لا اللاراسمالي ولا الثورة الوطنية


سهر العامري
2018 / 2 / 17 - 15:56     

لا اللاراسمالي ولا الثورة الوطنية سهر العامري
حين رفض السفير العراقي بالجزائر ، عبد الملك الياسين ، إعطائي رسالة الى السفارة التونسية من أجل الحصول على تأشيرة دخول الى تونس ، ومنها الى ليبيا كي أوفر على نفسي مشقة الطريق الصحراوي وطوله ، وهو طريق يربط الجنوب الجزائري الصحراوي بجنوب الليبي الصحراوي كذلك ، وهو طريق موحش سوى بعض من مواقع النفط والواحات المتناثر على مسافات بعيدة بين واحدة وأخرى ، هذا الطريق الذي كاد ان يكلفني حياتي حين سقطت أنا بسيارتي في أحد الوديان العميقة ، ولكنني نجوت من الموت بإعجوبة ، بينما الطريق عبر جنوب تونس الى ليبيا هو طريق أقصر بكثير من الطريق الصحراوي الذي يربط ما بين الجزائر وليبيا .
اثناء سيري في ذاك الطريق ، وفي يوم 30 حزيران سنة 1973م ، وأنا استمع للأخبار من خلال المذياع في سيارتي ، علمت أن هناك مؤامرة يقودها ناظم كزار مدير الأمن العام ضد حكم الرئيس أحمد حسن البكر، لكن تلك المؤامرة فشلت بسبب من تأخر وصول رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر الى بغداد من زيارة له الى جمهورية بولندا ، وكانت مدة التأخر هي ثلاث ساعات عن الموعد المقرر ، قضاها احمد حسن البكر في مدينة فارنا البلغارية ، وهي مدينة سياحية ، تقع على البحر الأسود.
لقد اختلفت الروايات في سبب هبوط طائرة أحمد حسن البكر في مدينة فارنا البلغارية ، فقد قيل أن الرئيس البلغاري جيفكوف هو الذي طلب ذلك الهبوط من الرئيس البكر ، وأرسل نائب رئيس الوزراء تسولوف لاستقباله ، والتجول معه في تلك المدينة ، ولكن الرواية الاكثر قبولا هي أن المخابرات السوفيتية هي التي طلبت من الرئيس البلغاري جيفكوف أن يتصل بالرئيس أحمد حسن البكر ، والطلب منه الهبوط في مدينة فارنا السياحية ، وذلك بعد أن علمت تلك المخابرات بمؤامرة ناظم كزار الذي كان على علاقة بنظام شاه إيران ، فالمخابرات السوفيتية كان على علم بميول واتجاها قيادات حزب البعث الحاكم ، فحين قام صدام حسين بزيارة للاتحاد السوفيتي ، تلك الزيارة التي أحيطت بضجة اعلامية كبيرة من الجانبين ، أسر حين عاد الى بغداد الى مقربين منه أنه كان يضحك على ذقون السوفيت في تلك الزيارة ، وقد وصلت كلماته تلك الى المخابرات السوفيتية ، ثم الى حكومة الاتحاد السوفيتي وقتها ، فصدام منذ تواجده في القاهرة بعد عملية الاغتيال التي اشترك فيها ، والتي استهدفت الزعيم عبد الكريم قاسم ، كان هو على علاقة بالمخابرات الأمريكية ، وهذا ما صرح به وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس نقلا عن الرئيس المصري جمال عبد الناصر .
وليس السوفيت وحدهم هم من راهنوا على بعض العناصر في قيادة حزب البعث الحاكمة في العراق ، وإنما الحزب الشيوعي العراقي كذلك ، فقد قام الحزب بأخبار البكر عن مؤامرة عبد الغني الرواي بعد أن كشف سرها للحزب الشيوعي أحد الضباط الشيوعيين في الجيش العراقي ، ولهذا السبب أصدر أحمد حسن البكر تعميما عاما على الأجهزة الأمنية في الدولة العراقية ينص على عدم اعتقال أي شيوعي عراقي ، ويبدو أن هذا هو السبب ذاته الذي منع السلطات في مدينة الناصرية ، وأنا عائد من القطر الجزائري بعدم تنفيذ اللقاء القبض بحقي وهو الأمر الذي أصدره مدير الأمن العام ، ناظم كزار ، وليس غريبا على النظام البعثي الحاكم في العراق أن يقوم بطرد ذاك الضابط الشيوعي العراقي الذي أخبر عن مؤامرة عبد الغني الراوي من الجيش العراقي.
لقد تبدلت السياسة السوفيتية في هذه الحقبة الزمنية ، وصارت تميل الى دعم الانقلابات العسكرية ذات التوجهات الماركسية ، أو دعم قيام جبهات وطنية بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب التي تمثل البرجوازية الصغيرة ، فقد دعم السوفيت الانقلاب العسكري في افغانستان ، مثلما دعموا الانقلاب العسكري في اثيوبيا ، وساندوا بقوة النظام الماركسي في جمهورية اليمن الديمقراطية ، وأيدوا قيام الجبهة الوطنية في سورية ، واعتقد أن مثل هذا التأييد هو الذي ساهم بقيام الجبهة في العراق بين الحزب البعث الحاكم ، والحزب الشيوعي العراقي ، وذلك بأمل انجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، والمفترض أن يقوده هذه المرحلة حزب ماركسي ، وليس حزب برجوازي صغير مثل حزب البعث في العراق .
لقد عشت انا في جمهورية اليمن الديمقراطية بعد قيام الحكم الماركسي فيها نتيجة لتبني الجبهة القومية وحزب البعث فيها النظرية الماركسية بالإضافة الى حزب الشعب الماركسي اصلا ، وقد انحلت هذه الاحزاب الثلاثة بحزب واحدة هو الحزب الاشتراكي اليمني ، وسمعت وقتها أن الأحزاب في سورية كانت تريد السير بهذا الاتجاه ، ولكن الاحداث والتطورات السياسية في المنطقة حالت دون ذلك ، تلك الاحداث التي من بينها الحرب في افغانستان ، ونشوب الحرب بين العراق وإيران ، وانفراط عقد الجبهة في العراق ، وبذا اثبت التجربة فشل انجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، وفشل طريق التطور اللاراسمالي الذي ابتدعه بعض المنظرين السوفيت ، وتبخر بذلك حلم سكرتير الحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد الذي صرح ذات يوم أنه سيبني الاشتراكية سوية مع حزب البعث الحاكم في العراق .
بعد انهيار تجربة الجبهة في العراق التي قامت على اسس انتهازية ومرحلية ، وبأساليب عمل تخلو من مصداقية الالتزام ببرنامج الجبهة الموقع بين حزب البعث الحاكم من جهة ، وبين الحزب الشيوعي من جهة أخرى ، وما زلت اتذكر إجابة أحد قيادي الحزب الشيوعي العراقي على سؤال وجهه له أحد أعضاء الحزب من القاعدة في اجتماع عام خارج العراق : كيف وافقت قيادة الحزب الشيوعي على قيام جبهة وطنية في ظل حكم حزب برجوازي صغير ؟ فجاء رد ذلك القيادي على هذا سؤال بإسلوب أقرب الى النكتة منه الى فظاعة تلك الموافقة فقال : نحن اتفقنا مع قيادة حزب البعث على برنامج جبهوي ، ووقعنا عليه ، مثلما وقعوا هم عليه كذلك ، فماذا تريد منا أن نفعل أكثر من ذلك ، هل تريدنا أن نجلب لهم القرآن ونحلفهم به !!!
بعد شهور على ذلك انهارت تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية وذلك بارغام رئيس الجمهورية عبد الفتاح اسماعيل من قبل وزير الدفاع علي ناصر عنتر على الاستقالة ، ورحيله الى الاتحاد السوفيتي وقتها ، ذلك اليوم الذي يعد هو اليوم الأول لسقوط التجربة في اليمن الجنوبي ، فعبد الفتاح اسماعيل هو الشخص الاكثر استيعابا للنظرية الماركسية من بين القيادات المهمة في جمهورية اليمن الديمقراطية ، فقد درس هو هذه النظرية على يد بعض الشيوعيين العراقيين ، وأخص بالذكر منهم عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، ماجد عبد الرضا ، أما بقية القيادات المهمة فلازالت الأوضار الفكرية للبرجوازية الصغيرة أو للقبلية متعلقة بعقولهم ، وكان الكثير منهم لا يعرف حتى النظام الداخلي للحزب الاشتراكي اليمني ، وكيفية العمل به ، والالتزام بضوابطه وبنوده . ولقد كان ذلك من بين الاسباب التي قادت فيما بعد الى تلك المعارك الدامية التي شهدتها عدن ، والتي أتت على التجربة برمتها .