مخاطر الدولة الأمنية


فريدة النقاش
2018 / 2 / 4 - 19:44     



تتجمع الشواهد وتتراكم الوقائع التي تشير إلى النفوذ المتزايد للجهات الأمنية ومؤسساتها المتنوعة والمتصارعة فيما بينها. وهو نفوذ طبيعي ومتوقع فى ظل ما سميناه تجريف الحياة السياسية، بإفقارها وتهميش نشطائها، ومحاصرة المجتمع المدني ومؤسساته باعتبار ذلك كله زائدا عن الحاجة بل ومعطلا لعملية تعبئة المجتمع من وجهة نظر السلطة لمكافحة الإرهاب.
وتزداد الفجوة اتساعاً بين الخطاب الرسمي حول المواجهة الشاملة للإرهاب وبين الممارسة الفعلية التي قصرت المواجهة على العمليات الأمنية، وهي الحقيقة المؤلمة التي فتحت شهية بعض رجال الأمن لمخالفة القانون، والعودة إلى الممارسات القديمة التي اتسمت بالتوحش ضد مواطنين أبرياء حيث كل مواطن هو مجرم محتمل، وكائن من الدرجة الثانية، ومن المعروف أن مثل هذه الممارسات البغيضة كانت أحد الأسباب الرئيسية لانفجار الموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير2011.
وعندما أيقنت الجماهير أن حكم الإخوان فى العام المشئوم الذي استولوا فيه على السلطة قد سار فى اتجاه القمع المنظم وباسم الدين ضد المخالفين فى الرأي والمطالبين بالحريات الديموقراطية، انفجرت الموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيه 2013، لتزيح الرئيس الإخواني كما سبق أن أزاحت الموجة الأولى الرئيس الذي كان يحمي الفساد، ويخطط لتحويل مصر إلى جمهورية وراثية بمنح ابنه منصب رئيس الجمهورية على طريقة حافظ الأسد فى سوريا.
كانت الموجات المتعاقبة للثورة فى العمق منها تعبيراً موضوعياً عن انسداد الأفق السياسي أمام الجماهير المصرية المتعطشة للتغيير، إذ استحال خلال ستين عاماً او يزيد إجراء التغيير عبر التداول السلمي للسلطة، وهي السلطة التي روجت بكل السبل لمقولة أن الشعب المصري غير مؤهل للديموقراطية، وابتدعت سلطة يوليو معادلتها السياسية التي قايضت فيها الحريات العامة من حق التعبير لحق التنظيم وحق الاعتقاد مع بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية من مجانية التعليم للتأمين الصحي الشامل للتحكم فى الأسعار، وكانت هذه المقايضة مقبولة ومفهومة جيدا للمصريين الذين ساندوا الموقف التحرري المستقل المعادي للاستعمار والصهيونية الذي اتخذته السلطة الناصرية.
وكشفت مأساة الهزيمة فى 1967 عن الثمن الفادح الذي دفعه الشعب المصري جراء «تأميم» الحريات العامة، وغياب الرقابة الشعبية، والصراع الضاري على المصالح الشخصية والسلطة داخل الدوائر المغلقة للنظام بعيدا عن الناس، حتى أن الرئيس «عبد الناصر» أدرك مبكرا حتى قبل وقوع الهزيمة، أن اختيار نظام الحزب الواحد ومحاصرة الحريات لم يكن هو الحل الناجع المطلوب، وأنه يستحيل أن تسير أمور البلاد بنفس الطريقة وأنشأ ما سماه التنظيم الطليعي داخل الإتحاد الاشتراكي، وكان تنظيما شبه سري.
تبين إذن ربما بعد فوات الأوان أن استبعاد قوى الشعب كطرف فاعل فى المجال العام وفى الحياة السياسية على نحو خاص لن يقود إلا إلى التهلكة.
ولكن أحدا لم يتعلم الدرس، وكأننا نبدأ دائماً من الصفر وندفع بالجماهير دفعاً إلى ابتكار الأطر خارج القيود لوضع الأهداف العامة للموجات الثورية المتعاقبة موضع التنفيذ إمتدادا لتاريخ مصر الحديث منذ هزم المصريون الحملة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن مروراً بالثورة العرابية، وثورة 1919، وثورة 1952 وموجات الاحتجاج الهائلة التي اجتاحت البلاد طولا وعرضاً وقدمت تضحيات غالية من شهداء ومصابين، وتعرضت الطلائع للاعتقال والتعذيب فى السجون والتجويع حين كانت الدولة الأمنية تطور أدواتها، وتستولى على المجال العام، وتلحق أضراراً فادحة أولها وأخطرها ما يتعلق بالجروح التي تتعمق فى الشخصية الوطنية المصرية، وهي جروح غائرة أساسها الخوف العميق وأخطرها اللامبالاة، وهي جروح تطول الذين تعرضوا للأذى المباشر من سجن وتعذيب وإذلال، وتطول أيضا الذين لم يتعرضوا لهذا الأذى لكنهم ظلوا شهوداً عليه، وأصبح شعارهم هو «المشي جنب الحيط» وهو ما تترجمه الدولة الأمنية باعتبار هذا الصمت تأييدا لها، ورضا بما تفعله، وتزداد الفجوة إتساعا بين الحكم والناس، وبين الأقوال والأفعال، وبين الشعار والممارسة، ويبحث علماء الاجتماع والنفس عن الأسباب العميقة للتشوهات.
ويستشري الفساد كما كان، وتتعالى الأصوات التي تندد بالثورة وتعتبرها مؤامرة وتعاود قوى الثورة المضادة تنظيم صفوفها، ويتصدر بعض رجالها ونسائها المشهد العام كأنما يسخرون من أحلام الشباب الذين أنجزوا موجات الثورة إنتقاما منهم، ومن الشعب المصري كله.
لكن دوام الحال من المحال، هذا ما يقوله لنا التاريخ، ويتحمل المثقفون التنويريون الذين ناصروا الموجات الثورية فى كل مراحلها مسئولية جسيمة فى الظرف الراهن تتجاوز حتى ما كان مطلوبا منهم أثناء موجات الثورة وبلورة أهدافها وشعاراتها، المطلوب الآن هو أن تنفتح الأبواب الموصدة أمام الشباب لإاسترداد الثقة، وعدم النفور من صبر المصريين، وهم يعرفون أي الشباب يقينا أن الأهداف التي وضعوها مازالت فى حاجة إلى جهد كبير للدفاع عنها وإعادة زرعها فى وجدان المصريين الذين سبق أن احتضنوها، فالطريق لا يزال طويلا.