دروس من التاريخ لمن يعنيه الأمر!


نعيم الأشهب
2018 / 3 / 25 - 14:50     

غزا اليابانيون، أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، منشوريا الصينية، في وقت كان القتال المسلح محتدما بين جيوش نظام شان كاي شيك الموالي للولايات المتحدة وجيوش ماو تسي تونغ الشيوعي.

لكن الغزو الياباني دفع ماو تسي تونغ للتوجه على الفور بنداء الى شان كاي شيك لايقاف القتال بينهما، والتحوّل لتعاون جيوشهما في التصدي للغزو الياباني. وحين تجاهل تشان كاي تشيك هذا النداء الذي ينمّ عن روح المسؤولية تجاه مصير الوطن المشترك، قام جنرالات تشان كاي تشيك باعتقاله وتسليمه الى ماو تسي تونغ، لكن الأخير تعامل مع الأول بكل احترام، ووقع معه الاتفاق المطلوب، وراحت جيوشهما تقاتل سويا ضد الغزاة اليابانيين. ورغم أن تشان كاي تشيك لم يكن مخلصا لهذا الاتفاق، ويحاول الخروج عليه، كلما سنحت له ألفرصة فان ذلك لم يؤثر على التزام ماو تسي تونغ به، طالما أنه لم يغيّر المجرى العام للتحالف ضد العدو.

وحين أعلنت اليابان استسلامها في العام 1945، وانسحبت بقايا جيوشها من أراضي فيتنام،انتهز الشيوعيون فرصة فراغ السلطة والتقطوها من الشارع -كما يقال-، رغم تواضع قوتهم، حينها. لكنهم واجهوا، وعلى الفور، تحديات تعجيزية مصيرية. فمن الجانب الواحد قام شارل ديغول الفرنسي، حال عودته الى فرنسا، بعد استسلام ألمانيا، بتعبئة حملة عسكرية لاستعادة فيتنام التي كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي قبل أن تطردهم منها القوات اليابانية وتحلّ محلهم خلال الحرب العالمية الثانية، ومن الجانب الآخر، وبينما كانت القوات الفرنسية الغازية تنزل في جنوب فيتنام، كانت قوات تابعة لتشان كاي تشيك الصينية، من الجانب الآخر، تتدفق من شمال فيتنام، بايعاز من واشنطن، في اطار الصراع على مناطق السيطرة والنفوذ. وكان تشان كاي تشيك، قبل ذلك، قد فكّ تحالفه مع الشيوعيين الصينيين بنهاية الصراع مع اليابانيين.وهكذا، وجد النظام الجديد الذي يقوده الشيوعيون الفيتناميون بزعامة هوتشي منه نفسه أمام عدوين قويين، لا قبل له بأي منهما، يهاجمانه، في نفس الوقت ، من الشمال ومن الجنوب.

هنا، تجلّت عبقرية القيادة المسؤولة بمقدار ما تجلّى عمق ولائها الوطني. فقد عقد هوتشي منه صفقة مع العملاء الفيتناميين الذين جاؤوا مع قوات تشان كاي تشيك من الشمال وقاسمهم وزارات الحكومة مناصفة، على قاعدة العمل المشترك لطرد الغزاة الفرنسيين. وحين تمّ انجاز هذه المهمة بنجاح، فكّ هوتشي منه التحالف مع قوات تشان كاي تشيك وعملائهم الفييتناميين وتحوّل لطردهم، ومن بعدهم أسيادهم الأميركيون، حين حاولوا الحلول محل هؤلاء وأولئك، كما هو معروف.

ولو عدنا الى أيامنا الحالية، نرى بوتين الروسي يتصرف بعقلية مماثلة. فهو يجهد لتحييد العديد من الخصوم والأعداء الثانويين ليضمن النصر في صراعه مع العدو الرئيسي، الأميركي الذي يسعى وبكل الوسائل لتطويق روسيا واضعافها واثارة القلاقل حواليها وداخلها، لتفتيتها واخضاعها آخر الأمر.وفي هذا الاطار، فالوجود الروسي في سورية لا يعود لاعتبارات مبدأية، وانما في اطار الدفاع عن النفس. فلو أفلحت واشنطن في أخذ سورية، بواسطة عصابات الاسلام التكفيري، ستكون روسيا ذاتها المحطة التالية وبواسطة نفس هذه الأداة التكفيرية، مأخوذ في الحسبان أن الاتحاد الروسي يضم قرابة العشرين مليونا من المسلمين. وخلال مشاركة الروس الفعال في الصراع، على الأرض السورية، ضد عصابات الاسلام التكفيري، تتعارض مواقف روسيا مع العديد من الدول الاقليمية المتورطة في هذا الصراع، أمثال تركيا والسعودية وقطر وإسرائيل. ورغم المواجهة غير المباشرة مع هذه الدول، في الساحة السورية، تتحاشى القيادة الروسية المواجهة المباشرة مع هؤلاء، كيلا تنهمك في معارك جانبية على حساب المعركة الأساسية مع الرأس المنظم والمدبرلجميع هذه الأطراف الفرعية. وحتى حين وقعت المواجهة مع تركيا، لم تكن بمبادرة روسية وانما العكس، وفي الوقت المناسب أبدت روسيا الاستعداد لتجاوز تلك الأزمة.

في ضوء هذه التجارب الغنية، يطرح السؤال المركزي نفسه: هل الرئيس عباس قادر أن يخوض جملة معارك كبرى في وقت واحد وعلى عدة جبهات، مع الاحتلال الاسرائيلي ومع ادارة ترامب ومشروعها "صفقة القرن"، ومع الرجعية العرية المنهمكة في المؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية، لفتح الطريق عريضا امامها للتحالف العلني مع اسرائيل، وفي الوقت ذاته، معركة داخلية مع حماس؟ حتى لو سلمنا بأن اتهاماته المتسرعة والتي لا تستند الى نتائج تحقيق موثوق، أي تحقيق صحيحة؟

ان الاتهامات المتسرعة، ورفض مبدأ التحقيق المشترك والنزيه في قضية محاولة اغتيال رئيس الوزراء الفلسطيني تعني، قبل كل شيء، تبرئة الاحتلال سلفا من جريمة كهذه، وهو الأكثر اهتماما ومصلحة في احباط أي مسعى لإنهاء الانقسام، الذي كانت أصابعه سببا رئيسيا في وقوعه واستمراره، مع بأنه لا يجوز ولا بحال مساواة حادث كهذا، أيا كانت نتائجه، فوق المصلحة الوطنية، لكنها هذه الاتهامات وتداعياتها، قد تثير أيضا، في الوقت ذاته، تساؤلات مشروعة فيما اذا كان التحوّل الى معركة داخلية مفتعلة، على حساب المواجهة الرئيسية مع التحالف الاميركي - الاسرائيلي - الرجعي العربي، ومشروعه، صفقة القرن، يأتي في اطار رهان على تسوية أو صفقة ما، مع أطراف هذا التحالف، ولو في اطار خلق المناخ المطلوب لتبرير وتمرير مشروع اقامة دويلة في القطاع، للإجهاز على القضية الفلسطينية، كما بدا في الاهتمام المفتعل والمفاجئ بالوضع"الانساني لقطاع غزة" مؤخراَ الذي هبط على الأميركيين والمحتلين الاسرائيليين ومن لف لفهم.

والمفارقة المحزنة، أنه بينما يسارع الرئيس عباس الى معاقبة القطاع، بسلطاته وشعبه على فعلة، اعتمادا على تقديرات وتخمينات ذاتية، لا أدلة وبراهين ثابتة، فإنه، حتى الآن يتردد في اتخاذ أي اجراء ضد الاحتلال، الى حدّ تجميد قرارات المجلس المركزي على تواضعها.

أما الشتيمة التي وجهها الرئيس عباس للسفير الأميركي في اسرائيل، فلا يمكن موازاتها ولا موازنتها مع الاتهامات والإجراءات المتسرعة التي قرر اتخاذها ضد السلطة الحمساوية في القطاع غزة، والتي ستكون تشكل ظلما اضافيا لشعبنا في القطاع، من ذوي القربى فوق مظالم الاحتلال والحصار والتجويع.. ولعل هذه الشتيمة لم تثر لدى الطرف الأميركي أكثر من ابتسامة، فهي كما قال الأعرابي: "اشبعتهم شتما ولاذوا بالابل!".