(سورة)قريش..لاهوت التجارة وتجارة اللاهوت!.(1)


ماجد الشمري
2018 / 2 / 26 - 18:43     

هناك الكثير من المشتركات و الوشائج و التداخل ما بين الدين و التجارة فأحدهما يحيل على الآخر، فالعلاقة بينهما متينة ، و تتسم بجدل مقارب و عملي في تفاعل و تلاقح نظم الوسائل و الغايات ، و تبادل الخبرات ، و نزعة الاستهلاك المادية و النفسية لدى البشر . و الفارق الوحيد ، او الاختلاف بين التجارة و الدين ، هو ان الاولى تتعامل بالماديات الملموسة الدنيوية ، اي تتاجر بالسلع و الخدمات ،اي الحاجات البيولوجية الملحة، في حين ان الثاني ينحصر مجاله بالمتاجرة بالاوهام النفسية و الايديولوجية ، و سلع الارواح ، و التعطش الطبيعي في الانسان للامان والسكينة النفسية و الاطمئنان الروحي ، و يقين الايمان الميتافيزيقي الذي هو اصلب بكثير من الحقائق الطبيعية . و احياناً تكون الخيرات المادية ، -و التجارة جزءاً منها -ليست من صنع البشر ، و نتيجة لنشاطهم في انتاج حياتهم و اعادة انتاجها كما يقرر الدين ، بل هي نعم و ارزاق و رحمة من الرمز العلوي ( الله) الذي هو المتحكم و المقدر لمصائر الناس .و ليس صدفة او اعتباطاً ان يلجأ النص الديني ( القرأن) هنا لأستخدام المفردات الكثيرة من القاموس التجاري لتوظيفها و استعمالها لتبيان الجدوى الاقتصادية ومردودها المجزي من ممارسة التدين و العبادة ، و ما تدره من ارباح و منافع يمن بها الخالق على مخلوقاته !. فالتجارة هي كسب للعيش الرغيد الدنيوي ، و الايمان بالدين و التعبد ، و مظاهر الشكر و الامتنان للقدر - الله- هو ايضاً كسب مؤجل متراكم سيتم الحصول عليه لاحقاً في الحياة الاخرى من متع و لذائذ خارقة و خالدة !. فهناك الكثير من كلمات التجارة و أشتقاقاتها ذكرت في القرأن أضافة لمفردة تجارة التي وردت ٧ مرات ، و كلها تحث على مزاولة التجارة ، و البيع و الشراء ، و الكسب المادي ، و الاقراض و الربا ، و رفض الخسارة، و الترحيب بالربح ، و تبادل المنفعة ، فأن كنت تاجراً تبيع و تشتري لتبيع من جديد ، و ان كنت مستهلكا فأنت تشتري ايضاً ، وتبيع لتشتري ما تستعمله و تأكله و تلبسه و كل حاجاتك و متطلبات عيشك . فليس غريباً اذا وجد ذلك الكم الهائل من ( الايات) التجارية في (القرأن ) التي تبارك و تمدح التجارة :" يرجون تجارة لن تبور" . " ياأيها الذين امنوا هل ادلكم على تجارة لا تبور" . " يا أيها الذين امنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من العذاب" . " الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم". و في سورة البقرة و النساء و النور هناك ايات تركز على التجارة و عقود البيع و الشراء و الدين و الرهن و الاتفاق ، و تفضيل تجارة الاخرة على تجارة الدنيا مقارنة بالمكاسب و الارباح ، الموعودة اجلا!.فالاولى وقتية زائلة ، والاخرى أزلية باقية و علامتها فوز عظيم ، فهي ربح الجنة الذي ما بعده ربح :" و اذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها و تركوك قائماً قل ماعند الله خير من اللهو و التجارة والله خير الرازقين " . و اضافة للنص الديني ، هناك نصوص الحديث المحمدي التي تمجد ايضاً التجارة و تعاطي النشاط التجاري مثل :" تسعة اعشار الرزق في التجارة " . و المقاربة الدينية للتجارة نجدها في نصوص الدين الجديد الذي طرأ على واقع حياة المكيين المستقر ، ففي النسخة المحمدية لتصور الاله المحلي - القبلي - المكي ( كيهوه رب اليهود الخاص) و الذي تطور لاحقاً ليصبح كرب قومي - عربي و من ثم الى كافة الامم ، نجد تطابقاً بين نمط عيش المكيين - القريشيين و اسلوب تحصيلهم لمعاشهم ، و بين مستوى وعيهم الفكري - الديني و الاجتماعي ، و درجة تطورهم الروحي من الاوثان حتى مجيئ الاله المحمدي الاوحد ، و الساعي للهيمنة و التفرد بالعبادة . فالكعبة و اوثانها كانت احد المصادر الاقتصادية لحياة و نفوذ المكيين . و الانقلاب المحمدي الداعي لتوحيد الاله و الغاء التعدد ، و تدمير الاوثان ، و محاولته لاصلاح التدين القريشي الوثني بالعبادة الموحدة لأله السماء الأحد، و تقويمه لينسجم مع رب التجارة ، رب البيت ليكون البيت بيت الرب الوحيد ( الله) و تكون التجارة تجارة الرب التي اوكلها لهم بتكليف رباني منقذ لقريش من العوز، كل ذلك جاء مصداقاً لتلك الحقيقة الاقتصادية التجارية ، مادياً و روحياً ، تجارة السماء و تجارة الارض . فتم الجمع بين رحلات القوافل و تجارة السلع ، و بين الحج الديني الموسمي . فرب المكيين الجديد الذي دعى محمد لعبادته بوحدانية دون وسطاء او شفعاء أو الهة صغار ، هذا الاله هو الديان الاكبر و ايضاً التاجر السماوي المشرف على تجارة الارض ، ارض مكة بالتحديد . فهو المهيمن ، المسيطر على دنيا و دين قريش ، و هو الذي وضع و سن و أشرف على اسس و طرائق نشاط قريش الاقتصادي - التجاري - الديني النوعي ، الذي كان متميزاً و بارزاً و سط امبراطوريتين متصارعتين ، فجمعت بين تجارة الحياة الدنيا ، و تجارة العبادة و التدين ، و كلاهما يجب ان يكونا مربحان و مجزيان في مردودهما المادي في الحالين الواقعي و الخيالي ، اذا ما التزمت قريش -و حسب محمد او الله -بقواعدهما و باصولهما كما وردت في نص الاله القرأني ( سورة قريش ) المقرضة و المحبذة و الحاثة على مزاولة و ممارسة التجارة كأسلوب عيش و في نفس الوقت كتعبد ديني ، لما في التجارة من مزايا و نعم على الملتزمين بشروطها و مكاسبها الهائلة في هذه الحياة و في الاخرة من نعيم مقيم و خالد لايزول في متعة الطعام و الشراب و الجنس !.ولكن يجب ان تلبي حاجات و مطالب الجسد البايولوجية اولا، و من ثم تمارس الروح ترفها و طقسها التعبدي ، و خلق عالمها العلوي السامي ، والذي سيتحقق لهم فيه وجوداً افتراضيا ثانيا بعد فنائهم، ميتا واقعي و فنطازي خارق للمألوف حافل باللذات والمسرات !. سورة قريش نموذجاً ساطعاً على ماكان يدور في ذهن الاله و محمد كأنعكاس لواقع حياة قريش و. ظروفها الاقتصادية وانشطتها السياسية والدينية-الثقافية
.........................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...