كتابة على جدران المدن المستباحة -10- أيّة قُبلة هذه تشيع الفزع !


قحطان جاسم
2018 / 2 / 13 - 01:42     


من أيّة ذكرى تبدأ ؟ وأيّهنّ سيضيء حقا روحك المتعبة، الكئيبة التي تحاول أن تخدعها. هل تنفع الذكرى؟ الكآبة ؟ العزلة ؟ قل لي أيّ شيء. حتى الحب ، هذا الشيء الجميل، بل الأكثر قداسة من كلّ شيء آخر مقدس، الذي رأى فيه الفيلسوف الدنماركي سورن كيرككورد عنصرا للعاطفة النبيلة والمساواة، فكتب " لا فرق في الحب ، أوه، لا فرق في الحب- فأي فارق بين الأزهار ! حتى أصغرها، التي لاقيمة لها ، اللامعتبرة، حتى تلك الصغيرة المسكينة المهملة من اقرب المحيطين بها، مع ذلك، التي بالكاد تكتشفها دون أن تنظر اليها كفاية، كما لو أنها قالت للحب: دعني أصير شيئا ما لنفسي ، شيئا لامألوفا. وعندما ساعدها الحب كي تملك خصوصيتها، بل واضاف اليها جمالا اضافيا ابعد مما آملت هذه الزهرة المسكينة ذات مرة"، اقول حتى هذا الحب يتجلى، احيانا، أمام عينيك مشوّه، مخيف ، أمر لا يجوز ممارسته .. أو الوصول اليه ..ففي بلادك، تلك البلاد التي لا تزال تعذبك، وهي تبتعد عنك، أو تبعدك عنها، رغم أنها متشربة في بقايا خلاياك، تتشبث بأيامك،، كمعتوه أضاع كلّ الدروب، في كل لحظة من حياتك المثقلة بالعذابات والخسارات. بلادك المحاطة بأسيجة وأسلاك من المحرمات والممنوعات، التي يسودها الخراب والجهل، ويرى معظم اهلها في الحب وحشا غير مروّض، وباءاً غير قابل للشفاء ، جذاما عليك اخفاءه. لا تتعجب، انظر الى حجم الكراهية الذي يغشي ارواح أكثر الناس وعقولهم وينهش مشاعرهم. يا الهي! من أين يأتي كلّ هذ الشرّ ؟ كيف يكون الأنسان، هذا الذي خلقته على صورتك ، معبئا بكلّ هذه البشاعة والوحشية؟
أيّة عذابات تلاحقك! لماذا تعود اليها، الى تلك الذكريات المريرة .ألا تكفيك غربتك، وغرابتك ! وأيّ حب هذا ، حين تحتشد كلّ العيون المرائية بشراسة لكي تحصي حتى أنفاسك، بهجتك الصغيرة، وهي تضاء بعلاقة امرأة ..تلك العلاقة التي كانت تعوضك عن حزن اكبر .. حزن مخفي، عن كل صخب الكون وتفاهاته .. وتجعل العالم اكثر بهاءً وعمقا وجمالا رغم فقرك، واحزانك، ودموع أمك التي كان ينهكها المرض وتتهالك يوميا على طريق الموت..
كان الفتيان من أقرانك يحتفلون بالحياة ، بالمتعة ، بينما كنت تبحث عن لقمة العيش ، لقمة مريرة، جربت فيها كل الاعمال التافهة، واحسست فيها كل المهانة، مهانة فتى يجد نفسه غريبا، وحيدا، منعزلا بألمه وعالمه، حيث كنت تبحث عن الحب الغائب في وقت مبكر من حياتك.
في ذلك العالم لم يطاردك سوى الرجال ..رجال بهيئات مختلفة ومواقع متنوعة ووظائف عديدة ووجوه ذات أقنعة لا تتشابه؛ فيها رجل البلدية، أبوك المتبرم، صديقك الذي يعدّ خطاك وانفاسك لكي يكتب لحزب الدولة تقريرا عنك، رجل الأمن الذي لا يملك أيّ حلم أنساني وهو يصفع كرامتك، الشرطي الوضيع الذي يحلو له أن يسخر من وجودك ويحقّره تعويضا عن وضاعته وصغاره ؟ في مثل تلك الاجواء، التي مسّت كرامتك، "انشرخت ثقتك بالعالم"، على حد تعبير الاديب الفيلسوف الالماني جان ايمري، في كتابه " عند حدود العقل"، لكنك مع ذلك سعيتَ كي تحافظ على إنسانيتك ، روحك ، صفائك، حتى وأنت تسعى لتجنب سخرية أصدقائك ، وهم يصرخون بتهكم: كيف تكتب الشعر وأنت لست سوى بائع احذية نسائية على الأرصفة، أو هكذا كتب لك احدهم بعد سنوات طويلة، وهو يحسدك حتى على بقائك حيّا: لم أكن ادرِ أنك ما تزال حيّا ..! ثم أضاف متبرما: مَن أنتَ ألستَ بائع صنادل النساء وأحذيتهن في سوق بغداد الجديدة؟
نعم ، مَن أنتَ ؟ لماذا لا تعترف بخرابك وتريح روحك من كلّ هذا الهوان والألم؟ لماذا تتشبث بالحب وبذكريات الحب ؟ هل لأنك ترى فيها شيئا من الخلاص الآني؟ أم أنها مجرد لعبة مؤقتة وتحايل على الذات التي تشرف على نهايتها الأكيدة؟
إنك إنسان غريب ! مالذي يجعلك تحن الى محض قبلة صعبة، عابرة .. قبلة تشبه ما يحصل في القصص الخيالية ، تتشبث بصورتها ، وماضيها كأنها شيء لا يعوّض .. شيء إسثتنائي .. رغم أنها كانت قبلة، أقل ما يقال عنها مهينة لكرامتك ولكرامة الفتاة التي كنتَ تحبها ..لأنها لم تكن تحدث بدون خوف وقلق كبير، وربما كانت تقودكما الى الهاوية أو توسمكما بالفضيحة. أعرف أن الامر لا يتعلق بمحض قبلة، بل بتأريخ من العذابات، والمهانة والإذلال الإنساني.
هل تتذكر؟ كنتَ شابا يافعا، أندفعتَ مرّات بحماس عواطف جيّاشة نحوها، كلّما خيّم الظلامُ، تدور كمخبولٍ حول بيت أهلها ساعاتٍ حتى تلمح ضوءاً من جهة المطبخ المطل على الشارع، فتندفع دون خوف ناسيا كلّ اعراف الكون والمخاطر المحيطة به. على ضوء المطبخ ترى ملامحها الجميلة، وصدرها النافر، وعنفوانها الذي يستفز كل عاطفة الشباب فيك. فيستفيق في خيالك كل الحرمان المتراكم الى المرأة، ترمي حصاة صغيرة ، تفتح هي الشباك فتكتشف وجودك. ترتعب. وتقول لك هامسة: ابتعد، إنك مجنون، ما الذي تفعله، لو اكتشفونا الآن فستنزل علينا مصائب الدنيا. لكنك تصرّ على أن تمنحك قبلة منها، تجمع بعض الاحجار على عجل ، تصعد عليها وانت تلهث، تقرب وجهك منها، تدفع بوجهها من نافذة الشباك وهي في حالة فزع، وبسرعة خاطفة تسرق منها قبلة وتنسحب. تهتز فيك احساسيس داخلية غريبة؛ يا الهي ! كل تلك المغامرة ، كل تلك المخاطر ، من أجل قبلة.. قبلة انسانية ، عاشقة ، قبلة تختصر حقا طبيعيا لشاب وشابة تفتّحت في روحيهما أزهار الحياة للتو ، ولا تعبر إلاّ عن العواطف الروحية للإنسان السوي.
حتى حين اتيحت لك ذات يوم فرصة بعد اشهر طويلة من التخطيط والاحتيال لكي تلتقيا في حديقة الزوراء بعيدا عن كلّ عين تعرفها؛ الأهل، الأصدقاء ، المعارف، حيث تمكنتَ أن تلمس يدها ، متخفيا بين الاشجار، ملتفتا في كلّ خطوة تخطوها، مثل لص رعديد، وهو في طريقه لارتكاب جريمة ما..حينها حسبتَ، أنك تملك بعض الحرية..فاقتربتَ منها كثيرا ، التصقت بها، سمعتَ لهاث صدرها، ورأيتَ ذلك اللهب الأبدي لعاشقة، مثلما اشتعلت تلك العواطف العميقة وأزدهرت تلك اللحظة في روحك. ملتَ عليها ، كظل خفيف لتقبّلها، اعتقدتَ أن العالم يخصّكما فحسب، وإذا بشرطي يبرز لكما من بين الاشجار، كأيّ شرطي يرى أن مهمته الاولى والاخيرة هي اشاعة الخوف في نفوس الناس، فيصرخ بكما أن لا تتحركا، وراح يلقي عليكما سيلا من عبارات مفككة ، خالية من كل معنى، عن الاخلاق، بصفاقة قروي يكتشف المدينة لأول مرة ، فيلعنها وهو يغطي على سلوكه الاحمق فيها. كنتَ غاضبا غضبا لا حدود له، ورغم محاولاتك أن تتحدث معه بطريقة تليق بالانسان وتشرح له، لكنه أصرّ أن تذهبا معه الى مخفر الشرطة القريب. ولم يكن أمامك وأنت تجد نفسك في ورطةٍ اجتماعيةٍ لا تعرف نهايتها، امام جاهل متعجرف، إلاّ ان تلجأ الى المنطق الذي يفهمه؛ القوة ومنطق السلطة. فحينما اخترعت معرفتك بشخص معروف، وبمجرد نطقك أسمه وقلتَ له انك تود ان تتصل به ، راح يتلعثم وبدأت تقاطيع وجهه تلين وعباراته تتغير حتى أنّه نسى كلّ كلامه عن الأخلاق ، وأنهى الأمر بالاعتذار لنا.. أيّة مهزلة ، وأي عالم نعيش فيه .. هل حقا تتطلب قبلة كلّ هذه العذابات وكل هذا الخوف والتحايل. وأيّة مخلوقات هذه تجد في القُبلة تهديدا لوجودها ؟


10.1.2018