الوجوه المتعددة لهابرماس


أشرف حسن منصور
2018 / 2 / 21 - 10:25     

قد لا يلاحظ الكثيرون أن الفيلسوف الألماني هابرماس قد غير من توجهاته كثيراً، منذ أن بدأ في الكتابة في أواخر الخمسينيات وحتى الآن. فمن كونه أحد أعلام الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت صاحبة التوجه الماركسي الجديد المسمى بالنظرية النقدية وتلميذ أدورنو، إلى واضع لنظرية اجتماعية جديدة تسمى نظرية الفعل التواصلي ذات الأسس المتعددة من ماكس فيبر إلى هربرت ميد وبارسونز، إلى مؤسس للأخلاق التواصلية والنظرية التواصلية في الديموقراطية وأحد المناصرين للنزعة الإجرائية في الديموقراطية procedural democracy والتي تستوحي الديموقراطية بالمعنى الأمريكي، إلى منظر ومبرر لإعادة إدخال الدين في المجال العام في أعماله منذ التسعينيات وحتى الآن. لقد غير هابرماس جلده كثيراً حتى أنك لا تستطيع تصنيفه بدقة في الاتجاهات المتعارف عليها، وإذا جمعت أعماله كلها ونظرت إلى تفصيلاتها وجدت فيه نزعة تلفيقية واضحة، تسعى دائماً نحو نوع من الوسطية في كل شيء، وهي وسطية حيادية تميز ليبراليته الخفية التي لا يفضل الإعلان عنها.
لكنني أريد التركيز هنا على المنعطف الأخير الذي اتخذه هابرماس نحو الاهتمام بحضور الدين في المجال العام. لقد صار هابرماس من مبرري هذا الحضور، تحت دعاوى عدم كفاية قيم ومبادئ عصر التنوير وعصر العقل لقيادة العالم المعاصر، وضرورة تدعيم العقلانية العلمانية برؤى دينية تسهم في المحافظة على قيم الأسرة والتساند الاجتماعي في عصر التشظي القيمي والاجتماعي الحالي حسب تحليلاته. لقد كان من الطبيعي لهابرماس اتخاذ هذا الموقف المهاند للدين والمبرر لإستعادته للمجال العام والمجال السياسي، لاعتبار سياسي خاص بألمانيا.
نظر هابرماس إلى الدين في السنوات الأخيرة على أنه قادر على تطعيم الحداثة بأبعاد قيمية وأخلاقية واجتماعية تفتقدها. هذا التحول الهابرماسي نحو مهادنة الدين وقبول دور أوسع له في المجال العام والمجال السياسي يتفق تماماً مع نزعة هابرماس المحافظة الأخيرة و مع توجه ألمانيا نحو الفكر اليميني الديني المحافظ، المسيطر عن طريق الحزب الديموقراطي المسيحي منذ عهد أديناور (رئيس الحزب ومستشار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة 1949 - 1963)، ثم عصر هلموت كول _رئيس الحزب ومستشار ألمانيا 1983 - 1998)، وأخيرا ميركل (رئيسة الحزب ومستشارة ألمانيا من 2005 وحتى الآن). ففي ظل سيطرة الحزب الديموقراطي المسيحي لسنوات طويلة على ألمانيا، فمن الطبيعي والمنطقي لمفكر مهادن مثل هابرماس أن يعطي تبريرات لحور الدين في المجال العام، وأن يرسم صورة خاطئة للعلمنة الغربية على أنها مشروع ناقص وأخطأ في استبعاد الدين من المجال العام.
لكن الدين الذي يتحدث عنه هابرماس هو المسيحية الغربية خاصة في نسختها الألمانية المسيسة. وتحليلاته تخص هذه الحالة الألمانية وحدها، وهناك صعوبة شديدة في تطبيق نظريته هذه على الإسلام السياسي وخاصة الإسلام الأوروبي، فهابرماس لا يعرف الكثير عن الإسلام أو عن الإسلام السياسي في العالم الإسلامي. لقد مرت المسيحية بحركة لإصلاح ديني وإصلاح مضاد وبعصر تنوير وعصر العلم والوضعية والإلحاد، أي تم تقليم أظافرها جيدا، ولم يحدث ذلك للإسلام بعد. والمسيحية الغربية التي يتعامل معها هابرماس ولا يجد أي مانع في إعادة إدخالها للمجال العام والمجال السياسي هي هذه المسيحية المعلمنة، لكن الإسلام الذي لم يمر بإصلاح حتى الآن مختلف، لأنه لا يزال الإسلام الذي ثبت عند القرن التاسع الهجري ولم يتطور. ولذلك فإن إعادته للمجال العام لا معنى لها لأنه مسيطر من الأصل على المجال العام في العالم الإسلامي، وسيطرته هي سيطرة صورته التراثية القديمة الموروثة من عصر الظلام، العصر المملوكي العثماني الذي لم نستطع التخلص منه الآن.