(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(3)


ماجد الشمري
2018 / 3 / 19 - 15:52     

كانت مكة هدفاً للحج السنوي ، وفي نفس الان سوقاً و نادياً موسمياً للحجيج و التجار و الشعراء و الانبياء الفاشلون . و هنا يظهر الامتزاج و التعاضد بين الاقتصاد و الثقافة و بين التجارة و الدين . فقد جمعت مكة كونها مكاناً للحج و مركزاً للتسوق في جزيرة العرب . فالحج الموسمي في الاشهر الحرم ، و التحريم الدائم للكعبة - البيت العتيق للأله- كلاهما معاً اديا لأنتعاش التجارة و ديمومة الطقس السنوي لشعائر الحج ( ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلاً من ربكم) - البقرة. كان المكيون ، و ضمن مكة ، و اثناء موسم الحج يتاجرون في عرفة و منى - و هذا مانلمسه اليوم في موسم الحج و مردوده المالي الملياري من الحج - الدولاري!- فأصبحت لمكة أسواقاً مضافة للاسواق القديمة : عكاظ ، و ذو المجاز ، و مجنة ، و هي الاسواق الشهيرة و القريبة من اطراف مكة . و كانت الاسواق تقام قبل الحج ، و هي اسواق قريش و قبائل العرب التي يتاجرون بها ، ثم تبدأ مناسك الحج من طواف و تلبية ، تبدأ بعرفة و تنتهي بمنى ، و الطواف و التلبية في البداية ، ثم ذبح الهدي في منى في النهاية . و كان زمزم هو مشرب الحاج- السقاية لعبد مناف- و كانت قريش تتاجر مع من يأتي في المواسم - الاشهر الحرم- الى مكة و أسواقها . و كانت قريش هم الحمس لدينهم و الالف لبيتهم الحرام ، يقومون بتقديم الخدمات كاملة لمن يحضر من الحجيج ، كالرفادة ، و السقاية ، و في سورة التوبة تجد أشارة لذلك ( اجعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن امن بالله و اليوم الاخر)- بخس الخدمات ما لم تتوج بالايمان!- وقد توارثت البيوتات المكية - القرشية على تقديم تلك الخدمات - و منها بني مر الغوث بن مر و اولاده من بعده ، و توارث بني عدوان الافاضة من مزدلفة ، اما قصي بن كلاب فقد نظم الرفادة ، و فرض على فريش أمولاً خصصت لأطعام الحجيج في منى ، و كان محمد يحضر مواسم الاسواق - وخاصة في عكاظ - و الحج للترويج لدينه الجديد بين القبائل الوافدة مثل : بني حنيفة ، و كلب ، و عامر ، و الاوس و الخزرج. و كانت الكعبة مقدسة رغم الاوثان المنصوبة في داخلها. و قد احاطت قريش كعبتها بقبائل الحمس التي تصاهرت و تحالفت معها لكي تصبح مكة و ضواحيها بقعة امنة و ارض سلام و تجارة و دين . و قد وردت اشارة ايضاً لذلك في سورة العنكبوت بهذا الخصوص اولم يروا انا جعلنا حرماً امناً و يتخطف الناس من حولهم) . و هي سياسة قرشية برغماتية ذكية، خدمت تجارتها حتى تتوسع و تزدهر ، و بمباركة كعبتها المحرمة، و أوثان القبائل . و هذا النهج اتبعته قريش - كما نعتقد - بعد محاولة أبرهة الحبشي الفاشلة لتدمير كعبتهم - اذا ماثبتت حملة ابرهة كواقعة تاريخية حدثت فعلاً !- لتعزيز قوتها، و رفع سمعتها بين القبائل كنفوذ ديني و اقتصادي و قبلي . و هنا اصبح لقريش دوراً و مكانة رفيعة اقتصادياً - و هو الاهم - و دينياً -وهو المهم-و سياسياً . حيث كانت السدانة و السقاية و الرفادة لابي طالب ثم تخلى عنها لاخيه العباس بعد ما عجز عن توفير المال لتغطية نفقات الحاج . كان الارتباط التجاري - الديني القريشي يشبه كثيراً ما كان يجري في اليونان من علاقة بين زيارة المعابد، و اقامة الاسواق ، و الفعاليات الرياضية . فمكة مدينة تجارية - دينية بلا خلاف . و كان للثروة التجارية المكية دوراً فاعلاً في الاوضاع الاجتماعية و الثقافية ، اضافة للدور الاقتصادي الحاسم و المؤثر في الجماعات القبلية المتواجدة في مكة و ضواحيها. أما عن تجارة قريش و البضائع التي كانوا يتاجرون بها فهي: التوبل ، والطيب ، والبخور ، و الذهب ، و الفضة ، و العبيد . و لكونها تقع على مفترق الطرق التجارية عبر جزيرة العرب - طرق الشمال و الجنوب- و الشرق و الغرب . و قد سن هاشم الأيلاف كعرف و عهد لقريش مع القبائل . و كان اغلب الملأ المكي ، و ابرز وجهاء و اعيان قريش هم في طليعة التجار ك : عبدالله بن ربيعة المخزومي ، العباس بن عبد المطلب، أبو بكر بن قحافة ، عبدالله بن جدعان ، ابو سفيان بن حرب ، ابو أحيحة سعيد بن العاص ، الوليد بن المغيرة، وخديجة بنت خويلد ومحمد نفسه لاحقا،الخ . و كان الايلاف عبارة عن مجموعة الاتفاقات المبرمة بين هاشم - قريش ، و بين القبائل و التي حصلت قريش بموجبها على حق تمثيل تلك ، القبائل بأن تقوم بجمع بضائعهم و هي في طريقها الى الشام ، و لترد بعد العودة أثمان تلك البضائع مع الارباح . و كان الايلاف يعني ايضاً تأمين قريش لمرور قوافلها عبر القبائل على طريقها التجاري بصفقاتها التجارية معهم، او دفع مال لقاء الحراسة و الحماية ، و غيرها من اشكال الايلاف التي لم نعرفها. و هكذا كان الايلاف الفيصل و العهد و التعاهد بين قريش و القبائل هو الذي مكن المكيين ، و بفضل هذه الرحلات- رحلة الشتاء التي يجلبون فيها البضائع من الجنوب ، كالعطور و البخور ، و غيرها من منتجات اليمن ، ليبيعوها في مكة و اسواقها في المنطقة، و رحلة الصيف الى الشمال حيث الشام ، و بأخذهم لما تبقى من بضاعتهم اضافة للجلود و الملابس و الفضة و غيرها. ليعودوا من ثم محملين بالحبوب و الدقيق . و هذه هي ماهية الايلاف التي وردت في سورة قريش ، رحلة الشتاء و الصيف هما مصدر و أسباب حياتهم و تأمين طعامهم بعد الجوع، و امنهم من الخوف كما ركزت عليه السورة بتكثيف المضمون ، و لكن ما نفهمه من نص (السورة ) غير كاف لتوضيح سردية الرواية التاريخية و حقيقتها ، و ما فهمه المفسرون لا يختلف عما فهمناه نحن من خلال القراءة للنص الديني لا التاريخي الفعلي ! أما حقيقة و موضوعية الوقائع و الاحداث بشكل موثق و دقيق و مؤكد ، او ماكان يدور في ذهن محمد عندما تلى تلك السورة ، فلا نعرف شيئاً عن ذلك اكثر مما اوردته كتب السير و التفسير و التاريخ . و ما نفترضه من قراءة يعتمد كلياً على النص ( القرأن ) كوثيقة تاريخية - ادبية - دينية، و مانسج حوله و عنه من رواية او احداث شبه مؤسطرة أستلهمت المخيلة و الرؤى و الايمان أكثر مما اعتمدت على الوقائع التاريخية الفعلية ! . فأيلاف القريشيين و رحلاتهم الموسمية السنوية الدائمة من خلال تجارتهم المكوكية المباركة ذات المردود الوفير من المال و الطعام و أمن سكنهم و سلامهم و أمانهم في بطن هذا الوادي القفر . فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، و بينهم كعبة القداسة ، لهم و لكل القبائل هذا المن و العطاء السخي من قبل الاله المكي لشعبه أو قبيلته القريشية - كما كان يهوة لشعبه المختار !- و الذي ميزهم عن باقي سكان شبه الجزيرة . كل هذا الخير و الرزق يحتاج مقابلاً ، رداً لجميل الرب ، رداً للدين ، نوعاً من المبادلة بين المادي و الروحي ، تبادل و صفقة تجارية بين الدنيوي و الماورائي !. فلقاء نعمة الاقتصاد التجاري المنقذ للمكيين ، و الممنوح و المبارك من رب مكة لدرء الجوع عن قبيلته المحبوبة قريش يجب ان يدفعوا الدين بما يقابل ، و ما انعم عليهم من فيض في الرزق . و رمزية الشكر و الامتنان و العبادة ، و لان الله لا يأكل و لا يشرب ، و لا يحتاج لشيء مادي فهو الغني عن العالمين ، فما يحتاجه او يريده حقاً هو التقدير و الاستحسان و الولاء و التقديس و الطاعة . اي بمعنى واحد هو الايمان به و عبادته ، و التعبير العبدي عن الشكر و الامتنان ، فهو لايرغب بغير ان يعبد من خلال الصلاة و الدعاء و المناجاة و الخشوع و الطواف حول بيته كل عام - ركن الحج المشرع- ممارسة روحية التبجيل و تعظيم الذات الالهية - هو المتكبر !- لما وقره لهم من خير و بسط في العيش ، جعل منهم سادة العرب ، فليعبدوا رب العرب سيد الالهة جميعاً ! و رب التجارة اولى بعبادة التجار ، و كما تاجرت قريش بالسلع فيجب ان تتاجر مع الله بالعبادة ، و لأن الدين يمول التجارة فيجب ان تمول التجارة الدين و كان الله طبعا لايحب المنكرين فكل حبه للشاكرين فلتكن قريش من الشاكرين!!
....................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...