المشهد المصري: إنهم يأكلون البطيخ...


حسين محمود التلاوي
2018 / 1 / 22 - 19:18     

هذه العبارة ليست عنوانًا لقصة قصيرة ولا لسيناريو سينمائي، وإنما هي تعبير عن الوضع القائم في المشهد المصري. الواقع يقول إن هناك بطيخة موضوعة على إحدى الموائد، وإن هناك مجموعة تتصارع على تلك البطيخة لغرض التهامها. فما هي تلك البطيخة؟! ومن هم الذين يتصارعون على التهامها؟!

ما بلادنا إلا بطيخة كبيرة
البطيخة هي مصر بكل ما فيها من ثروات وحلاوة وعذوبة وإشباع. نعم، هذه الأوصاف تنطبق على مصر؛ لأن مصر بالفعل فيها من المقدرات ما يجعلها تتسم بهذه الأوصاف رغم كل ما تعانيه منذ عقود من عملية استنزاف شاملة. يقول المثل الشعبي المصري إن الوردة مهما ذبلت، تبقى رائحتها الزكية تفوح منها. وهذا هو شأن مصر.
مصر هي البطيخة الموضوعة على المائدة، ولكن هناك الكثيرين الذين يتصارعون عليها. فمن هم هؤلاء الكثيرون؟! هم أصحاب النفوذ أو أكابر البلاد أو "الكُبَرَات" كما يطلق عليهم في التعبير الدارج. هؤلاء الكبار هم ثمرة التزاوج القذر بين أهل السياسة وأهل المال، وهو التزاوج الذي راح يزداد عمقًا إلى درجة وصل معها الأمر إلى أن أصبح التمييز صعبًا بين أهل السياسة وأهل المال، وبات من السهل للغاية أن تجد صاحب مال يمارس العمل السياسي مستخِدمًا أمواله ومن أجل أمواله!
هذا التزاوج بدأ بعد الانفجار السياسي الاقتصادي الاجتماعي المسمى "سياسة الانفتاح" التي اتبعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات؛ فكانت سياسة فتحت على مصر أبواب الجحيم المعيشي من فقر وتفاوت طبقي ونمو الطبقات الطفيلية وتزاوج بين أهل المال وأهل السياسة. وكان العمود الفقري لهذه المجموعة هو أهل السياسة والعسكرية المقربين من السادات الذين دعموه في مغامرته لتحقيق السلام الخرافي مع الكيان الصهيوني بالإضافة إلى دائرة أقرباء الأسرة الساداتية.
لكن أيضًا هناك أيادٍ لا علاقة لها بالنفوذ أو المال، ولكن لها علاقة بالسياسة تحاول أن تقطع جزءً من هذه البطيخة النضرة اليانعة. هذه الأيادي مستحدثة انطلقت في المجتمع المصري أيضًا في السبعينات من القرن العشرين بأوامر من السادات (فترة السبعينات في مصر كانت بالفعل فترة وبال على المجتمع المصري والعالم العربي وربما العالم بأسره)، وهي أيادي تيار الإسلام السياسي التي أطلقاها السادات لتضرب له بقايا الناصريين وتساهم في توطيد دعائم حكمه دون أن يدري أنها سوف تقضي عليه في النهاية.
انطلقت أيادي تيار الإسلام السياسي ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين لتحاول الاستحواذ على المشهد السياسي المصري في أعقاب ثورة يناير لتشارك أصحاب النفوذ المستقرين في مقاعدهم على المائدة حول البطيخة منذ السبعينات. ولم يغب الدعم الخارجي عن تيار الإسلام السياسي؛ فقد وجد فيه الغرب فرصة لغرس شوكة في خاصرة القائم على حكم البلاد مستغلين هذا التيار لوخز النظام بين فترة وأخرى والضغط عليه. ولكن النظام المصري أيام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك لعب لعبة الضغط من الاتجاه المعاكس؛ فاستغل تيار الإسلام السياسي لتوطيد دعائم حكمه في مواجهة ضغوط الغرب بالتلويح بالإسلاميين للغرب كبديل إرهابي له حال سقوطه.

ماذا عنَّا؟!
هذه هي البطيخة، وهؤلاء هم الجالسون حولها. ولكن ماذا عنَّا نحن المواطنون العاديون الذين يمكن تسميتنا "عامة الشعب"؟! ماذا عن عامة الشعب؟! أين موقعهم على المائدة؟!
الواقع يقول إن عامة الشعب لا يجلسون على المائدةـ، ولكنهم يجلسون على الأرض أسفل المائدة ومن حولها، وكل دورهم هو تفادي قشر البطيخ الذي يلقيه السادة الجالسون حول المائدة. وسعيد الحظ من عامة الشعب هو من تسقط عليه قشرة بطيخ لا يزال فيها قطعة من البطيخة ذاتها، ربما نسيها من ألقى القشرة، وربما تركها بغية تركيز عامة الشعب حول مقعده لحمايته من السقوط إن حاول أحد الجالسين إزاحته من على المائدة.
كذلك صار عامة الشعب يتبعون حيلة دفاعية يمكن تسميتها "استراتيجية تفادي البذر"؛ فالبطيخ يحوي الكثير من البذر الذي لا ريب يؤذي آكله، ومن ثم يحاول التخلص منه ببصقه هنا وهناك، وما على المصريين الجالسين على الأرض أسفل المائدة وحولها إلا أن يتفادوا البذر؛ فالبذر صغير ويسقط فجأة، ومن المؤلم تلقيه في الأعين!!
الواقع الآن يقول إن هناك من استطاع أن يزيح الكثيرين من على المائدة، ويبدأ في تناول البطيخة منفردًا، ولكن هل يستمر الحال هكذا؟! هل يستمر بمفرده في تناول البطيخة؟! ألا يمكن للبطيخة أن تنتهي؟!
لنبدأ بمسألة انتهاء البطيخة. الجالس على المائدة يتسم بالحصافة فهو بين الحين والآخر يغري عامة الشعب باستخدام البذر الذي يلقيه لزراعة المزيد من البطيخ ملقيًا ببعض القشور المتبقي فيها أجزاء من البطيخة كمكافأة على الجهد المبذول في زراعة البطيخ.
لكن... هل يستمر في تناولها منفردًا؟! الواقع يقول إن هناك محاولات إن لم يكن لإزاحته من على المائدة، فهي على الأقل لجعل هناك من يشاركه في تناولها. ولكن هذه المحاولات من الخارج باستخدام أصابع داخلية، ولكنها ليست من الداخل الحقيقي؛ وأقصد أنها ليست من عامة الشعب. لماذا؟!
لقد تعلم عامة الشعب درسًا مهمًا، وهو ألا يحاول إزاحة الجالس على المائدة؛ لأن الثمن سوف يكون باهظًا، وهو المزيد من البذر مع الكثير من القشر الخالي من قطع البطيخ، مع الإجبار على زراعة البذر لطرح المزيد من البطيخ لتعويض نقص المحصول بسبب انشغالهم بمحاولة إزاحة الجالس على المائدة. كذلك أدرك عامة الشعب أن الإزاحة بالجالس على المائدة لن تأتي بهم إلى مقاعد الطعام، بل ستأتي بشخص آخر ربما يكون أكثر شراهة لتناول البطيخ.

الحل؟!
ليس من المنطقي ارتقاب حل وسط لهذه المعضلة، ولكن المحتمل هو أن ينقض عامة الشعب على المائدة ليهزوها فيسقط الجالس عليها، ويعتلي عامة الشعب المقعد بدلًا منه، ولكن... هذا الحل لن يكون مرغوبًا، إلا إذا ضاق الحال بشدة، وهو الأمر الذي يحاول كل الجالسين على المائدة أن يتلافوه بإلقاء المزيد من القشر الذي يحمل قطعًا من البطيخ، كلما شعروا بازدياد اهتزاز المائدة.
هل يمكن ارتقاب حل آخر؟!
في المدى المنظور لا يوجد حل. هذا ليس تشاؤمًا، ولكنه إقرار بواقع. لا يوجد حل. وهذا التقييم يعتبر عادلًا، إذا ما قورن بتقييم من يرون أنه لا توجد أزمة في هذا الوضع!!
وإلى هذا الحين، وإلى حين تسوية المشكلة (ليست تلك الممثلة في هذا الوضع، ولكن المشكلة الممثلة في تحديد ما إذا كان الوضع القائم يمثل أزمة أم لا!!) سوف يستمر الجالس على المائدة في تناول البطيخة، ويستمر عامة الشعب في زراعة البطيخ... وتفادي البذر!!