سمير صالح الذي عاد من جحيم أقفاص الأسر إلى جحيم العراق!


شاكر الناصري
2018 / 1 / 7 - 02:38     

حين تمكنتُ من معرفةِ الناس والثقافة والكتب والصداقات بشكل جدي، كان سمير صالح يُقاد إلى قفصٍ بعيد ومخيف من أقفاصِ أسرى الحرب التي اندلعت في 1980، بين العراق وإيران، سمير الشاب والمعلم الذي يحلم بالاختلاف عن السائد، وهو يسترشد بنصائح صديقه ومعلمه " محمود البريكان"، الذي وصفه بالمشاغب وكثير الأسئلة الذي يتوجب عليه كتابة أسئلته بقصيدة ما، يُغيب ويُعزل في دهاليز تشهد على حجم معاناة الأسرى والجحيم الذي عاشوه!

في ذلك الوقت، لم ألتقِ بسمير، ولا بغيره من الأسماء التي يتم ذكرها، في كلِّ جلسة وفي كلِّ لقاء، كونها من الأسماء التي تميزت بثقافتها ووعيها وصدقها ويساريتها ورقيها واختلافها عن السائد الذي كان يبتلع الأخضر واليابس يطالب الجميع بالبيعة لصدام! وحين عدتُ، في أول زيارة لي إلى مدينتي الناصرية في 2012، التقيته في مقهى مسلم، ( وهو مقهى يجمع مثقفي الناصرية ) قال: كنتُ أنتظرك!، فقلتُ له: كنت أنتظر لقاءك منذ عقود!

في 1981 وقع سمير، الشاب، والشاعر، والمثقف المتوقد المتمرد، وفي خاتمة المطاف الإنسان المرهف، في الأسر، فالحرب لا تنجب سوى الاسرى والقتلى وسجلات طويلة وعريضة تعجُّ بأسماءِ المفقودين وحتى هذه اللحظة، وليقضي في تلك الأقفاص 18 سنة من عمره، 18 سنة من التعذيب والرعب والوشاية والكره الأسود، وحين خرج منها سالمًا في 1998، وعاد إلى مدينته، زادت لوعته وعذابه، فالمقارنة بين قفص الاسر، وبين بلد يُطحن كلَّ لحظةٍ تحت ماكنة القهر والاستبداد وصلف الدكتاتورية البغيض، ستكون مرعبة لشخصٍ عانى الأمرين مثل سمير صالح!

تدحرجتُ من الحرب
بعثراتٍ
وقلبٍ مدمى
وحكايات لن يصدقها أحد
لذلك
ارتقُ اللغة
أصنعُ منها فخاخًا
اسميها قصائد
وأروي لها ما حدث.

يقول: حين كنتُ في أقفاص الأسر كتبتُ أولى قصائدي التي أعتمدها حتى الان، القصائد التي أعتقد أنَّها أكدتني شاعراً وسط محيط مرعب بكلِّ تفاصيله، لكن تلك القصائد التي كنتُ أكتبها تحت وطأة معاناة يصعب وصفها، مثل الكثير من الأوراق والقصص والقصائد التي يكتبها الأسرى، كانت ضحية حملات تفتيش ومداهمات مستمرة يشنها حراس الأقفاص، فكلّ ورقةٍ يتمُّ العثور عليها يجب أن تُحرق، وكلّ حاجةٍ لا يفهمها حراس القفص يجب أن تُدمر، فما نحن بالنسبة لهم سوى كائناتٍ تستحق القتل والتلذذ بتعذيبها، كلُّ قصائدي حرقت، ما أحتفظ به حتى الآن، كتبته على رسائل الصليب الاحمر، كرسائل لأهلي في الناصرية!!! عن الأقفاص والأسلاك الشائكة التي تحيط بها، يقول:
الأسلاك الشائكة
لاتعرفها إلّأّ الطيور
وبعض من اصدقائي الحزانى.

سمير الذي عاد من جحيم الأسر في 1998، وقع في أسر جحيم العراق المدمر والمتهالك، فالبلاد التي غادرها ذات حرب، عاد اليها وهي ترتجُّ على وقع القصف والصواريخ الامريكية التي تعمل جاهدة على تأديب صدام حسين وتقليل قدراته العسكرية والتسليحية!!!، ولكنها، في مقابل ذلك تدفع بالملايين من العراقيين نحو الموت والفاقة والتشرد والإذلال تحت سطوة نظام فاشي ومتغطرس يتلذذ بالدم والموت وأجمل أفراحه حين يشنُّ الحروب!

ولأني عشت تجربة الحرب، الحرب بكلِّ تفاصيلها المريرة، ومخاطرها، وأهوالها، قلت له: لماذا لا تكتب عن تجربتك في أقفاص الأسر، فالناس هنا، الآن خصوصًا، تغيب عنهم، وقائع تلك السنوات، بل يتطاول البعض، بصفاقة ودناءة قل نظيرها، ليعتبر الآسرى من الخونة والعملاء...؟
وأنا أسأله عن تلك السنوات، كنت أراقب تعابيره، حراك يده، شعر يديه، فأتيقن أنّي ازاء إنسانٍ عاش محنة كبيرة، ليس من السهل، بالنسبة اليه شخصيا، تجاوزها، بل يعجز حتى عن الكتابة عنها بشكلٍ صريح! يخشى ان الكتابة، ستدفعه لا محالة لاستعادة وقائع تجربة مريرة بسنواتها وتفاصيلها وبؤسها!

حين تتحدث عن سمير، فسيشار إليه، كشاعر مختلف، وهو الذي عاصرعقيل علي، وعلي البزاز، وكاظم جهاد، وكمال سبتي...الخ وإن لم يشترك مع بعضهم بصداقات جدية. قاريء نهم وناقد جريء، ومثقف فذ. وحين تكون معه، في جلسة وحوار ما، وهو يتحدث حول قضية ما، تخص العراق والثقافة وسطوة الإسلام السياسي والخراب الذي يعمّ البلاد حتى تحول إلى ظاهرة عادية، وعادية جدا، يمكن العيش معها، ستشعر بأهمية هذا الإنسان الذي يمتنع عن الكتابة للصحافة بشكل مطلق، ستشعر بأهمية وجود مثقف نزيه لا ينتمي للسائد المباع والباحث عن لقب وشهادة أكاديمية تستر عورته..
........
من قصائده:
قال لي .. لا تمت
فأحملك معي في قاع النسيان
توسل كلّ رصاصة أن تعفيك
وتعفيني وعورة حزني
عشت ومات أبي
وها نحن معا
في قاع النسيان...
.................................................

حساء
مثل طفل نسينا طيرانه
مثل غد
تركناه إلى مذبحه
احصينا أجنة النار
دون أن ينهشنا مصير العربات
القافلة ومابعدها
من خرف ونسيان
نزلت في مراث عميقه

وفي أشد السنوات انحسارا
بعيدا عن فخامة الثلج
كان يولد تحت حكمة المصابيح
في منحدرات العالم
بعد أن غمر ابنة النمل والتراب
بسطوته

احيي ثوبك الاجمل
وتلك الابواب التي تفتحها المداخن
تلك الرغبة
والبلاد التي اختفت


وها هو ذا يقعي
متحدا بهز ائمة
لاثما انابيب الفراغ ونباحها

مطر في السلالم
وما من اثر للبلاد

فمن يدرك محنة كهذه
غير الموتى
وضحكاتهم
.......................................................
شتاء العربات المدور 1991

لماذا تساءل وجهُ النهارعن الموعد البربري؟
لِمَ اختارَ
للثلج لونا
وللبردِ صوتاً
وفي رقصةِ الرمل موتاً
وفيها يضئُ
اذا ما تدحرجَ من شرفة الارتباكِ
وقال لهُ النزعُ:
هلا اختصرتَ المسافةَ بعد الرقادِ،
وهلا منحتَ خيوطَ الفجيعةِ لونَ الرمادِ،

فكلُ المنازلِ تحتَ خواء القناني وزحف الوجوه الاخيرة
تجرُ تعاويذها في الجراح المريرة
لماذا استقامَ على طحلب اليأس ضوء الجزيرة

وفي موكب الشيخ
في خطوة الشيخ
كلُ المنازل..
كلُ القوافلِ..
حتى حطام الهواجس
حين تعرت على مذبح الاحتمال
أقامَ بها الجرح مرة
وضاع بها الجرح مرة
ولم تشحذ اليأس من عنفوان الوجوه
ولم تطلق السهد من منفذين
يضجُ بها والدخان
طريقُ الذهول البعيد
وما أن تعرى على قامةِ الرمل ضوءُ المسافة
اضاءَ لهُ النادلُ الغضُ اثرَ اليباسِ
كأساً فكأساً
وقوساً فقوساً
تدلى الى سلمِ الاحتباسِ
فكلُ المنازلِ تسقطُ في لحظةِ البرد
"إنَّ الطبيعةَ.. حين استدارت مع الرقصةِ المعدنية ... كان التقوسُ في المعطفِ الرث
..وجهُ الخليقةِ تحت الجدار المدور.. في الشاحناتِ .. يُعلب في واجهات الشحوبِ
...ولكنهُ الشيخُ
يسلبُ مني انتظاري
ويسلب مني احتضاري
يعلقني في نشيد الذبول
ويومئُ لي .. المركبات .... المرافئ

في المركبات التقاني جرحي الهجين
استعار قناعَ الحضارةِ
مجدا تسكع في الحافلات ..وفوقَ الكهوفِ
ذعر السلالةِ.. ذعر السلالات"

ـ يراني جنودُ التوهمِ عبرَ المحطات
في حانةٍ من ضجيج الفراغ
فما غير جنح الفراغ غدي
وما غير جرحي جناح
وفيهَ غدي يستريح

وما زال في الطين صمتُ الفصول
ونهرعلى جثةِ الامس يمضي
ـ يلوحُ بكف الغواني بريقُ السيوف
وفوق الرماحِ
تدلت ومن راسهِ الارضُ
تاخذُ شكلَ الفراغ
وشكلَ الذباب
وشكلاً من الوحلِ والانهيار

فهل يرقدُ الشيخُ دونَ الفرات
وهل يبدلُ الوجهُ لونَ الفرات
ويسألُ عن موعدٍ بربري
ليختارَ للثلج...للبرد لوناً
وفي رقصةِ الرملِ موتأ جديدا
...............................................

اقاص مشعة 2002

اناشدك
لامسك بحفيف الساعة
نغم الاشجار المنبعث من أزقة فجر
ضراوة الليل وغنائمه
ثم المنفى .... المنافي
المطر
الذباب وغيره

فهذا القلب المفعم بتحجرجناحيك
كان يصغي
يصغي محطما
يذرف ما تبقى من عصافيركثيرة

لضياع الغابات وخاتمة الأناشيد
لأجلك ضحكنا طويلا
وجلسنا نعد أصابع البكاء

لقليل من الاهمال
علقنا مناديل كثيرة

ما من أحد تحت الأوراق والدفاتر
ما من أحد يصرخ جانبا
لهذا القلب المستعاد بوحشية

فسموك يهبط .. يهبط
يهبط
يمتهن بأكثر من نيزك
الضميرالذي ارتكبنا خطوط معاصيه

بدائلنا في الضوء
انتزعت من الفوضى وهي تحترق
أيامنا على ذروة لهب يخفت

وأنت ماضية لأقاص مشعة
فكم تطرقين من الوقت
لأقول لك
المساء وحده يفاقم الحجر