الحزب الذي تعلمت من خلاله طريق النضال الوطني


فاضل عباس البدراوي
2018 / 4 / 3 - 23:42     

بدأت مسيرة تعرفي على الشيوعية والشيوعيين العراقيين، مذ ان كنت صبيا لم أتجاوز الثانية عشر من العمر، تمر تلك السنون، وما زالت ذكرياتها عالقة في ذهني، لم تمح من ذاكرتي، بالرغم من التقدم في العمر، لأنها غدت جزءا من سيرة حياتي.
بدأ المشوار، بداية خمسينيات القرن الماضي، حيث مسقط رأسي في قضاء بدرة، تلك المدينة النائية الواقعة في اقصى شرق العراق، التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن الحدود ألأيرانية، كانت المدينة تغفو ليلا في ظلام دامس، فلا أنوار تضيء لياليها، يصحوا سكانها على نهار مليء بمتاعب الحياة، معظمهم من الفلاحين، بألأخص فلاحوا البساتين التي تكثر في اطراف المدينة، وآخرون من الكسبة، وعدد كبير من الشباب العاطلين عن العمل، كانت هناك مدرسة ابتدائية واحدة للبنين، فلا مدارس متوسطة او أعدادية تستوعب خريجي ألأبتدائية ولا مدارس للأناث، ولا مدارس في القرى وألأرياف، يبدو انها كانت سياسة تجهيل ممنهجة، من قبل السلطة، كانت تلك ألأوضاع تسود معظم المدن العراقية، كانت المدينة في أشهر الشتاء تعزل عن العالم، بسبب مياه ألأمطار التي تقطع الطرق المؤدية اليها، كان ذلك حال مدينتي، شأنها شأن معظم المدن العراقية البعيدة عن حواضر المدن الكبيرة، أيام النظام الملكي السعيدي التي يحاول مزورو التاريخ اضفاء هالة من الديمقراطية والبرلمانية عليه. بسبب الطبيعة الجغرافية لتلك المدينة، أتخذتها السلطة الحاكمة مكانا لأبعاد المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين اليها، بعد قضائهم الفترة التي يسجنون فيه عن تهم ألأنتماء للحزب الشيوعي.
كانت تلك ألأوضاع التي تسود المدينة، كفيلة بتقبل أهاليها للشيوعية، وأصبحت ارضا خصبا لأنتشارها بين السكان. كان أول تعرفي شخصيا على الشيوعية، كما هو آت.. ففي أحدى ألأيام من عام 1952 عندما كلفني أخي ألأكبر محمد، أن أذهب الى دار جيراننا، شاكر الحاج محمود، وهو من وجهاء المدينة، كان شقيقه، الطيب الذكر موسى طالبا شيوعيا يكمل دراسته في بغداد، طلب مني أخي أن أجلب منه ورقة أخفيها، وقد قمت بأول مهمة حزبية دون أن أعلم، جلبت الورقة، وعند جلوسي الى جانب أخي، كدت بالكاد أقرأ بعض من سطورها بسبب صغر أحرفها، يتوسطها عبارة، (القاعدة ) بحروف أكبر، مرسوم في وسطها، مطرقة ومنجل، كنت حينذاك في الصف الخامس ألأبتدائي، سألت أخي، ماذا مكتوب في هذه الورقة؟ أجابني بصوت خافت، انها تعود لحزب يسمى، شيوعي، وهو الحزب الذي ينتمي اليه هؤلاء المبعدون، وهذا الحزب ممنوع لأنه يعمل من اجل الفقراء ومن أجل بناء المدارس والمستوصفات الصحية ويوزع ألأراضي على الفقراء، أعجبني ما تفوه به أخي. كان فلاحو البساتين لا يعملون في الشتاء ألأ لفترات قليلة، كان بيت جدي لأمي مكانا يتجمع فيه بعض الفلاحين يتسامرون في ليالي الشتاء الباردة مع أخوالي ، أللذان كانا من فلاحي البساتين، ويأتي الى الدار العم (علكة ) كان الرجل الوحيد من بينهم يجيد القراءة والكتابة، يعمل مراقبا في البلدية، كان يقرأ للحاضرين بعض القصص القديمة، بعد أكمال القراءة، يبدأ جلسة حوار في ألأمور العامة، حيث يسأل بعض الحاضرين من العم (علكة ) عن سبب وجود هؤلاء (ألأفندية ) الغرباء في مدينتهم؟ يجيبهم العم، أن هؤلاء يعملون من أجل أقامة حكومة العدالة، ويعدد لهم ما سوف تقوم بها تلك الحكومة من انصاف الفقراء وتوزيع ألأرض على الفلاحين ونصب الكهرباء لأنارة المدن وبناء المدارس..ألخ. كنت أجلس قريبا من هؤلاء الرجال، وأستمع بأمعان لتلك الكلمات (الحلوة ) فهي بدأت تطبع في ذهني كالنقش على الحجر. تركنا مدينتنا متوجهين الى العاصمة، طلبا لحياة أفضل ملتحقين بألأبن ألأكبر للعائلة (محمد ) الذي غادرها قبلنا بأشهر، كان ذلك منتصف عام 1953. في بغداد حدث تحول كبير في حياتي، أصبحت مواضبا على قراءة ألأدبيات الحزبية التي يجلبها أخي، ثم أصبحت مؤيدا منظما، (كانت هذه صفة صغار السن الذين يلتحقون بالحزب تمهيدا لترشيحهم لعضوية الحزب ) ثم خصص لي مسؤول حزبي، يجلب لي ألأدبيات الحزبية وأدفع أشتراكا شهريا، ومن ثم أخذت أنشط لكسب من هم قريبون من سني، كما أنفذ كل الواجبات الحزبية التي أكلف بها، منها توزيع البيانات الحزبية على ألأصدقاء وفي الشوارع والمحلات خلسة، وأشترك في الفعاليات الجماهيرية التي يقوم بها الحزب. أعتقلت في شهر حزيران من عام 1955 عند أدائي لواجب حزبي. أواسط عام 1956 وتيمنا بوحدة الحزب بعد التحاق التنظيمات الماركسية التي كانت تعمل منفردة بالحزب، وحدوث مد جماهيري كبير، أخبرني مسؤولي الحزبي الرفيق الفقيد، صبحي جواد، بأنني أصبحت مؤهلا للترشيح لعضوية الحزب بالرغم من انني لم أتجاوز السادسة عشر من العمر، ألأ انه قال ان سبب ترشيحي هو نشاطي والتزامي بما يكلفني به الحزب، كم سررت في تلك اللحظات، وشعرت بأنني أصبحت رجلا وشيوعيا كامل ألآهلية. استمرت رحلة النضال، تخللتها ألأعتقالات والمطاردات البوليسية كغيري من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين، ربما كنت أقل الشيوعيين تعرضا للعسف وألأضطهاد قياسا للمناضلين الذين جادوا بحياتهم، وحرياتهم من أجل مستقبل أفضل لشعبهم العراقي. حدثت ثورة تموز، وبدأت جموع الكادحين تتوافد على حزب الكادحين، فرادا ومجموعات، التي وجدت فيه ضالتها من أجل قيام نظام ديمقراطي يحقق ما كانت تصبوا اليها، من حياة حرة كريمة ووطن خال من القيود ألأجنبية. هذه ألأهداف التي خطها قادته ألأشاوس (فهد، حازم، صارم ) الذين اعتلوا أعواد المشانق وهويهتفون بحياة الحزب والشعب، ظن الحاكمون آنذاك انهم اقتلعوا جذور الشيوعية من العراق، لكن خاب ظنهم، ذهب هؤلاء وأسلافهم الذين مارسوا ابشع اساليب القمع بحق الشيوعيين بعد انقلاب شباط ألأسود، الى مزبلة التاريخ، وبقي الحزب شامخا، كنخيل العراق الباسقات التي ارتوت من دماء شهداء الحزب. هذه ألأيام والشيوعيون واصدقائهم، يحتفلون بذكرى ميلاد حزبهم ألمجيد، وهم على أعتاب انتخابات تحدد مستقبل العراق، يتوجهون بقوة وعزم الى جماهير شعبنا بضرورة المشاركة الواسعة في ألأنتخابات ويرفعون شعاراتهم وهم مرفوعو الرأس، زادهم ألأيادي النظيفة وعفة اللسان، بخلاف شلة الفاسدين والفاشلين والطائفيين، انهم ملح ألأرض، وسيبقون كذلك رغم العواصف والرياح الصفراء، ينهضون من كل كبوة أقوى وأصلب، معينهم جماهير الكادحين.
مجدا لحزب النضال والتضحيات
وخلودا لشهداء الحزب وللراحلين منهم
وتحية للسائرين على درب النضال من أجل وطن حر وشعب سعيد