من القدس الى طهران: دروس وعبر


حنا غريب
2018 / 1 / 5 - 17:27     


تميّزت الظروف التي رافقت إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني باحتدام الصراع على المستوى الدولي على أكثر من صعيد في مقدمها:


- إستمرار ازمة الراسمالية النيولبرالية، بالرغم من محاولة التغطية عليها من جانب الادارة الأميركية عن طريق تسعير الحروب وتنظيم المواجهات ضد الصين وروسيا وايران وكوريا، فضلا عن حركات المقاومة بحسب ما يمكن استخلاصه من "استراتيجية الأمن القومي الأميركي" الصادرة مؤخرا.
- تفاقم الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية حول العديد من الملفات، ومن بينها. اتصالات فريق حملة ترامب الانتخابية مع الروس، وسعيه لإلغاء يرنامج أوباما الصحي وخفض الضرائب على رأس المال الكبير، ومحاولته تقييد الحريات العامة وتعظيم المخاوف ذات الطابع العنصري من بعض المجموعات الإثنية الداخلية والمهاجرين الوافدين من بلدان معيّنة، لا سيما المسلمين منهم.
- إزدياد التباين بين القوى الامبريالية نفسها، لا سيما بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، حول العديد من الملفات، ومن ضمنها: محاولة الحدّ من حرية المبادلات التجارية خصوصا مع المانيا والصين، وتقييد حركة الهجرة الخارجية، والخروج من "اتفاقية الشراكة" مع دول المحيط الهادئ، والتراجع الفعلي عن "اتفاقية نافتا" واتفاقية باريس بشأن المناخ، والانسحاب مؤخرا من منظمة الأونيسكو، والتهديد بالتنصّل من الاتفاق النووي مع ايران، وتلميحاته الملتبسة تجاه "حلف الناتو"، هذا بالاضافة طبعا الى القرار المتعلق بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية اليها.

- تعزّز مؤشرات إنتقال العالم من القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الى نظام متعدد الأقطاب: مع تسجيل تقدّم ملحوظ لدول صاعدة من خارج الاستقطابات الامبريالية، لا سيما الصين التي تواصل تقدمها (كتجربة اشتراكية ذات خصائص صينية)، وكذلك مع تعاظم الدور الدولي لروسيا التي نجحت في التعاطي مع ملفات المنطقة التي تشمل، إضافة الى سوريا، كلّا من تركيا وايران ومصر، من دون استثناء بعض الخروقات التي حقّقتها في عدد من دول الخليج. كما أفلحت روسيا في عقد مؤتمرات استانا وفي توقيع سلسلة اتفاقات مع دول تلعب دورا مهمّا في أزمات المنطقة (تركيا وايران ومصر)، فضلا عن اتفاقاتها مع سوريا التي يجب أن نترقّب ما ستخلّفه من انعكاسات على لبنان، وعلينا ان نهيىء أنفسنا للتعامل مع تلك الانعكاسات بما يخدم قضايانا الوطنية ومصالحنا.
وعلى وقع هذا التراجع في دور الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة (من أنظمة رجعية عربية ومجموعاتها الإرهابية خصوصا في سوريا والعراق)، جاء مؤتمر قمة الرياض (ربيع 2017) بتشكيل تحالف سياسي – عسكري من 34 دولة عربية وإسلامية بقيادة التحالف السعودي – الإسرائيلي ليستأنف الهجمة في ما يعرف بصفقة القرن القاضية بتصفية القضية الفلسطينية واستكمال مشروع تفتيت المنطقة واعتبار ايران العدو الرئيسي للعرب وان إسرائيل هي الحليف الأول، وكان ما كان من فتح النار على كل الجبهات - ايران، العراق،لبنان، اليمن ، مصر، وصولا الى الهدف المركزي فلسطين) - ومن عدة منصات ودفعة واحدة بدأت مع محاولات ترامب الفاشلة في الغاء الاتفاق النووي مع ايران وصولا الى تهديداته بشن الحرب عليها بحجة الصواريخ البالستية، الى اطلاق سلسلة هجمات تزعمتها السعودية بقيادة محمد بن سلمان، وكانت نتيجتها الفشل أيضا منها: محاولة تفتيت العراق عبر استفتاء كردستان، ومحاولة تفجير الوضع في لبنان عبر احتجاز الحريري، وتشجيع انقلاب علي عبدالله صالح في اليمن(الذي انتهى باغتياله) والضغط على السلطة الفلسطينية للقبول باستبدال القدس بأبو ديس، الى تكرار مسلسل التفجيرات الإرهابية في مصر، الى ان وصل الامر به الى الاقدام على قرار لم يسبقه اليه احد من الرؤساء الأميركيين السابقين باستكمال وعد بلفور والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، مستفيدا من استمرار الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني ومن عملية الإضعاف والتدمير الممنهجة التي أخضعت لها سوريا والعراق واليمن، وقوى حركة التحرر الوطني العربية.
لكن مفعول هذا القرار الأميركي كانت نتيجته معاكسة ، اذ ضاعف من عزلة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي: سواء في الفيتو الأميركي في مجلس الامن، او في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي حصد 128 صوتا ضد القرار الأميركي مقابل 9 أصوات مؤيدة وامتناع 34 دولة عن التصويت، كما فضح الموقف المخزي لمجلس وزراء الخارجية العرب بتواطؤ الأنظمة العربية الرجعية مع إسرائيل، الأمر الذي أكده نتنياهو لدى اعترافه بان القرار الأميركي جاء بالتنسيق مع العديد من الدول العربية.
إن من اهم ردود الفعل على القرار الأميركي هو انطلاق الانتفاضة الفلسطينية المستمرة منذ شهر رغم شراسة قوات الأحتلال وسقوط عشرات الشهداء والجرحى والاعتقالات التي يتعرض لها المنتفضون. لقد اعادت الانتفاضة القضية الفلسطينية الى الواجهة من جديد، وهو ما يتطلب منا ومن كافة القوى التقدمية والشعوب العربية دعم الانتفاضة بكل الوسائل الممكنة، ولا سيما من قبل كل الفصائل الفلسطينية وفي مقدمهم السلطة الفلسطينية التي ظلّ موقفها الرسمي – حتى تاريخه – متمسكا للأسف باتفاق أوسلو: حل الدولتين، والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية بحدود الرابع من حزيران، وقد أضيف اليه إعلان عدم القبول بالولايات المتحدة الأميركية كدولة راعية لعملية السلام مع السعي الى استبدالها بتحرك دبلوماسي على المستوى الدولي. وقد شجّع تردّد مواقف السلطة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية على الاندفاع بهجمتها وإقرار سيادتها على المستوطنات في غزة والضفة وضمّها الى الكيان الصهيوني، ما يستوجب من تلك السلطة الردّ السريع بالغاء اتفاق أوسلو واستنفار طاقاتها لإعتماد المقاومة الشاملة.
لقد عبّرت التظاهرة امام السفارة الأميركية في عوكر - التي بادر الحزب بالدعوة اليها مع الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية والجبهة الشعبية والديمقراطية – عن أبرز مواقف الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني، الى جانب التظاهرة التي نظّمها حزب الله في الضاحية الجنوبية، فضلا عن العديد من المبادرات والتحركات والاعتصامات التي ينبغي علينا مواصلتها ليس فقط من موقع الدعم والتأييد والتمسك بالحقوق، بل أولا ، من موقع الحزب الشريك في تقديم الدماء والشهداء من اجل الانتصار للقضية الفلسطينية، ومن موقع المعني المباشر بالانعكاسات السلبية لقرار ترامب في الغاء حق العودة وتوطين الفلسطينيين في الشتات بما في ذلك لبنان. كما أن هذه التحركات يجب أن تستهدف أيضا مطالبة السلطة الفلسطينية بتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس خيار المقاومة والتمسك بكامل الحقوق بما فيها حق العودة.
واذا كان حزبنا قد عبّر بوضوح، عن موقفه باعتبار الولايات المتحدة الأميركية هي العدو الأساسي لشعوبنا العربية، وهي التي باتجاهها ينبغي توجيه المعركة، فهو دعا ويدعو الى عدم الاكتفاء ببيانات الاستنكار والشجب، بل العمل على دعم الانتفاضة بمختلف السبل والوسائل المتاحة . وان على القوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية العربية ان تتحمّل مسؤولية تاريخية في هذا المجال وكذلك حركات المقاومة الفلسطينية المطالبة بوضع استراتيجية فلسطينية جديدة قائمة على خيار المقاومة كأساس للوحدة الوطنية الفلسطينية، على قاعدة وحدة الأرض وحق العودة وتقرير المصير وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس.
اما بالنسبة لما يجري اليوم من أحداث في ايران، فيمكن القول ان ما يجري له جانبين أساسيين متلازمين، الأول هو الاستهداف الاميركي الذي يأتي في سياق ما سبق وذكرنا في البداية، فلطالما كان الدور الإيراني مستهدفا من الولايات المتحدة الأميركية نتيجة مواقفه من : الملف النووي، دعم النظام في سوريا، دعم مقاومة حزب الله، دعم الفصائل الفلسطينية في معاركها ضد إسرائيل، الى العراق. اما الجانب الثاني فهو داخلي مرتبط بالازمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية في ايران، وبخاصة أزمة البطالة في صفوف الشباب – التي فاقمتها طبيعة السياسات الايرانية العامة، مرورا بمسألة الحرّيات السياسية والشخصية، وإنتهاء بالحصار الاقتصادي الاميركي، واذا كان من السابق لأوانه اعلان موقف متكامل قبل قراءة الوضع بشكل شامل وتفصيلي، فاننا من دعاة توفير وإعطاء كامل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الإيراني فهو الأساس ويبقى الأساس، في تجذير المواجهة ضد السياسة الأميركية وفي ذلك توفير لأهم المقومات والشروط الأساسية للنجاح في مواجهة السياسة العدوانية الأميركية، ولا مجال للمفاضلة بين الجانبين كونهما متلازمين في صيرورة واحدة، فلا أفق لنجاح المواجهة ضد المشروع الأميركي في أي بلد من البلدان من دون الانطلاق من قناعة ثابتة بان المواجهة يجب ان تكون شعبية وشاملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وبالمقاومة المسلحة، ولنا من القدس الى طهران : دروس وعبر في مصر والعراق وسوريا وفلسطين ....