العراق: احلام والوان


مالوم ابو رغيف
2018 / 1 / 17 - 19:34     

في مرحلة التحضير للاطاحة بالهمجي البدوي صدام حسين الذي يعتبره التونسيون والمصريون شهيد الامة العربية بينما يطلق عليه الفلسطينيون لقب سيد الشهداء ويقيمون له سرادق العزاء السنوية ويشيدون له النصب والتماثيل ويسمون مدارسهم وشوارعهم باسمه، كان الشخصيات التي تحكم العراق الآن تظهر على شاشات التلفزة التي مولها الامريكيون والكويتيون والسعوديون لتبشر العراقيين بان سقوط الهمجي صدام حسين هو بداية ليابان عراقي، وان بغداد ستكون طوكيو الشرق الاوسط وستكون اكثر عمرانا وجمالا من دبي وسيعيش العراقيون في نعيم ورخاء وسينعمون بالسعادة والهناء.
صدّق اغلب العراقيين الدعايات المدروسة بعناية لمداعية مخيلتهم في الانعتاق من جحيم البعث وليعرفوا الوانا اخرى للحياة بهيجة كالوان قوس قزح غير اللون الاسود الذي اعشاهم فيه بطل الامة العربية دهرا ظنوا انه لن ينتهي، اعتقدوا انها فرصة العمر، والفرصة لا تاتي الا مرة واحدة، ان تأتِ امريكا بقضها وقضيضها العلمي والفكري والديمقراطي لتبني عراقا لبراليا ديمقراطيا انسانيا حضاريا مزدهرا، ولماذا لا وهي ام الديمقراطية والحرية والانسانية واللبرالية( اللبرالية، الكلمة التي اصبحت اسماء لاحزاب وعناوين لمؤتمرات ولمقالات وندوات وشعارات يجترها القطيع وقادته في كل المناسبات)
ليس العراقيون وحدهم الذين صدقوا بان العراق سيغدو يابان الشرق، فالشعوب المحيطة صدقت بالحلم او الحمل الكاذب وامتدحت الدادة الامريكية على رعايتها للجنين وان لم يولد بعد وحسدت العراقيين على حظهم وتمنت لو ان الدادة الامريكية اكملت مهمتها وشملتها برعايتها.
ارسل الامريكيون الدبابات والطائرات والمدافع والبوارج والصواريخ عابرة القارات والاقمار التجسسية والاف مؤلفة من الجنود والمرتزقة مسنودين باحدث ما يمكن تصوره من وسائل الفتك والقتل والدمار لبناء الديمقراطية في العراق وانشاء يابان جديدة من الخراب والدمار. لم يرسل الامريكيون مهندسين ولا علماء ولا خبراء ولا بنائين ولا فلاسفة ولا اساتذة ولا فنانين، ارسلوا جنرالات متعجرفين وشركات امنية متمرسة بالقتل والفتك لتحقيق الحلم الديمقراطي.
اما ايران فقد ارسلت الاف المعممين الذين لا يعرفون الا الله واهل البيت، تسللوا من مختلف المنافذ ليثقفوا العراقيين بالحلم الاسلامي الايراني ويشيعوا ما اسموه باسلام ال البيت، بينما ارسلت السعودية اطنان الكتب لابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وبن القيم الجوزية وبن باز لنشر حلم الاسلام الوهابي والوقوف ندا قويا ضد ايران، فكان اساس الحرب الطائفية التي لم تخمد نيرانها بعد.
كامرة الـ cnn في غداة اسقاط النظام الصدامي كانت تتجول بين ازقة بغداد لترصد فرحة الناس واشكال التعبير عنها، ومن اشكال التعبير كان نهب المؤسسات الحكومية ونهب البنوك ونهب المتاحف وانتشار الحرائق في الوزارات واهم دوائر الدولة، ومع انها لم تكن تعبيرا عن الفرح، بل شكل من اشكال التدمير المخطط سلفا، الا ان رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي آنذاك اسماها الفوضى الخلاقة. كامرة الـ cnn استقرت على حشد من الشباب يقفون امام جامع وهم يلطمون صدورهم بكل حزم وقوة وتصميم وعندما سأل مذيع الاستوديو عن السبب، هل هو حزن على سقوط صدام، كان الجواب ان بعض العراقيين يعبرون عن فرحتهم بالحزن وباللطم والبكاء.
الدول الاوربية ارسلت ازلامها فتقاطروا من كل حوب وصوب، وقدم ازلام المعارضة العراقية محمولين وراجلين، برا وبحرا وجوا، وصفتهم الفضائيات العربية، بانهم اولاد العلقمي جائوا على ظهور الدبابات الامريكية.
لم يعترض حزب او منظمة او فصيل سياسي او اجتماعي او ديني على مجلس الحكم، وهو لملوم من ازلام وانتماءات طائفية وعشائرية وقومية شتى، اسسه الامريكيون ومنحوا اعضائه امتيازات مالية فاحشة.
أمتدت فترة وجود مجلس الحكم بصلاحيات محدودة من 12 تموز/يوليو 2003 م ولغاية 1 حزيران/يونيو 2004 م. المعترض الوحيد على مجلس الحكم كان التيار الصدري. لم يكن الاعتراض رفضا للفكرة، ولا لانه مبني على اسس طائفية وقومية، ولا لانه غير وطنيا، بل لأن الامريكيين استثنوا الصدريين ولم يختاروا منهم ممثلا لمجلس الحكم، ربما كي لا يزعجوا مرجعية السيد السيساتي التي يبادلها الصدريون الخصام والعداء. خرج الصدريون بمظاهرة لفت شوارع بغداد واستقرت عند ساحة الفردوس مرددة هتاف
مجلس الحكم ما نرتضيه ما بيه قائد حوزوي
والحوزة هنا هي حوزة السيد محمد صادق الصدر الناطقة وليست حوزة السيستاني الصامتة.
ولكي تكتمل مهزلة لملوم مجلس الحكم قررت سلطة الاحتلال ان يكون للعراق في كل شهر رئيس جديد يُختار حسب اولية الحروف الابجدية حتى لا يزعل المتاخر في الرئاسة على المتقدم فيها وخاصة بين الشيعة وبين السنة..
هي المرة الاولى في تاريخ البشرية ان يتعاقب هذا العدد من الرؤساء على حكم بلد في فترة اقل من سنة وهم:
• محمد بحر العلوم (بالانابة)
• ابراهيم الجعفري
• احمد الجلبي
• آياد علاوي
• جلال الطلباني
• عبد العزيز الحكيم
• عدنان الباججي
• محسن عبد الحميد
• محمد بحر العلوم (مرة ثانية)
• مسعود البرزاني
• عز الدين سليم
• غازي الياور
مجلس الحكم كان الاساس التي بنيت عليه المحاصصة بشقيها الطائفي والقومي ودولة المكونات الفاسدة.
جوابا على انتقاد التقسيم الطائفي والقومي، كان رد جميع اعضاء مجلس الحكم الـ 25 هو ان العراق يتألف من مكونات، سنة وشيعة وعرب وكورد ولا يمكن لنا الا اخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار. ذلك يعني ان الشخصيات الهزيلة الممثلة في مجلس الحكم لم تكن تفكر بان العراق دولة وان المواطنة هي اساس الانتماء وليس الطائفة او القومية.
وعلى هذه التقسيم(الطائفي والقومي) كُتب الدستور بجميع احكامه فكان ايضا من اسباب الخراب الذي حل في العراق.
لكن اين اصبح حلم العراقيين بطوكيو الشرق ودبي الثانية؟
كان الرد دائما هو انهم ما زالوا في بداية الطريق ويحتاجون الى مزيد من الوقت.
ترأس ابراهيم الجعفري الحكومة الموقتة( الذي قال عنه رفيقه في حزب الدعوة الفاسد موفق الربيعي) بانه( اي الجعفري) لم يكن يملك شروى نقير وكان يعتاش على المساعدة الاجتماعية التي تمنحها الدولة للعجزة والمسنين والمرضى النفسيين، بينما يملك الآن عقارات ضخمة في لندن وفي دول الخليج وتعج حساباته البنكية بمليارات الدولارات فمن اين اتى بهذا الفحش من الاموال!!. واتهمه بانه لا يصلح لاي منصب كونه مصابا بالزهايمر او الخرف)
استلمت الحكومة المؤقتة السلطة في 30 حزيران وانتهت ولايتها بعد أختيار الحكومة الانتقالية بعد الانتخابات الاولى 3 مايو 2005.
استلم اياد علاوي رئاسة الوزراء واعاد حكم الاعدام الذي اوقفته سلطة التحالف وشن حرب ناجحة ضد اوكار الارهاب في الفلوجة وضد الصدريين في النجف ومدينة الثورة الذين كانوا يتعاونون انذاك مع التيارات الوهابية الارهابية تحت يافطة مقاومة الاحتلال. وكان هذا اساس الحقد الصدري على ايادي علاوي وعلى المالكي فيما بعد لمحاربته اياهم في ما اسمي بصولة الفرسان في البصرة.
نسى العراقيين الالوان ولم يروا غير اللون الاحمر، لون الدم، كانوا يروه مسفوحا اينما ذهبوا وحلوا، على الطرقات في الازقة وفي الحارات في البنايات في مدارس ورياض الاطفال في الجوامع وفي المزارات المقدسة في السيارات وفي المجاري وحاويات النفايات في الاعراس وفي الحفلات وفي الاعياد والمناسبات والانتخابات.
بعد ان استلم الجعفري الحكومة الانتقالية ابتدات الحرب الاهلية بين السنة وبين الشيعة وابتدأ مسلسل التهجير والتهجير المضاد وشاعت رسائل الموت ظروف تحتوي على رصاصة باشارة الى التهديد بالقتل ان لم تغادر العائلة البيت وتهجر المنطقة.
كان العراقيون يصحون على صباحات كأن الدنيا فيها قد امطرت جثثا، جثث مثقوبة وجثث بلا رؤوس وجثث بلا اطراف وجثث اطفال وجثث نساء وجثث شيوخ وجثث شباب. ولعل مذبحة جسر الائمة بين الاعظمية وبين الكاضمية شكلت اكبر معرض للجثث يراها العالم بالبث الحي المباشر. غطت الجثث الجسر الطويل بين المدينتين وانتشرت على اسفلت شوارع الاعظمية المؤدية الى الجسر، كانت جثث لنساء يرتدين العباءات السوداء في طريقهن لزيارة الامام الكاظم فبدا وكان الشارع قد رُصف بالجثث.
واستلم نوري المالكي السلطة بديلا عن الجعفري الذي رفضه الكورد والسنة، فكان اسوء خلف لاسوء سلف اختاره المتحاصصون. كانت فترة حكمة من اسوء الحقب التي شهدها العراق. كانت العوائل العراقية تعيش واقع الموت والقتل والاهمال هاجس يمشي فيهم كالنبض. تحولت احلام العراقيين الى مجرد حمدا لله على الاستمرار في البقاء على قيد الحياة اذا عاد الاب او الام او الابن او البنت الى البيت سالمين ولم يُقتل او يُفجر او يُذبح او يُختطف او يُغتصب عندما يتخطى عتبة الباب. واختتم البائس المالكي فترة حكمة بكارثة داعش التي حلت على العراق كما يحل الطاعون.
ومثلما رفض المتحاصصون الجعفري واتوا بالمالكي، رفضوا المالكي وجائوا بالعبادي بمفاجأة لم تخطر على باله، اذ لم يكن في حسابه يوما ان يصبح رئيسا للوزراء. تكفل الامريكيون ان يصنعوه بطلا باعادة المدن التي اضاعها حزبه (حزب الدعوة) واستولت عليها داعش، كان العراقيون يُقتلون وتتدمر المدن وسط زغاريد الانتصار. كل وسائل الاعلام جُندت لتنقل الفرح وتجنبت نقل مآسي القتل والموت والخراب، اذ ان الصورة الجديدة للمنتصر قد تبدلت ولم تعد صورت القائد الاسلامي الذي يمسك سيفا يقطر دما، انما صورته وهو يبتسم ويبشر الناس بالنصر المؤزر.
بماذا يحلم العراقيون الآن؟
بماء غير ملوث ودواء غير مغشوش وغذاء صالح للاستهلاك الأدمي.
بسلام وآمان واطمئنان، ان لا تقتلهم عبوة متفجرة او حزام ناسف او سكين غادرة او عصابة خطف!!
كلمة فساد غير كافية لوصف ما يحدث في العراق، ان ما يحدث هو انعدام للذمة وللشرف وللضمير انه غياب اي شعور انساني بالاحساس بقليل جدا من النزاهة، انه تأمر وقتل وارهاب وتدمير واغتصاب في سبيل الاثراء. حتى اخس العصابات اللصوصية في العالمية تملك ضميرا انزه مما تلملكه الاحزاب العراقية المتنفذة هي مثل الذي يغتصب امرأة وسط الساحات العامة دون خشية محاسبة بل ويزهو بفعلته.
لم يعد العراقيون يفكرون لا بطوكيو ولا بدبي ولا حتى بعمان او جيبوتي، الاسلاميون سلبوا من عيونهم كل الالوان، اعادوهم الى العتمة الى الظلام، ليس لان المدارس خربة ولا المستشفيات وسخة وتخلوا من الدواء، ولا لان الشوارع مدمرة ولا لانعدام الكهرباء وغياب الخدمات بل لان الفكر الديني المفروض فكر معتم، ستارة غليظة تحجب اشعة الشمس.