المرشد الأعلى وروائح الربيع


يعقوب بن افرات
2018 / 1 / 1 - 19:13     

إنطلقت الإنتفاضة الشعبية في مدينة المشهد، أحد معاقل نظام الملالي في إيران البعيدة عن العاصمة طهران. وكما في تونس في كانون أول 2010 لم يحرق نفسه محمد البوعزيزي في العاصمة تونس بل في ولاية سيدي بوزيد، ودرعا البعيدة عن دمشق ستبقى خالدة في ذاكرة الثورة السورية، والمحلة الكبرى في تاريخ ثورة 25 يناير المجيدة. خط واحد يربط بين كل هذه الهبات وهو الفقر، البطالة، فساد النظام، الإستبداد، والإستغلال الإجرامي للموارد القومية من قبل الزمرة الحاكمة على اختلاف الآيديولوجيات- ممانِعةً كانت أو موالية لأمريكا.
ومع ذلك ما يحدث في إيران من مظاهرات له أهمية قصوى دون شك، فقد تباهى قاسم سليماني بتوسع الإمبراطورية الفارسية من اليمن، فالعراق مروراً بسوريا وصولا إلى لبنان- فيما يُعرف بالهلال الشيعي. وقد منح أوباما - في حينه- هدية للنظام الإيراني عندما وقع معه الإتفاق النووي ووعد بإزالة العقوبات الإقتصادية التي كان من المفروض أن تسمح بالإزدهار الإقتصادي. وقد ظهرت بشاشة الرئيس الإيراني حسن روحاني جليةً بعد أن استطاع أن يوفّق بين المعسكر المعتدل الذي يريد التقرب من الغرب والمعسكر المتشدد المتمثل بالحرس الثوري والمرشد الأعلى الذي لا يزال يردد "الموت لأمريكا". فقد استطاعت إيران أن تثبت مهارتها السياسية عندما تصالحت مع الغرب من ناحية، ومن الأخرى دمرت سوريا، اليمن والعراق الذي احتلت أراضيه إبان تدميره المتواصل.
إلا أن هذه الإنتصارات أصبحت اليوم مصدرا وسببا لانتفاضة شعبية آخذة بالتوسع في أكثر من ثلاثين مدينة إيرانية. فإذا مهّد الإتفاق النووي استباحة الشعب السوري وثورته الديمقراطية ففي نفس الوقت زادت التوقعات من قبل الشعب الإيراني بتحسين ظروف معيشته، ما لم يحدث البتة على أرض الواقع. فقد كشف الشعب الإيراني بأن الوعود بالإزدهار وتحسن الوضع الإقتصادي لم ولن تُنفّٓذ، بل بالعكس، إرتفعت نسبة البطالة، ومعها التضخم المالي، وتم فقدان مدخرات التقاعد، أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار السلة الأساسية، الأمر الذي أدى تلقائيا إلى هكذا إنفجار على النمط العربي بالضبط.
لم يسمع الشعب الإيراني صوتا احتجاجيا إزاء الجرائم التي اقترفها الحرس الثوري في سوريا توقعا منه بأن إزالة العقوبات الإقتصادية ستغطي على الجريمة، وفي الوقت الذي كشف بأن الإستثمارات الأجنبية لم تتدفق على الإقتصاد الإيراني، وإن وعود حسن روحاني كانت كاذبة فكان لا بد لهذا الشعب الواعي أن يربط بين التقشف الداخلي وبين إهدار الأموال على حروب خارجية ضد الشعوب العُزّل في كل من سوريا واليمن والعراق. وقد اكتشف الشعب الإيراني ما اكتشفه من قبله الشعب السوري بأن الشعارات ضد أمريكا وإسرائيل بما فيها البرنامج النووي، لا تهدف إلا لتمتين مكانة النظام ونهجه القمعي تجاه الشعب الإيراني نفسه.
من الصعب التكهن اليوم بما ستؤول إليه هذه المظاهرات وهل ستتحول إلى ثورة شاملة ضد النظام حتى إسقاطه، لكن من الممكن التنبؤ بأن مصير الجمهورية الإسلامية محتوم. إذ أن النفط الذي كان - حرفيا - الوقود الذي موّل الثورة الإسلامية أصبح الآن ألد أعداءها بعد أن تراجعت أسعاره. إن الإقتصاد الإيراني محتكر من قبل الحرس الثوري والمؤسسة الدينية الحاكمة مما يمنع الإصلاح الإقتصادي من خلال تطوير القطاع الخاص وإدخال مستثمرين أجانب. إن السبب الرئيسي للإنتفاضة الإيرانية وللربيع العربي بشكل عام هو أن الدول النفطية والأنظمة العربية بقيت خارج التاريخ المعاصر. إن العالم يتقدم بخطوات سريعة مع حدوث الثورة الصناعية الثالثة المؤسسة على الطاقة المتجددة والإنترنت. إعتمدت الثورة الإسلامية على النفط ودمجت بين دولة الرفاه واحتكارات تابعة للحرس الثوري والمؤسسة الدينية، وهذا النموذج قد وصل إلى نهايته مع انسحاب النفط لصالح الشمس، الماء والريح كمصادر لطاقة نظيفة ورخيصة.
وقد شمت السعوديون بما حدث من مصيبة عند خصمهم اللدود، وأشادوا بدونالد ترمب الذي يتصرف بخلاف أوباما- الذي التزم الصمت إبان اندلاع الثورة الخضراء في سنة 2009. لكن ما يحدث في إيران لا علاقة له بترامب وإنما بالتطور التاريخي الذي لا يرحم لا دولةً ولا عاصمة ولا حتى دونالد ترامب نفسه. ما يحدث في إيران يشبه كثيرا ما يحدث في السعودية. كلتاهما دول استبدادية دينية، وهابية كانت أم شيعية، يحتكر نظامها موارد النفط لكي يوزع الفتات على الشعب مقابل قبوله بالنظام الديني المتشدد في الوقت الذي يستشري الفساد في الأجهزة الحكومية. وقد قام محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، بانقلاب بارد على جزء من العائلة المالكة وحدد 2030 كهدف لتحديث الإقتصاد والتخلص من الإدمان على النفط، إلا انه في السعودية كما في إيران لا يمكن التوفيق بين اقتصاد يعتمد على الإنترنت والحرية المعلوماتية المطلقة، وبين نظام يعتمد على الشريعة وقمع الحريات الفردية الأساسية.
لقد أفسدت أموال النفط الحركات السياسية في العالم العربي حيث موّلت السعودية والإمارات الإنقلاب العسكري في مصر وفي ليبيا، وبهذه الأموال تم تسليح الحركات الجهادية في سوريا للقضاء على الجيش الحر والتنسيقات الثورية، وبالأموال القطرية تم تمويل الإخوان المسلمين في مصر، تونس، ليبيا وسوريا. أما الأموال الإيرانية فانتشرت بين الحوثيين في اليمن، وحزب الله، وميليشيات الحشد الشعبي العراقي، ونظام الأسد، وحماس والجهاد الإسلامي. ماذا كان بإمكان مصير العالم العربي أن يكون لو اختفت هذه الاموال مع اختفاء النفط عن الإقتصاد العالمي. ثورة الخميني سنة 1979 دشنت عهد "الصحوة الاسلامية" ودفعت بالسعودية إلى نشر الوهابية الأمر الذي تحول إلى كارثة إنسانية مع نشوء تنظيم القاعدة ومن بعده داعش.
محاولات النظامين الإيراني والسعودي لكبح جماح الربيع العربي من ناحية ومحاولة قطر لخطف الثورة الديمقراطية لصالح الإخوان المسلمين انتهت كلها بالفشل. إن الجهة التي قامت بالربيع العربي ومن يقف وراء المظاهرات الشعبية في إيران هم عامة الشعب الذي يفقد يوميا مصدر رزقه، وعلى رأسهم الشباب المثقفين خريجي الجامعات الذين لا تساعدهم شهادتهم الأكاديمية على التقدم في الحياة. هؤلاء الشباب على امتداد العالم العربي وإيران يشكلون أهم مورد اقتصادي ورغم ذلك يبقى أغلبهم مهمشا وغير مستغلا. إن النفط لم يلوّث البيئة فقط، بل لوّث حياة الناس الثقافية والإجتماعية بحيث أصبح مصدرا لنشر الجهل والفقر على امتداد العالم العربي.
من السهل جدا تدمير بلاد بإكملها مثل ما تقوم به السعودية وإيران في اليمن وسوريا، وقد يمكن تمويل الإنقلابات العسكرية على حساب النظام الديمقراطي ولكن ليس بوسع النفط أن يوفر للشعوب حياة كريمة، مصدر رزق، وحرية فردية. روسيا، إيران والسعودية هي دول يعتمد اقتصادها على النفط وطاقاتها مكرسة بالكامل في سبيل نشر نفوذها الإقليمي من خلال احتلال أقطار أجنبية. هذه سياسة القرن المنصرم: يعلنون الإنتصارات ويريدون تطعيم شعوبهم بالفخر القومي المزيّف ولا ينتبهون بأن العالم قد تقدّم إلى مرحلة تاريخية جديدة.
التكنولوجيا المتقدمة قد استبدلت الجيوش، والصين تغرق العالم بالبضائع الرخيصة، أمريكا تنشر نفوذها من خلال فيسبوك، أمازون، غوغل، أبل وميكروسوفت. الروبوت يستبدل اليد العاملة. السيارة الذاتية تحدث ثورة في المواصلات في الوقت التي تنشغل إيران، السعودية وقطر في نشر الإسلام الشيعي، الوهابي أو الإخواني كحل مثالي لكل الأمراض الإجتماعية وترى في الديمقراطية كفرا، وفي الحرية حراما، وتنظر إلى المرأة بأنها ضعيفة العقل، وتعتبر العولمة المعلوماتية خطرا، وتغلق الإنترنت لأنه قد يشكل خطرا، والثقافة العالمية بالنسبة لديهم تتحدى الإسلام ومعتقداته.
لا مستقبل لهذه الأنظمة وما يحدث في إيران اليوم يثبت أن الربيع العربي لم يكن ظاهرة عابرة بل تطورا تاريخيا جذريا هدفه التخلص من التخلف وتحرير الطاقات المعرفية الجمة التي تريد أن تشتبك مع العالم لدفع المنطقة العربية نحو مجتمع عصري، مبني على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إن الثورة المعلوماتية، الإنترنت، الطاقة المتجددة- جميعها كفيلة بدمقرطة المجتمع وتوفير الإمكانيات المادية لكي يعيش كل إنسان برفاهية كاملة رغم كل محاولات الإستبداد لعرقلتها.