل كل وبعض وصادق وكاذب وايضا ليس و او (ولكلمة او نظير لها في المنطق القديم يقابل القضية الإنفصالية الشرطية ..) وهكذا فهناك لغات كل لغة تحتوي سابقتها وتحكم عليها ..وعن اسماء العلم واسماء الإشارة يتبنى راسل نظرية وهي اعطاء كل حدث في مكان وزمان محدد اسم معين فاللون الأصفر ان شاهدناه مرتين مثلا سنعطي اسم علم يتفق مع كل حالة ولن ينطبق على الحالتين اصفر ورغم صعوبة هذا واعتراف راسل بصعوبته لأن اسل يربط مثلا بين درجات اللون واعطاء كل درجة اسم محدد فيعب علينا الإستناد الى تفريق كيفي بين الألوان لذا فستكون هناك اسماء لانهاية لها اذا قصرنا اعتمادنا على العلاقات الزمانية المكانية للإحساس ..واسماء الإشارة يقول ان جميع اسماء الاشارة انا ..انت ..هو (يقول ان هذه الاسماء للاشارة) ويمكن ان تنضوي تحت كلمة هذا فقط فراسل هنا يريد استخدام التعبير الوصفي الموضوعي حتى على حالات الإداراك (وإلغاء اي الذاتية) وهو يرى انه يمكن التوفيق بين استخدام اسماء الإشارة ونظريته الجديدة في الاسماء حيث ان بدلا من هذا نستخدم الأسماء التي نضعها للتعبير عن الحالات الخارجية ..