حقيقة الناسخ والمنسوخ في القرآن


أشرف حسن منصور
2018 / 1 / 16 - 13:51     

إن مسألة الناسخ والمنسوخ خدعة فقهية، تمكن الفقيه من إلغاء حكم قرآني بحكم قرآني آخر، بحجة أن الثاني نسخ الأول، أي ألغاه وأبطله؛ ودائماً ما يأتي الادعاء بالنسخ في سبيل حكم متشدد أو رؤية أكثر انغلاقاً. إن القول بناسخ ومنسوخ في القرآن يوقعنا في خطر بالغ، إذ أن هذا يعني أن القرآن يلغي بعضه بعضاً، وكأن دعاة النسخ يقولون "نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ" (النساء 150)، بل كلٌ من عند الله، وكلٌ متساو في القيمة. إذا كان هناك معطلة، فهم ليسوا المعتزلة الذين قيل عنهم أنهم يعطلون الله عن الفعل المطلق وعن صفاته، بل هم الذين يعطلون آيات بحجة أنها منسوخة، من أجل تفسيراتهم المتشددة وحكمهم القمعي. إن الاحتجاج بالنسخ تعطيل لآيات الله. وتتضح أغراضهم في قول الكثير منهم أن كل آيات السلم والتعايش بين المسلمين وغيرهم نسختها آية السيف، أي أن آية واحدة، نزلت في سياق معين وفي حالة خاصة جزئية، تبطل عمل آيات كثيرة تدعو للسلام والتعايش، والواضح طبعاً أن هدف هؤلاء الوصول إلى تفسير يبرر العنف والخصومة والحرب على المخالفين أو المختلفين.
والدليل على أن موضوع الناسخ والمنسوخ خدعة، أنه ليس هناك إجماع على الآيات الناسخة والآيات المنسوخة، بحيث يتبدل رأي الفقيه فيهما حسب الأحوال، ووقت اللزوم يُخرج لنا آية قيل عنها إنها منسوخة ليوظفها في غرضه. من هنا تصير طريقة الاحتجاج بالنسخ طريقة للتعامل مع كتاب الله بحسب الأهواء والمصالح الآنية، وفوق ذلك تلاعباً بكلام الله.
كيف يكون هناك نسخ في القرآن، والقرآن نفسه يقول: " مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29)" (ق 29)، "لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)" (يونس 64)، "سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)" (الإسراء 77)، "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)" (الأحزاب 62)، " فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)" (فاطر 43).
أما عن الآية التي يستشهد بها المناصرون لقضية النسخ، فهي لا تعطي أي رخصة لتعطيل آية بحجة النسخ، لأن النسخ المذكور فيها هو حق لله وحده وليس حقاً لفقيه كي ينسخ آية. بمعنى أن الله هو من له حق النسخ، لا البشر. حق النسخ هو لله وحده، ولا يحق لأحد من البشر أن ينسخ آية. لكن ماذا عن الآية التي تحمل في ظاهرها نسخاً لآيات آخرى؟ تأملوا معي آية النسخ: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)" (البقرة 106). لا تعني هذه الآية أن الآية الناسخة لآية أخرى تكون ضدها أو تحمل حكماً معاكساً لها، لأنها تقول "نأت بخير منها أو مثلها"، فالآية الناسخة هي إما خير من الأولى أو مثلها، وليست عكسها أو مناقضة لها كما اعتقد الفقهاء المناصرون للنسخ. والآية التي تكون خيراً من المنسوخة لا يمكن أن تكون الأكثر تشدداً وتصلباً، بل الأكثر تسامحاً والأرحم، والأفضل لصالح كل الناس.
والمصيبة أكبر لدى السلفيين الذين يقولون بنسخ السنة للقرآن، إذ يجعلون السنة بذلك، أي الأحاديث، مهيمنة على القرآن وحاكمة عليه ولاغية له، في حين أن العكس هو الصحيح. فكيف تكون الأحاديث التي هي ظنية الثبوت ظنية الدلالة حاكمة ولاغية لآيات القرآن قطعية الثبوت قطعية الدلالة؟ والبعض من هؤلاء السلفيين يقول إن القرآن أصل والسنة كذلك أصل، إذ يعالجونها على أنها أصل متساو مع القرآن نفسه، فكيف إذن نساوي بين كلام الله وكلام بشري منقول على لسان بشر؟ والبعض الآخر يقول إن القرآن أصل والسنة فرع، لكن هذا غير صحيح، لأن القرآن أصل وحده لا فرع له، لأنه ليس في حاجة إلى فرع. السنة ليست فرعاً بل هي حالة تطبيقية واحدة فقط، جزئية وخاصة بمجتمع معين في زمان معين هو مجتمع المسلمين وقت نزول الرسالة، والحالة التطبيقية الجزئية الخاصة المحكومة بزمانها ومكانها ليست أصلاً للتشريع وليست كذلك فرعاً، إنها حالة تطبيقية فقط، مشروطة بعصرها وطبيعة مجتمعها، إذا عممناها على غيرها من المجتمعات والأزمنة أخطأنا في التشريع وفي الفهم وظلمنا بالدين كل العصور اللاحقة.