ما هو الإيجو، وكيف تمنعه من حجب سلامك الداخلي ومحبتك غير المشروطة – عود على بدء


محمد عبد القادر الفار
2018 / 2 / 16 - 17:44     

قبلَ عشرِ سنوات، ترجمتُ مقالاً لمدوّنٍ مبدع هو “الناسك الحضري” أو Urban Monk، أخذَنا به –بسلاسةٍ رائعة- إلى أعماقِ الصّراعات اليومية التي تخوضُها “الأنا” الإنسانية، وكيف تحاولُ آليّاً –طالما غفلنا عنها- أن تحميَ كبرياءَها الزائفَ بمختلفِ الحيلِ التي تُراكمُ مع الزمن جبالاً من الوهم والوهن والتضليل الذي يحجبُ الفردَ عن الاتّصالِ بالحقائق المباشرة والصريحة والصادقة، ويجعله يدمن الأحكام المسبقة على المواقف والأشياء، والأخطر: الناس.


ما الذي يمكنُ لي، كشخص قام بتلك الترجمة، وكتب في مواضيع مشابهة على مدى أكثر من عشر سنوات، أن أضيف إلى هذا الموضوع بعد مضيّ عقدٍ على نقله إلى العربيّة؟ لقد كنتُ أعيد قراءة هذا الموضوع مراراً خلال السنوات الفائتة، وقد كانت مدةً جيدة لاختبار جدوى الخوض في هذا الأمر، وما تمخّض عنهُ من “اكتشافات” أو على الأقل “إضاءات” إن صحّ التعبير. إنّ ما يدفعني لإعادة الكتابة في الأمر هو حاجتي النفسية (التي لا تنفصل عن الدوافع التي خاض فيها مقال الناسك نفسه) إلى الاعتراف بفشلي على مدى تلك السنوات العشر في تطبيق نصائح المقال حول التحكم في تدفق الأفكار، وضبط النفس ومنعها عن التركيز على المنغّصات اليومية، وغيرها من التقنيات التي حدّثنا عنها الناسك الحضري. وما أبرئ نفسي إن النّفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي.


أبسط مثال على ذلك الفشل كان انزعاجي في كلّ مرة أكتشف فيها أن أحد الكتّاب أو المدرّبين (ممن يلعب بعضهم دور القدوة الروحانية للناس) قد غرفَ من المقال مقدار ما شاءت نفسه ووضعه ضمن مقال يحمل اسمه أي أنّه نسبه إلى نفسه دون أيّ تقدير لصاحب المحتوى الأصلي (الناسك الحضري) أو لجهدي أنا كشخص قام بترجمة المحتوى وإعادة صياغته وتقديمه بالعربية. وهذا الانزعاج لا يحدث لمن صفّى نفسه ونزع عنها شوائب الإيجو ولم تعد ذاتيـّـتُه حملاً ثقيلاً على كاهله. ولا أقصد هنا أن الموقف المتحررَ من الإيجو هو إنكار الذات تماماً في هذه الحالة وقبول ذلك السطو خوفاً من أن تكون رغبتي في نسبة حقّي إليّ أنانيّة أو فيها شيء من لوثات الإيجو. فالحقّ أحقّ أن يُراد. إرادة الحقّ أولى من إنكار الذات، فإن كنتُ صاحب حقٍّ فإن الأجدَرَ بي هو أن أطلب حقّي. ولكنّ الانزعاج في حد ذاته هو الذي أراه من لوثات الإيجو، إذ يمكنُ لي أن أنكرَ على من سطا على المحتوى فعلَه وأطالب بالحقّ دون أن تنزعجَ نفسي.

وذلك مثالٌ واحدٌ من قلب القصّةِ نفسها ويتعلّق بالمقال نفسه، موضوعِ حديثنا. وهناك أمثلةٌ أخرى بعضُها خاصٌّ جداً ولكنّ أهمَّها كان متعلّقاً بانزلاقي إلى الكتابة في السياسة والتعليق عليها، والانحياز (تبعا لرواسب الإيجو وتراكماته) إلى طرفٍ دون طرف. ولا يمكن لأيّ انحياز إلى كتلة بشريةٍ ما أن يكون محقّاً أو متحرراً من الإيجو، ووحدها الانحيازاتُ إلى الحقّ في الحالات الفردية جداً يمكن ان تكون بريئة الذمة من لوثات الإيجو. فداخلَ الكتلة البشرية الواحدة مخاليطُ من الحقّ والباطل والضعف والقوة والبراءة والإثم، أياً كانت تلك الكتلة. وبتسليط المجهر على حالة فردية معينة، يمكن اتخاذ موقف أكثر نزاهة، وإن كان اتخاذ أيِّ موقفٍ من أي شيء في الحياة يحمل شبهة الإيجو ، ما لم تكن النفس بريئة من الانفعال وملتزمةً فقط بالحقّ الواضح، الذي لا تشوبه شائبة (النادر رصده)، مما يعني ضرورة الحذر والتأني كثيرا قبل اتخاذ أي موقف .


لماذا نفشلُ في إدارةِ الإيجو؟


الأمرُ يتعلّق بالـ”إرادة“. وكلّ حديثٍ عن الإيجو لا يتعرّض إلى الإرادة سيكون ناقصاً، ولن يتجاوز التنظير إلى التطبيق. ودعوني أوضّح شيئا هامّاً بخصوص الإرادة. إنّ البيانات التي ترصدها النفس (سواء كانت أشياء أو أحداث أو مواقف) هي بالأساس مجرّدةٌ تماماً من أيّ معنىً. والإرادةُ هي التي تخلق المعنى، هي التي تربط البيانات على نحوٍ يخلقُ المعنى.


لنأخذ كلمة “ورقة”، مثلاً، ونستمرّ في تكرارها داخل الدماغ. ضع أمامك ورقةً وتأمّلها واستمر في تكرار كلمة “ورقة” المرتبطة داخل ذهنك بالشيء المسمى ورقة. بعد لحظات من هذا التكرار ستستغرب كلمة ورقة وستشعر وكأنها بلا معنى.

ما الذي حدث؟


لقد ذهبتَ بدماغكَ خلف ما كان بالنسبة لك مجرد (مُعطىً معتاد) وشعرت بمساحة فارغة تقفُ خلفَه. إن أداةَ الإرادةِ الرئيسية هي “اللغة”، وهذه اللغة تقوم بعمل تعيين Assignment، أي نسجِ خرائطَ ذهنيةٍ تربطُ الكلماتِ بالأشياء والمواقف والأحداث. وما لم تدلِفْ إلى داخلِ هذه الخرائط الذهنية وتركّز عليها بهدف تجاوز المعنى إلى الحالة المجرّدة السابقة (البيانات قبل الربط) لن يكون بوسعك فصل فعل ذاتك (الإيجو) وتراكماته التي خلقت -وتستمرُّ في خلقِ- المرشِّحاتِ (أو الفلاتر) التي تحدث عنها الناسك الحضري في مقاله.


لقد كتبتُ عن الإرادة مراراً خلال السنوات الفائتة، وكتبت عن دور اللغة في هذا الوجود التفاعلي الذي هو في أساسه وصفٌ كلامي بين كاف “كن” ونونها. فالإرادة أمُّ المعنى، واللغةُ وعاؤه، والمعنى أبو الأحكام والأحكام تعود فتغذّي الإرادة، فتستمرُّ الدائرة.


وإرادةُ التحكم بالإيجو هي في الحقيقة ليست منفصلةً عن الإيجو، فالإيجو هو “الأنا التي تريد” (مقابل الأنا التي لا تريد، الدائرة النقية في بداية مقال الناسك إذا كنتم تتذكرون). ومعنى أنها تريد هو أنّ ثمة نقص ما بالنسبة لها، أو كما ترى الأمر (منظورها)، أو كما خَلَصَت المعاني المجتمعةُ داخلَها. نعم، إنّ “عدم الرضا” هو خلفَ الإرادة، وإلا لما كانت إرادة. وسأقتبس هنا من موضوعٍ كتبتُه قبل أربعِ سنوات بعنوان “معنى الرضا“


“لو استبعدنا الكائنات التي لا تعي وجودها، مثل النباتات، والكائنات التي لا تعي سوى غرائز البقاء مثل معظم الحيوانات، وتوجهنا إلى الكائنات التي طوّرت ذكاءا حوَّلَ وهمَ الأنا الفردية فيها إلى واقع معقّدٍ من العلاقات والإرادات…كائناتٍ “ذكية” مثل البشر وقلنا لأي فرد منها : “تأمل وتجرد من أي غضب أو انفعال أو تشويش وأنصت لقلبك سائلا إياه: هل أنت راض ٍ؟”


لأنه كائن أفسدهُ ترفُ الاختيار، وترف الكذب، فقد يختار أن يقول نعم وقد يختار أن يقول لا …. وعلى الأغلب سيقول، أنا راض نسبيّا، هناك نعمة، وهناك حرمان، وهناك سعي دائم نحو الأفضل …


وهذه الإجابة تعني أنه ليس راضيا أبدا … فهناك حرمان، ولو كان الأمر بيده لما حرم نفسه من شيء،،، ولأن الأمر ليس بيده، فهو لا يمكن أن يكون راضيا …. مهما صبّره الحصول على بعض اللذات عن حرمانه…



أما لو كنت إجابته “نعم وكفى” فهي ستنطلق بدافع العرفان للجانب الذي يرضيه في حياته، بدافع الحمد، وكل حامد هو طامع بالزيادة، وهذا الطمع يعني أن بقاء الأشياء على حالها ليس كافيا أي أنه ليس راضيا …..

أنا أحد هذه الكائنات يا صديقي … فخذني مثالا …

وبكل صدق وتطرّف سوف أجيبك … أنا لست راضيا…

وسأكون فظا وأجيب نيابة عنك … ولا أنت راض…

ومهما افتعلت الرضا وحاولت تصديقه، ستعود الحقيقة لتصفع وهم الرضا وتذكرك: أنت لست راضيا…

معنى الرضا هو أنني لو امتلكت القدرة المطلقة، قدرة كن فيكون، فلن أغيّر شيئا

وأنا أعلم علم اليقين أن هذا ليس صحيحا …

ولا بد أنك تعلم ذلك عن نفسك أيضا…

لننطلق إذا من نقطة صدق ….

أنا …. لست راضيا

ولكن من أنا … ما أنا؟؟؟

ما هي هذه الإرادة التي لها أن ترضى أو لا ترضى، وتتذوق الطاقات التي تجتاحها ،فتحكم عليها، وتعاني، وتتلذذ…. إن مثل هذه الأنا لا يمكن أن يرضيها العجز… “


انتهى الاقتباس من مقال “معنى الرضا”، ولنأخذ السؤال الواردَ في السّطر الأخير. إن هذه الإرادة التي يسأل عنها هذا السطرُ هي بنتُ الإيجو، فكيف لها أن تتمرّدَ عليه أو أن تتمنى إخمادَه. إن هذا (كما أشار الناسك الحضري) هو من فعائل الإيجو.

إنّ مراقبة الإيجو والانتباه له كافيان لإبطاله.

أما مقاومة الإيجو إو أيُّ إرادةٍ لإخماده فهي مجرد مناكفةٍ بين الإيجو ونفسه


لذا فإنّ المطلوبَ هو الانتباهُ إلى الإيجو. وهذا الانتباه يكون برصْدِ الحوارات داخلَ الدماغ (وليس محاولة إسكاتها) والدخولِ من وقتٍ إلى آخر داخل الخرائط اللغوية الذهنية ومحاولة تفكيكها والوصول إلى المساحات المجرّدة خلفها. هذه الرياضات الذهنية كافيةٌ لجعل الإيجو لا يطغى، وهذا – بكل صدق- هو أقصى ما ينبغي أن نطمحَ إليه في ما يخصّ الإيجو.



وإذا أردتُ أن ألخّص هذه الممارسة، يمكن أن أقتبسَ من موضوع “الصوفي المتمرد” الذي نشرته قبل خمس سنوات:

الصوفي المتمرد يتمرد بالتكيف ويتكيف بالتمرد ويمثل بوعيه وسلوكه حالة من الحقيقة، كشاهدٍ لا ينزه نفسه ولكن نفسَه ممتلئةٌ دائما.


ولمّا سألته: ماذا يريد الصوفي المتمرد… هل يريد أن لا يريد ؟ أم لا يريد أن يريد؟
قال: هو لا يريد شيئا .. وهو مع ذلك يريد كل شيء


لست حرا ما دمت تسعى .. لا تسع إلى الخير .. وبقدر ما تكون صادقاً في كل شيء في شهادتك على التجربة الذاتية الواعية التي أنت محصور فيها طالما كنت “أنت” فقط.. وفي حالة الانفصال.. أي في الحياة … بقدر ما تمضي في تلك السبل دون أن تسعى إليها


والأهم .. أن لا تسعى إلى إثبات أي شيء …



ولكن مهلا… أليس الحرص على عدم محاولة إثبات شيء .. سعيا .. يتحول في النهاية عادة إلى محاولة لإثبات أنك لا تحاول الإثبات.


ان شيئا من كل ذلك هو شرط هذا الوجود المنفصل في تجربته الواعية … ولا يمكن الافتكاك من الايجو تماما


لذا فالعيش بتلقائية كبيرة .. وعدم محاولة الظهور بأي مظهر … وعدم الحرص على أي شيء .. هي سمات الصوفي المتمرد.. الذي لا يمانع أن يموت في سبيل الحق .. ويذكره التاريخ على أنه أخس خسيس … ويبصق الناس على قبره كل يوم … ان يعيش في سبيل اللاعنف.. فيموت على أيدي من يزاودون عليه بالإنسانية .. الصوفي المتمرد يصل إلى الحياد إزاء نفسه … فهو الشاهد أبدا … ولو أنه يرى حياته تعرض أمامه من موقع ال”هو” .. فقد يدين نفسه ألف مرة قبل الآخرين … ويتلذذ ويشفى صدره حين يعاقب على شيء ما" …

انتهى الاقتباس من "الصوفي المتمرد"...



وبالعودة إلى سؤال “لماذا نفشل في إدارة الإيجو”…



أرى أن نتحرر من أي إرادة بهذا الخصوص (قدر المستطاع)، وأن يصبح الانتباه إلى فعل الإيجو ودخوله على الخط عادةً بالنسبة لنا. فمتى ما اعتدنا الانتباه بدلا من الغفلة يصعب أن نعود غافلين. ومتى ما أصبحنا معتادين على الرصد، أصبحت ردة فعلنا الطبيعية هي عدم الانسياق خلف الإيجو كلّما أراد أن ينغّص علينا.



الأمر يشبه أن تتعلم لغة ما، ومتى ما أصبحت تتقنها لا يمكن أن تمنع نفسك من فهم شخص يجلس بجانبك ويتحدث بهذه اللغة. لا يمكن أن تلغي ما تعلمته، فسترصد ما يحدث، رغم أنفك.



وللحديث بقية