في ذكرى مرور 200 سنة على ولادة كارل ماركس


عبد السلام أديب
2018 / 4 / 20 - 01:34     

بعد بضعة أيام أي في 5 مايو 2018 ستحل علينا ذكرى انصرام 200 سنة على ولادة العبقري كارل ماركس بمدينة تريف بألمانيا، إنه الفيلسوف الذي ترك أكبر الأثر على التاريخ الحديث أكثر مما فعل أي فيلسوف آخر. وعلى عكس النظرة الأحادية التي ترى أن الكائن الإنساني يتحدد من خلال وعيه، فإن كارل ماركس، أكد على أن الوعي هو الذي يتحدد من خلال واقع الكائن الإنساني وليس العكس. كما لاحظ ماركس أن الديالكتيك الذي اقترحه هيغل يفهم العالم بشكل مقلوب، لذلك أعاد كارل ماركس المنهج الديالكتيكي الى وضعه الصحيح بعد تركيزه على أسس صلبة من المادية العلمية. كما وضع ماركس مسافة بينه وبين باقي الفلاسفة بسبب انفصالهم الغامض عن الواقع أثناء تفسيرهم للعالم، حيث رأى أن العالم لم يعد بحاجة إلى مزيد من الفلاسفة لتفسيره، وإنما في حاجة الى أناس يعملون على تغييره.

من الصعب تلخيص فكر انسان له فكر متعدد المشارب والواجهات مثل كارل ماركس بمناسبة مرور قرنين على ولادته. فمساهمات ماركس تركت آثارا عميقة في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والتاريخ والسوسيولوجيا وحتى في مجال العلوم. ففي مجال التاريخ، طبق منهجه المادي الديالكتيكي على التاريخ ودعى الى اعتبار مجمل التاريخ المعروف كتاريخ للإنتاج في المقام الأول، ثم كتاريخ للصراع بين الطبقات من أجل إقامة أنظمة خاصة للإنتاج والتوزيع والتبادل، حيث يتم ذلك من أجل السيطرة على أكبر حصة من الإنتاج لفائدة الطبقات الحاكمة على حساب الطبقات المحكومة. وانطلاقا من هنا غير كارل ماركس فهم الانسان لتاريخ الكائن الانساني، كما اعتبر تاريخ الملوك والحروب على أنه تاريخ الصراع بين الطبقات.

في مجال الاقتصاد، ورغم مرور الزمن ظل تحليل كارل ماركس لرأس المال يحتفظ براهنيته، فليس غريبا اليوم أيضا، حتى في ظل الهيمنة الامبريالية، أن نلاحظ أن البنك الدولي يقدم في غالب الأحيان تقاريره الدورية بمقولات لكارل ماركس. وقد يهاجم اليوم بعض الاقتصاديين أطروحات ماركس الاقتصادية، كما قد يمجدها البعض الآخر، لكن من المستحيل على أي أحدا أن يتجاهلها. لقد أنقد كارل ماركس نظرية القيمة من محاولات الاقتصاديين الليبراليين اسناد نظرية القيمة، في نفس الوقت إلى عمل العمال والى "التضحيات" التي يبدلها الرأسماليون، حيث ميز كارل ماركس بين العمل وقوة العمل، وبين بأن أجر العامل ليس ثمن عمله، وانما ثمن قوة عمله. كما أن تمييز ماركس بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية للسلعة، فتحت الأذهان على عالم يعتبر فيها الكعكة أغلى من الخبز، وحيث أصبحت هذه المادة الحيوية أبخس من الذهب ذو الأسعار المرتفعة في الوقت الذي لا زال فيه الهواء بالمجان. ربط كارل ماركس بين الاقتصاد والسياسة، وفهم بأن دراسة أي مجتمع يجب أن تنطلق من اقتصاده السياسي. وعلى أن التاريخ الإنساني بكامله عبارة عن تاريخ للصراع الطبقي، وأن ثمن أي سلعة هي في نهاية المطاف عبارة عن قرار سياسي يوجد تحت مراقبة الطبقة الحاكمة. كما أن نفس المبدأ ينطبق على مستوى أجور العمال وسعر رأس المال وعلى معدلات الأرباح الوريوع والفوائد. فلتعظيم معدلات الأرباح والريوع والفوائد يتم اعفائها من الضرائب من جهة بينما يتم تخفيض أجور العمال أو تجميدها من جهة أخرى. وقد بين كارل ماركس أنه في ظل الرأسمالية، فإن العمل الميت الذي ينبثق من رأس المال حي سابق هو من يتحكم في العمل الحي للعمال.

ولا يعتبر ماركس الرأسمالية نظام فاسدا بكامله بل اعترف له ببعض الخصائص في فجر ولادته، فالجزء الأول من "البيان الشيوعي" الذي كتبه الى جانب فردريك انجلز سنة 1848، كرسه لوصف الكيفية التي انقدت بها الرأسمالية العالم من استبداد الملوك والارستقراطية، التي حكمت الشعوب على أساس حق الولادة. كما صفق كارل ماركس للكيفية التي أقحمت بها الرأسمالية كل شيء في نظام السوق وكيف أصبح السوق يحدد بشكل أتوماتيكي سعر مدة العمل الاجتماعي الضروري لإنتاجه. وذلك في توافق كبير مع كل من آدم سميت ودافيد ريكاردو. وقد ذهب ماركس الى أبعد من ذلك، في تعريفه لسيرورة تحول الاحتكارات التي لم تعد تحت مراقبة السوق وانما أصبحت هي من يراقب السوق ويتحكم فيه. كما وصل التحليل العميق لكارل ماركس الى استنتاج الكيفية التي تصبح فيه الرأسمالية محكومة بأزمات دورية باستمرار بسبب عيب هيكلي يتمثل في استحالة تصريف الإنتاج الزائد بسبب ضرورة المحافظة على الأجور منخفضة، لتعظيم فائض القيمة ومعدلات الأرباح، وهذا ما جعل كارل ماركس يتنبأ بأن الرأسمالية بهذه الكيفية خلقت حفاري قبرها: البروليتاريا.

هناك الكثيرون من اتهموا الماركسية بأنها ذات رؤية حتمية لسيرورة التاريخ. لكن الأمر ليس كذلك بطبيعة الحال. فكارل ماركس لم يقل أبدا بأن الرأسمالية ستنهار بمفردها. بل دافع على كون الأزمات الدورية اللانهائية للرأسمالية ستتحول الى دوامة متهالكة باستمراربوثيرة متصاعدة عند كل دورة، مما سيدفع في النهاية البروليتاريا الى الثورة. ومع ذلك، فإن هذه الثورة ستكون دائما في حاجة إلى نظرية ثورية. في المقابل، كما أن فهم كارل ماركس لسيرورة الثورة لم يكن أبدا حتميا هو الآخر. فالنظرية الثورية تشكل أيضا جزءا من سيرورة مستوى الوعي السائد وتتحدد من خلال شروط واقع الكائن الانساني، وهي بالتالي ليست سوى بديهية بسيطة كونية أو عامة. وهذا لا يعني أنه، أنه في ظل شروط خاصة، قد تصبح الثورة مسألة حتمية لا مفر منها. بل يظل دائما العامل الذاتي حاسما في نشأة النظرية الثورية وتفاعلها الديالكتيكي في ظل ظروف موضوعية ملائمة تقود نحو الثورة.

في مجال السياسة، انطلق كارل ماركس من اشتراكية روبرت أوين وشارل فوريه وسان سيمون، الذين، لجأوا في أرقى مرافعاتهم الى مناشدة الضمير الرأسمالي، لكي يطرح أسس الاشتراكية العلمية. وبين كارل ماركس أن الاشتراكية لا تعبر فقط عن الخصائص الأكثر إنسانية ونبلا، وإنما ستظل أيضا الوسيلة الوحيدة أمام الإنسانية للانعتاق من كوارث الأزمات الرأسمالية.

كما بين كارل ماركس بأن الدولة ليست سوى أداة بيد الطبقات المهيمنة من أجل فرض ارادتها عبر مجموعة من القوانين التي تمكنها من استمرار هيمنتها. فاعتماد جهاز الدولة هو من أجل فرض هذه القوانين. وانطلاقا من هنا، اقترح كارل ماركس مجتمعا شيوعيا حقيقيا، تحقق فيه وفرة الإنتاج مجتمع غير طبقي، وحيث تتحلل فيه الدولة تدريجيا. هذا الحلم الجميل بمجتمع جديد، منصف وعادل، ظل يحفز كافة المدافعين عن القضايا العادلة رغم كافة العراقيل التي تضعها الرأسمالية والامبريالية أمامه.

تناول كارل ماركس في العديد من كتاباته مواضيع جد مختلفة، مثل قضايا البيئة والنساء والطبقات والحقوق والأخلاق والضمير. وقد أسست كتابات كارل ماركس في الاقتصاد ليس فقط قواعد الحركة النسائية وإنما أكد على أن عمل النساء الذي كان يقتصر على "الأشغال البيتية البسيطة" أنه عبارة قوة عمل متساوي معأي عمل آخر لذلك فللنساء حقا متساويا في الأجر كعاملات، وأكد على أن الرأسمالية لا تفرض انتاج قوة العمل فقط وانما أيضا إعادة انتاج هذه القوة من خلال وظيفة الانجاب، وفي البيان الشيوعي لسنة 1848 أكد كارل ماركس على أن الشكل البرجوازي للأسرة ليس لم سند تاريخي، معمقا في كتاباته فهمه لتاريخ استغلال النساء في نظام الأسرة البرجوازي.

هناك العديد من بحثوا في كتابات كارل ماركس بالأسنان والأظافر، لإيجاد ما يتهم ماركس بتحيز جنسي. لكن رأس كارل ماركس ظل عاليا فاتحا المجال أمام الجميع لفهم أسس استغلال النساء. فقد بينت المادية التاريخية كيف وضعت النساء تحت نير النظام الأبوي وفي تحليله لنمط الإنتاج الرأسمالي بين كيف يتم تكريس الأسرة في شكلها الحالي فقط من أجل خذمة حاجيات الطبقة البرجوازية المهيمنة.

كتب كارل ماركس أيضا عن نظام الطبقات في الهند في زمن لم تكن تسمع بذلك أغلبية الناس في أوروبا. كما بينت كتابات ماركس عن الدين بوضوح أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد "أفيون الشعوب"، وإنما أيضا "الدين زفرة الإنسان المسحوق، وقلب عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب."

في كتابه نقد برنامج غوتا، أكد كارل ماركس على أهمية الطبيعة كأساس للإنتاج. وفي كتابه رأس المال، وفي أماكن متفرقة أكد ماركس على أهمية الاستعمال العقلاني للموارد الطبيعية. كما حدر ماركس بمعية رفيقه فردريك انجلز، بأن الطبيعة لا تقبل الاستغلال البشري المفرط وأنه في كل لحظة قد يعتقد فيها أن الانسان قد تحكم في الطبيعة، فإنها هذه الأخيرة ستجد وسيلة للتعبير عن ردة فعلها. وقد كتب ماركس ذلك في زمن لم تبدأ فيه بعد انبعاثات غاز الكاربون وحيث كانت الجزيئات الدقيقة مجهولة.

ولم يقتصر عمل كارل ماركس فقط على فهم العالم. بل كان نشيطا في الرابطة الدولية للعمال، بمثابة اممية عمالية تشكلت من طرف مختلف النقابات والمنظمات العمالية لمختلف البلدان. في زمن لم يخترع فيه التلغراف بعد وحيث لم توقع بعد الاتفاقيات الدولية للبريد– في زمن لا زالت لم تطور فيه البرجوازية مؤسساتها الدولية بعد، فقد قام بمعية قيادات عمالية أخرى بتأسيس عصبة الشيوعيين من مختلف هذه المنظمات والتي كلفته بكتابة البيان الشيوعي. بهذه الطريقة، كما أسس ماركس الأممية الأولى سنة 1864 ونظر للأممية البروليتارية في مواجهة الدولة الوطنية البرجوازية.

وينعكس التوجه الأممي عند كارل ماركس في الشعار الذي اختاره كآخر رسالة له في البيان الشيوعي: "يا عمال العالم اتحدوا! فلن تفقدوا شيئا سوى اغلالكم". وهو الشعار الخالد الذي تم حفره باللغة الألمانية على قبر كارل ماركس بعد وفاته سنة 1883.

إننا كطبقة عاملة بمختلف مكوناتها كنساء ورجال وشباب وشيوخ محلية وعالمية وبمختلف تمظهراتها الحديثة علينا أن نحافظ على هذا الشعار الخالد شعار كارل ماركس الوارد في البيان الشيوعي كقاعدة نضالاتنا. علينا أن نجتهد لمواصلة عمل كارل ماركس ليس فقط عبر ترديد ما عبر عنه من أفكار ثورية، وإنما عن طريق تطبيق منهجه المادي الديالكتيكي العلمي في فهم عالم اليوم وتحليله وفتح الطريق أمام الطبقات الشعبية المسحوقة نحو المجتمع الاشتراكي الشيوعي الذي تصوره. فبكل احترام وتقدير نحيي أعمال كارل ماركس النظرية والعملية.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=489025