هل تعرض النبي محمد فعلا للإضطهاد من طرف قريش؟


محمد مسافير
2018 / 1 / 11 - 02:33     

غالبا ما يشكوا المسلمون من إساءة فهم دينهم، لكن القليلون جدا منهم من يعلم يقينا حقيقة التاريخ الإسلامي وحقيقة نبيهم محمد، ما يثبت فعلا أن أكبر إساءة فهم هي التي تكونت في أذهان المروجين لسلام الإسلام!
سنحاول من خلال هذا المقال، دحض الأفكار التي يروج لها المعاصرون من مفكري المسلمين، وذلك اعتمادا فقط على أول الكتابات التي دونت حول حياة الرسول، سيرة ابن إسحاق/ابن هشام، والصحيحين مسلم والبخاري، والطبري. كمراجع معتمدة ومحترمة لدى أغلب الأكاديميين المسلمين. رغم أن القراءة النقدية تستوجب استحضار تأريخ ثلاثة أطراف: الطرف المؤيد والطرف المعارض والطرف المحايد، لكن ولأن التاريخ الإسلامي بصم وجوده بالدماء، وعلى جثت الأبرياء شيدت حصونه، فلابد للمنتصر أن يطمس الحقائق التي تتعارض مع مصالحه، ولا بد له أيضا أن يبتكر الأكاذيب التي قد تساعد في تثبيت صروح استبداده، ورغم ذلك، لن نعتمد مرغمين، إلا على ما قد بلغنا من السلف "الصالح" الأول!
ولأولئك الذين ينزعون المصداقية عن هذه الكتب أقول: ما هي مراجعكم؟ وسيصرخ القرآنيون بأعلى صوت: لا نعترف إلا بكتاب الله عز وجل المحفوظ في اللوح المحفوظ.
ودون أن نزيغ عن صلب الموضوع، إلى نقاش مدى صحة مقولة الحفظ هذه، فسنجيبهم بالقول الآتي: القرآن ليس إلا معان وإشارات تاريخية متفرقة وغير منتظمة، لا يتحقق فهمها دون الاعتماد على سياقات النزول، وإلا فإننا سنقتصر على جعل أغلبه آيات تعبدية نرددها كترانيم لا نستوعبها، وهذا أمر يخالف أيضا الأمر القرآني: تدبروا...
أما أولئك الذين يرفعون شعار العقل قبل النقل، فهذا منهج مضلل وغير علمي إطلاقا، لأنه ينطلق من مسلمات عاطفية، مرتبطة أساسا أو مثالا بكون محمد أشرف الخلق، وبناء على ذلك، فإن أي جرم منسوب إليه هو مجرد تلفيق لا يليق بشخصه الشريف، بينما يقبلون دون تأجيل، أي فضيلة منسوبة إليه، لأنها طبعا لا تخالف المنطلق: أشرف الخلق!
تدعي الأساطير المعاصرة: أن النبي محمد عانى الويلات على يد المشركين في بدايات الإسلام، واعترضوا سبيل دعوته، لكن على عكس ذلك، تؤكد المراجع الإسلامية، وفي أكثر من مناسبة، أن أهل مكة كانوا جد متسامحين مع محمد في دعوته لدين جديد، إذ أن مكة كانت مجتمعا منفتحا تتعايش بها مختلف الديانات: الوثنيون واليهود والمسيحيون كانوا يعيشون جنبا إلى جنب، وتتعبد كل طائفة كيفما شاءت، خاصة في الأشهر الحرم، حيث يقطع الوثنيون أميالا طويلة لأداء مناسكهم في الكعبة.
إذن فلنتساءل، ما الداعي الوحيد الذي كان لدى المكيين حتى يسعوا إلى اضطهاد محمد؟ هل فعلا لأنه جاءهم بالحق وهم كارهون له وعاشقون لنار جهنم؟ أم أن خطابه أو دعوته لم تكن لائقة شكلا على الأقل؟ أما أن تكون معارضتهم مجرد ريبة من دين جديد فهذا أمر غير مطروح، لأن ادعاء النبوة كان حدثا اعتياديا في تلك المنطقة، فقد سبقه إليه من أسماه شيوخ المسلمين بمسيلمة "الكذاب"، وقد استطاع استقطاب حشود من الأتباع دون إراقة قطرة دم، ولم يسمى بمسيلمة إلا لأنه كان مسالما جدا ورافضا لأي اعتداء مهما قل أثره، لكنه وللأسف، قتل لاحقا على يد المسلمين المسالمين غير الكذابين!
بشهادة الطبري وابن إسحاق، فقد كانت قريش تصرح أنها لم تلق مشاكل أبدا كالتي أثارها محمد بن عبد الله من محاولات لزرع الفتنة والانقسام واحتقار آلهتهم ووصف عادات أجدادهم بالجنون. لم يكن ذلك مجرد إهانة للمكيين ولتقاليدهم، بل كان تهديدا مباشرا للاقتصاد المحلي الذي يعتمد خصوصا على الهجرة السنوية، حيث كانت شعوب المنطقة متحمسة إلى السلام الذي ينعش تجارتها، لذلك، وحسب الروايات الاسلامية دائما، فقد عرضوا المال على محمد كي يتوقف عن إثارة الفتن، لكنه رفض!
دليل آخر على أن المكيين لم يكن لهم أي مشكل مع التعايش مع الإسلام، هو حادثة ما يعرف برواية الآيات الشيطانية "أرأيتم اللات والعزى, ومناة الثالثة الكبرى, تلك الغرانيق العلى, منها الشفاعة ترتجى"، فحين سمعها المكيون هللوا وأبشروا لما تحمله الآيات من معاني التقارب بين أديانهم ودين محمد، ثم قصدوا المسجد وصلوا مع المسلمين! قبل أن يتراجع محمد عنها بعد أن استنكر أتباعه التناقض الذي سقط فيه بين الدعوة إلى التوحيد والاعتراف بالأصنام كوسائط إلهية، تراجع عنها متدرعا بوساوس الشيطان "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" سورة الحج - 52
عكس ما تروج له أساطير المشايخ، فمحمد لم يتعرض لأي تعذيب قاس من قبل الذين كفروا به، حيث كان ينعم بحماية عمه أبي طالب، فقد كان أسياد مكة يتوجهون إليه طالبين منه أن يمسك عنهم ابن أخيه الذي لا يكف عن لعن آلهتم والسخرية من إرث أجدادهم. فقد جاء في رواية الإمام البخاري (3678) أن عروة بن الزبير رحمه الله قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .قَالَ : رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا . فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ
وواقعة الخنق هذه جاءت بعد أن طفح الكيل وبلغ النبي من التعدي مبلغا حتى طفق يهددهم ويردد على مسامعهم "إني جئتكم بالذبح"، إنها دعوة صريحة للإرهاب بعد أن كانت ساكنة هذه الأرض تنعم بالسلم والسلام، كيف تريدهم أن يستقبلوا هذه الإشارة الخطيرة! بالورود والزغاريد، ثم إن ردة فعل أحدهم هذه لم تكن شيئا بالمقارنة بما كان يتوعدهم به! فلنكن عادلين ومنصفين في الحكم!
وقد جاء أيضا في الصحيحين في موضوع أشد ما صنع المشركون بالرسول: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع.
هذين الحادثتين هما أسوء ما تعرض له النبي محمد على يد قريش، رغم أنه كان شديد الضعف حالها ولم يكن له ظهر يحميه، خاصة بعد وفاة عمه أبو طالب، تخيل، شخص خرج عن الجماعة، ويشتم مقدسات الناس علانية، ويهدد السلم والأمان اللذان كانت تعيش فيهما المنطقة، ويتوعدهم بالذبح، ورغم ذلك، لا يلقى إلا حادثتين عرضيتين صدرتا عن أفراد، أما القرار السليم (المؤسساتي لأنه صادر عن سادة القوم) فكان طرده وإبعاده دون أذيته أو قتله، فربما كان ذلك أمانا له أيضا، لأن الاستفزاز الذي لم يكن يتوقف عنه ساعة لا بد أن يثير ردة فعل غير محسوبة من أحد الأفراد!