الوندي رحل؟ لا، لم يرحل فإنّه حاضر بيننا


حميد كشكولي
2018 / 4 / 29 - 13:01     

ليس هُناك أشد قسوةً وألماً علينا مِن أن نسمع نبأ وفاةِ صديقٍ كان أقربُ مِن أخٍ إلينا. خاصةً إذا ما كان الصديق وفياً صادقَ الوعدِ لهذهِ الصداقة لآخرِ لحظةٍ قَبل أن يفاجئنا بمغادرته لنا وتركنا مصدومين من هول المصيبة. على الرّغمِ مِن أنّ الموت حقٌ على كُلِ إنسان، إلا أنّهُ الأقسى والأصعب والأفجَع على النفسِ، ولا يبقى لنا سوى تذكُر الذكريات التي كانت تجمعنا معهُم وتقييم أعمالهم في الحياة.
عندما أبلغني صديقي كفاح الزهاوي بخبر رحيل صديقي لم أرد مثل الكثيرين من أبناء مدينتي أن اصدق ذلك.
قلت ربما هناك خطأ .
قبل 25 عاما دعيتُ إلى حضور مؤتمر تأسيسي لجمعية حقوق الإنسان العراقي في مالمو. ولا أريد هنا الحديث عن المؤتمر لأنني لا أتذكر منه شيئا وكان حدثا عابرا لم أتابعه ونسيته حال خروجي من القاعة. أثناء الاستراحة لمحت شابا نحيفا يدخن جلبت ملامح وجهه انتباهي وأثارت لدي الفضول عكس ما تعودت عليه للتعرف عليه وخاصة بعد أن سمعت من أحد الحاضرين يناديه بدانا.
قلت له حضرتك لا تعيش في مالمو فأجابني بالنفي و قال إنني من ستوكهولم. وقال من لكنتك يتبين أنك من خانقين. فأجبته: نعم من خانقين. وهل لك أخ يدعى دارا. قال: نعم، كيف عرفت.
قلت: سيأتيك الخبر، اصبر. إذن، كنا معاً ندرس في مدرسة النعمان الابتدائية حتى الصف الرابع و بعده انتقلتم إلى بغداد أو شهربان.
تعجب من كلامي قائلا: أية ذاكرة عظيمة لديك.
قلت ذاكرتي للأحداث البعيدة قوية ونشطة للغاية لكنها كسلانة في تسجيل الوقائع الآنية.
تذكرت جده المفتي و روحية السماح الكبيرة التي كان يحظى بها و نبذه للطائفية ومحاربته للعصبيات بكل أنواعها وبلا هوادة. كان مفتي خانقين الكبير يحضر كعادته مجالس الفاتحة على الشهيد الحسين ويزور المرجع الشيعي للمدينة المرحوم محمد شبر وقبله والده إبراهيم شبر وكان صديقا لصابئة المدينة و مسيحييها.
نقل لي أحد رواد الحسينية أن المرحوم والدي الذي كان يقيم الصلاة بدون أن يجيدها وفي المناسبات ، قال مرة في الحسينية للمرحوم المفتي جد الحاضر دائما بيننا دانا بمزاح: يا ماموستا ، أراك خطرا على الشيعة. فيسأل المفتي: كيف؟
يرد والدي: إن طيبتك ستجعلنا يوماً ما أن نغيّر ديننا إلى الدين السنّي.
منذ لقاء مالمو استمر التواصل بيننا ولو بشكل متواتر و كنا نناقش كل القضايا القومية والأممية و الخانقينية. كنا نتفق على بعضها و نختلف على أخرى. لكننا كنا متفائلين كل منا لديه أسبابه. ويوما بعد آخر ، مخابرة بعد أخرى كنت أقترب أكثر من قلبه وروحه. أصبحت أخشى أن رومنسيته المفرطة في تناوله قضايا السياسة تنهكه و ربما ستودي بحياته.
لقد كان صديقي دانا امتداداً وفياً لجده المربي لعائلة كريمة وفاضلة أنجبت رموزا سياسية و ثقافية وعلمية من قبيل المؤرخ الكبير كمال مظهر و عزالدين رسول. يتضامن مع كل المظلومين و المضطهدين في العالم و يكافح من أجل ترسيخ العلاقات الإنسانية و التضامن بين الشعوب.
مرت قضايا حساسة علينا وأدلى كل مهتم بدلوه فيها. و كان للراحل الكبير السبق و المبادرة وكان يأخذ آرائي على محمل الجد ويفكر فيها بعمق. في قضية كركوك اختلفنا في البداية إذ كان رأيي أن حلها غير ممكن بالتعصب و التشنج والغطرسة القومية وأن أهلها من ساكنيها بمختلف مشاربهم ومللهم ونحلهم هم الجديرون بإيجاد الحلول لمشاكلهم و هم من يقررون باي كيان أو جهة يرتبطون. وأكدت أن أهاليها يعيشون في وئام و محبة و ليست هناك من مشكلة قومية أو طائفية تفرق بينهم. فهذه المشاكل بالنسبة للمواطن العادي مصطنعة و تدخل ضمن المنافسات بين السياسيين. وإنني أرى أن هذه المشكلة مصطنعة وأصبحت سلعة سياسية بيد القادة المحليين والقوى المتنفذة الإقليمية و العالمية . و ليس أمام السياسي الكردي إلا أن يسعى للسطو على قلوب أهالي كركوك لا أرضها أو نفطها.

نعم ، كان دانا مخلصا لقضية عفرين وقنديل. لقد تماهى مع قنديل و ذاب فيه. وإنني تضامنت مع عفرين من منطلق إنساني وقد نثرت على قنديل نفحات من روحي أيام الكفاح في أنصار الحزب الشيوعي العراقي.
حين قلت لدانا ليت الكرد كانوا أبطالاً في السياسة مثلما كانوا فرسانا في القتال، قال لي صدقت يا توأم الروح. إننا نعاني تاريخيا من ضيق الأفق السياسي. واستأنفت قولي، إن الانهيارات الكردية كلها سياسية في البداية فتتبعها الانهيارات الأخرى من عسكرية و اجتماعية وغيرها.
كان الراحل عاشقا للوند لدرجة العبادة و يحبّ قصيدتي التي قدمت بها نفسي في ديواني الأول:



نسبي ربما يصل إلى قصبة محترقة في الأهوار،
إلى سمكة سمراء في بحر "قزوين"
إلى ذرات غبار تصعد من تحت سنابك خيول المغول،
إلى صخرة دامية في ذروة "قنديل".
حين ولدت كان " الوند" يجري دما،
ونخيل أهلي كادت أن تموت من العطش،
والسمك أخرجت رؤوسها تتطلع إلى الله،
وترثي بشرا دخلوا في دين جديد ،
غدا التبول في أصص الورود ،
وأضحى النواح على قتلاهم شعيرة في طقوسهم.
اصبحت مؤمنا بالثالوث،
وكنت أصلي ،
باسم الريح القدس،
والورد ،
و الماء ، آمين.
و تشيّعت بوذياً،
رأس شهيدي ينثر فضةَ الحزن على سطوح منازلنا،
لكي نبكي.