اليسار دوره وموقعه في عالم عربي يتأسس من جديد (2-2)

علي غريب
2018 / 1 / 11 - 23:43     

**الأمريكي والسلفي
المشروع الاميركي لا يستهدف الاقتصاد وحده ولا السيطرة على الثروات والطاقة وحدها، ‏ولا الدول وجيوشها، بل يستهدف ايضاً إلغاء فكرة القومية والامة والوحدة والهوية العربية، ‏وهذه نقطةُ تقاطع هذا المشروع مع المنظومة الفكرية للإسلام السياسي السلفي الذي لا يعترف ‏بوجود أمّة وقومية وهويّة عربية، ويعتبرها بِدَعاً غربية نقلها عرب مشبوهون لحرف ‏المسلمين عن انتمائهم الديني، وليس في مخزونهم السياسي والثقافي الفكري سوى امة إسلامية ‏واحدة وشعارهم الحل بالإسلام وبالتالي لا يعني لهم شيئا اسقاط العروبة بكل مفاهيمها ‏ومفرداتها‎.


اليسار العربي اليوم أمام معركة تحرر وطني على كافة المستويات في مجابهة الاستعمار الامبريالي- الصهيوني وتدخلاته العسكرية المباشرة من خلال المعاهدات والقواعد العسكرية المنتشرة على ارض اكثر من دولة عربية، وفي مواجهة مشروع الفكر السلفي- الإرهابي. وهذا يقتضي قيام جبهات سياسية تقدمية يشكل فيها اليسار الرافعة التاريخية للمرحلة الراهنة كونه أمام مشاريع شديدة الخطورة بأهدافها اذا ما قُيّض لها النجاح، لأن المطروح فيها هو مصير الدول وحدودها وليس مصير الأنظمة القائمة فيها، ومطروح مصير شعوب تقتلع من أوطانها بفقرائها واغنيائها.
وأخطر ما في الامر تصفية القضية الفلسطينية وتأبيد تشريد شعبها العربي. فاليسار أمام إعادة بناء عالم عربي جديد تتأسس فيه من جديد الدولة العربية ونظامها السياسي الاقتصادي والقوى الطبقية المتحكمة فيه وواقع سيادتها واستقلالها وحدودها الجغرافية.
امام هذه المعطيات والاحداث والاحتمالات لا يمكن لليسار العربي ان يدخل بفاعلية اليها دون تقييم نقدي جدي لتجربة القرن الماضي ولا يمكن ان يحقق حضوراً اذا ما بقي على نفس الرؤى والاولويات النضالية التي اوصلته الى الازمة.
إن عليه تحديد مهامه بواقعية.
1.أولى هذه المهام في هذا الظرف التاريخي التوصلُ الى تحديد واقعي للمخاطر المحدقة الداهمة، وللاهداف الممكنة التحقيق. إنّها المهام التحررية والاجتماعية والسياسية والسيادية التي تمنع السيطرة الاستعمارية وتنقل بلداننا من حالة التخلّف، وعرقلة بناء دولة حديثة، من الاستبداد الى التقدم بكل المجالات. وهذا يقتضي التخلّي عن تحديد شعارات عامة وذات بعد استراتيجي في مؤتمرات الاحزاب دون أن تكون شروط تحقيق هذه الشعارات متوفرة على أرض الواقع.
2.وفي جانب آخر نرى أن اليسار العربي معنيّ بالنظر الى التطورات المتسارعة في العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والفكر وهذا يقتضي قراءة ماركسية منفتحة نابعة من تحليل واقعي وملموس للوضع العربي الاجتماعي والسياسي.
3.الانطلاق من شروط العصر الذي نحن فيه مع التأكيد على استمرار النضال من أجل التغيير عبر التفاعل مع شروط تجعل من النضال سبيلاً لتحقيق الاهداف. فالماركسية لم تتكلم على الشركات المعولمة المتعددة الجنسيات، ولم تتكلم على القيمة الزائدة إلا عبر عمال المصانع والمعامل بشكل رئيسي، كما أنها لم تتكلم إلا عن الطبقة العاملة كقوة ثورية لها مصلحة في التغيير الجذري مُتوِّجة ذلك بسلطة دكتاتورية البروليتاريا. فهل هذه المفاهيم والتحديدات ما زالت صالحة في عصرنا الراهن؟ ان مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى إعادة تحديد، وعملية التغيير لم تعد محصورة بالطبقة العاملة وحدها. فالقاعدة الاجتماعية التي تعاني من الاستغلال والفقر قد اتسعت وتعددت فئاتها، فالتحقت بالطبقة العاملة فئات اجتماعية جديدة تُشاركها الفقرَ والظلم والاستبداد والاستغلال والبطالة… وهي لا تقلّ حاجة الى التغيير عن الطبقة العاملة.
4.إن مجرد سماع كلمة دكتاتورية في عصرنا الراهن تثير الامتعاض والاعتراض. الا ان الماركسية سوف تبقى دليل اليسار وفلسفته لكنها ليست انجيلاً ولا قرآناً كما للمؤمنين.
5.لا يكفي أن يكون عنوان برنامج اليسار إسقاط أنظمة الطغمة المالية وبقايا الاقطاع في ظل هذا الواقع العربي المتداعي، فهو شعار استراتيجي دائم. إنما ينبغي تحديد المهام المرحلية المتدرّجة حيث تتوفر الامكانات والظروف لتحقيقها وصولاً الى تحقيق مهمة بناء الاشتراكية. لأن الامور والوقائع أكثر تشابكاً وتعقيداً من استنتاجات تقليدية سهلة قائمة على النظرية البحتة، فالبرنامج الثوري هو القادر على بناء مشروع يربط القضايا التحررية والوطنية بالاجتماعية في برنامج واحد وبمهام مرحلية قابلة للتحقيق.




**منظومة أفكار ورؤى


الانتفاضات والثورات الشعبية ستبقى في إطار ردّات الفعل على رئيس هنا او امير هناك او حزب هنالك ما دامت تفتقد الى برنامج ثوري لها. فبعد مرور سنوات على الانتفاضات لم تحقق ما كانت تهدف اليه كما انه ليس ما يؤكد على انها توقفت عند الحدود الراهنة من تحقيق اهدافها. لكن الثابت خلال هذه الفترة أن القوى التي تسلّمت الحكم لم تكن بأفضل من سابقاتها. فلا ثورات شعبية حقيقية دون برنامج مبني على العداء لاميركا والصهيونية ودون استهداف سلطة الطبقة الرأسمالية التابعة ودون مواجهة الإرهاب السلفي، وبالتالي لا يمكن لليسار أن يصبح بديلاً عنها فهو معني بتقديم منظومة من الافكار والرؤى الجديدة منها على سبيل المثال لا الحصر:
1.بناء الدولة العربية الحديثة: التي ينبغي ان تكون مهمة راهنة على جدول اعمال اليسار العربي، دولة قائمة على المواطنة الحقة وعلى قوانين ديمقراطية وعدالة اجتماعية ينفصل فيها الدين عن الدولة ومؤسساتها.

2.الوحدة العربية: تقديم مفهوم آخر للوحدة استفادة من التجربة وعدم تكرار قيامها على ردات فعل ورغبات فوقية، لتحقيق اتحاد بين دولتين أو أكثر دون النظر الى الواقع الاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول وطبيعة انظمتها والقوى الحاكمة فيها، بينما لا تكتمل الوحدة العربية ولا تتحقق الا بسياسة متدرجة واعتبارها حصيلة مصالح حقيقية بين شعبين أو أكثر يتم اختيارها بارادة الشعوب وبوعي ذاتي واستفتاءات شعبية ديمقراطية حقيقية.

3.الديمقراطية: ليست للشعوب العربية ودولها ثقافة ديمقراطية فهي تخلّصت من حكم عثماني دام حوالي اربعماية سنة تلاه حكم استعماري غربي، وكان التعبير الأبرز لديمقراطية الانظمة العسكرية متمثلة بانتخاب الرؤساء بنتائج 99.99% وبقوانين قمعية استبدادية وانتخابات شكلية تفتقد الى قوانين انتخابية تحقق وتحفظ التمثيل الشعبي النسبي في النظام وتؤدي الى فصل السلطات واستقلالية القضاء.

4.إعطاء مضامين واقعية وعلمية لمفهوم التنمية الشاملة والتكامل الاقتصادي ولمهام مراكز الابحاث والدراسات.

5.الدعوة الى تشكيل جبهة مقاومة يسارية عربية بكل اشكالها (العسكرية والثقافية والاقتصادية) من أجل تصحيح مجرى الصراع الدائر الذي يتخذ اشكالاً مذهبية واثنية.

6.إعادة الاعتبار الى القضية الفلسطينية على أنها قضية العرب جميعاً لأن وجود اسرائيل ووظيفتها ودورها لا يستهدف فلسطين وحدها ولا الشعب الفلسطيني وحده فضلاً عن كونها رأس حربة للمشروع الاميركي، وبالتالي فإن مواجهتها لا تعني الشعب الفلسطيني وحده، ويستحيل الفصل بين مواجهة اميركا ومواجهة الصهيونية، فهما وجهان لمشروع استعماري واحد، مما يستدعي مواجهة عربية شاملة تستخدم فيها كافة اشكال المقاومة،وبينها التحرّك الشعبي لاقفال سفارات اسرائيل ومقاومة التطبيع معها وصولاً الى إلغاء المعاهدات الموقعة مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة وانتهاءً بتحرير الاراضي العربية المحتلة واستعادة السيادة الكاملة عليها. فلا إحياء ليسار فلسطيني ينتظر نتائج المفاوضات العقيمة وحلولها أو مصالحات حماس وفتح، ففي الحالتين، إذا ما نجحت، ستكون على حسابه وعلى حساب فلسطين، وما عليه إلاّ أن يعيد الاعتبار للعمل الفدائي من جديد وللانتفاضات الشعبية.
وفي نفس الوقت على الحزب الشيوعي اللبناني ان يعيد بحث استعادة دوره في تحرير ما تبقى من اراضٍ لبنانية محتلة، كما انه من غير الممكن إحياء وتعزيز دور اليسار الشيوعي السوري بمختلف تنظيماته واحزابه في المستقبل وهناك أراض سورية محتلة ومنسية منذ 1967. فلا قيامة ليسار صامت وأراضيه محتلة وثروات بلاده تُنهب. هذا لا يعني ان اليسار العربي الآخر معفي من المواجهة الشاملة، لأن المشاريع المطروحة لا تستهدف بلداً بعينه، والصراع في أي بلد بات جزءاً من الصراع الشامل في المنطقة.
7. إحياء جبهة ثقافية يسارية عربية فالبلدان العربية لا تُستهدف بالعمليات العسكرية والحروب الاهلية فقط بل هي مستهدفة بمنظومة ثقافية متلازمة معها، فالمشروع الاميركي لا يستهدف الاقتصاد وحده ولا السيطرة على الثروات والطاقة وحدها، ولا الدول وجيوشها، بل يستهدف ايضاً إلغاء فكرة القومية والامة والوحدة والهوية العربية، وهذه نقطةُ تقاطع هذا المشروع مع المنظومة الفكرية للإسلام السياسي السلفي الذي لا يعترف بوجود أمّة وقومية وهويّة عربية، ويعتبرها بِدَعاً غربية نقلها عرب مشبوهون لحرف المسلمين عن انتمائهم الديني، وليس في مخزونهم السياسي والثقافي الفكري سوى امة إسلامية واحدة وشعارهم الحل بالإسلام وبالتالي لا يعني لهم شيئا اسقاط العروبة بكل مفاهيمها ومفرداتها.
ومن ناحية ثانية يواجه المجتمع العربي ثقافة الليبرالية الجديدة بشعاراتها “البراقة”. ولا سيما بين الشباب، “دعونا نعيش” و “حب الحياة” الخ. وتوسيع نشاط المنظمات غير الحكومية التي ترعاها الولايات المتحدة تحت عنوان “نشر الديمقراطية" في العالم (وهذه قد جرى اقفالها في عدد من دول اميركا اللاتينية). كما أننا نواجه سياسة النفعية الثقافية والارتداد عبر شراء الاقلام والعقول ووسائل الاعلام. فالمعركة الثقافية لا تقل خطراً عن المعارك العسكرية وما على اليسار الا مواجهتها باحياء جبهة عربية ثقافية تطال المفكرين والمثقفين اليساريين العرب ودعوتهم الى عقد مؤتمرات ثقافية مماثلة للمؤتمر اليساري العربي. على المثقف اليساري دور بالغ الأهمية في هذه المرحلة من أجل نشر وتعميم وتنمية مفاهيم الثورات التي إن لم تحتضنها ثقافة ثورية قد تفشل وترتد وتسقط مجدداً في أحضان البرجوازية. لا سيما ونحن نعلم أن هجرة واسعة حصلت للمثقفين من احزاب اليسار، وعودتهم لن تتم عبر النداءات بل عبر قضايا الحرية والتحرر ورفع الظلم ومواجهة المشاريع الاستعمارية والارهابية الداهمة.
من هنا تستدعي الضرورة إعادة البحث عن وسيلة إعلامية مرئية لليسار العربي. فالخليج العربي وشعبه غائب دائماً عن وثائق واهتمامات اليسار، فكيف يتم التوجه إليه والدخول الى بيوته، وكيف نواجه المشاريع المطروحة، وهي تمتلك الآف المحطات المسموعة والمرئية والمجلات والصحف التي تغزو البيوت على مدى أربع وعشرين ساعة يومياً واليسار لا يمتلك وسيلة اعلامية واحدة؟!
فهل اليسار قادر على الخروج من أزمته وأخذ موقع ريادي وطليعي في قيادة المرحلة القادمة؟
فذلك مرتبط بقدرته على نقد التجربة التاريخية السابقة وعلى تجاوز أزمته، وهو لا ينطلق من فراغ بل وراءه تاريخ نضالي طويل ومخزون ثقافي غني وخبرة تنظيمية تشكل أساساً لتجديد المشروع اليساري العربي انطلاقاً من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر الوطني باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تطورات المجتمعات في المرحلة القادمة، من خلال قراءة ماركسية منفتحة ومتجددة، بما يؤدي الى وضوح العلاقة بين خصائص الفكر الماركسي وقوانينه كمرشد للتغيير وبين خصائص الواقع العربي الملموسة. (انتهى)