مَهدى عامل - صفاء الوجود من نمط الانتاج ليس الا فى وجوده النظرى-- البنية الاجتماعية الحاضن لانماط انتاج متعددة. مَشيئَةْ نمط الانتاج فى العقل اليسارى -الاقتصادوى-


خالد فارس
2018 / 1 / 1 - 18:38     

مَشيئَةْ نمط الانتاج فى العقل اليسارى "الاقتصادوى"
• هذه المقالة:

المقالة بصدد تسليط الضوء على مسألة مركزية فى فكر مهدى, على الرغم من أن مهدى لم يبلورها الى مستوى الضرورة التى تستدعيها, ولكنها مُتَضَمّنَة فى كافة نصوصه, بعدة أشكال.
أنها مسألة العلاقة بين نمط الانتاج والبنية المجتمعية. مسألة مركزية ضرورية لتمييز المفاهيم الماركسية, التى شرطها الأساس وحدة المجال-الحَيّْز-الكلْ المادى.

• نمط الانتاج والبنية الاجتماعية

يحتل مفهوم نمط الانتاج مركزية بالغة التعقيد فى ممارسة الفكر المادى الدياليتيكى والتاريخى. ولكن مركزية المفهوم على الأسس التى انوجد فيها, أخفقت فى تموضع الممارسة النقدية فى حيز تحررى أو ديمقراطى. فى أن يكون بوصله تشير الى القضايا المفصلية-الحقيقية فى المجتمع العربى.
أثار مفهوم نمط الانتاج لبساً كبيراً, ونشر فوضى فكرية فى العقل اليسارى. فبدلاً من أن يَكون قِوامَه أدوات تبحث وتنبش فى تداخل الواقع, فى تمييز تداخل-ترابط مستوياته, المراحل التاريخية, أخذ يتشكل كمفهوم من العقل, ذاتى, يطغى على الواقع, وينكر تعقيداته وتداخلات سيروراته, ولاغياً لمادية الواقع, كأنه افتراض مسبق على الوجود, أى ميتافيزيقيا نمط الانتاج.

فى كتاب تمرحل التاريخ (1) (ص 65-64) يقول مهدى "إن زمانية كل نمط من الانتاج تتكون من ثلاثة أزمنة مختلفة لا بد من التمييز بينها: زمان التَكَوّنْ, وزمان التَجَدّدْ, وزمان التحويل. معنى هذا أن الأزمنة هذه التى بحركتها يتمرحل التاريخ هى أزمنة أنماط الإنتاج. غير أن الحركة التاريخية, فى حقيقتها المادية, هى حركة التكوينات الاجتماعية لا حركة أنماط الانتاج".

فى هذه الفقرة تكمن استراتيجية مهدى, التى بدون استيعابها, سوف تبقى قرائة ونقد مهدى غير حقيقية, أو فاقدة لجوهر التفكير "العاملى".
يُقيمْ مهدى تمييزا بين البنية الاجتماعية (يُطْلَقْ عليها أحياناً تشكيلة اجتماعية أو تكوين اجتماعى) ونمط الانتاج. يرفض اختزال البنية الاجتماعية فى نمط الانتاج الاقتصادى, على أى أساس؟ يقول مهدى (2) "صفاء الوجود من نمط الانتاج ليس الا فى وجوده النظرى. أما فى الواقع الفعلى, أى فى واقع التكوين الاجتماعى, فلا وجود لنمط الانتاج الا فى علاقة تعايش مع أنماط أخرى من الانتاج يترابط بها بشكل تاريخى محدد يختلف باختلاف التكوين الاجتماعى الذى هو فيه".

لا بد من توضيح ماذا يقصد مهدى فى "فلا وجود لنمط الانتاج الا فى علاقة تعايش مع أنماط أخرى". البنية الاجتماعية تضم عدة أنماط من الانتاج: "تترابط فى تعايشها بشكل يختلف من بنية اجتماعية الى أخرى". حتى نستطيع الالمام بهذا المفصل, علينا أن نفهم موقف الماركسية من وجود نمط الانتاج.

مايريد أن ينبهنا اليه, هو علاقة أنماط الانتاج ببعضها, هل هى علاقة انفصال كلى أم علاقة تعايش, يعنى هل يجوز أن نقول بأن نمط الانتاج الرأسمالى فى أى دول غربية رأسمالية أو كولونيالية لا يتعايش مع أنماط انتاج سابقة عليه, سواء فى داخل هذه المجتمعات أو خارجها؟ اجابة مهدى المباشرة هى أن الانماط فى تعايش وليست منفصلة. يعنى أن الانتقال من نمط الى آخر لايعنى الغاء اللاحق للسابق, ولكن يعنى استيعاب اللاحق للسابق أو امتصاصه لعناصره.

يوضح أكثر, يقول (3) "البنية الاجتماعية التى تضم بالضرورة عدة أنماط من الانتاج تترابط فى تعايشها بشكل يختلف من بنية اجتماعية الى أخرى, ويختلف أيضاً باختلاف بنية زمان التَكّون من نمط الانتاج الذى تنتمى اليه, وباختلاف بنية زمان تجدده أيضاً, فإن مراحل التطور منها تختلف بالضرورة باختلاف تطور الحركة المحورية من الصراع الطبقى فيها...." (4)

فى الايديولوجية الالمانية (5) , يحدد ماركس وانجلز أنماط الانتاج: يقول ماركس "إن الشكل الأول للملكية هو ملكية القبيلة... وتقتصر البنية الاجتماعية, ..على اتساع الأسرة: زعماء القبيلة البطريركية, وأفراد القبيلة الخاضعين لهم, واخيراً العبيد. ......

ثم تأتى الملكية الخاصة للمرة الأولى الذى بدأ فى وقت مبكر جداً فى روما, كما يثبت ذلك قانون ليسينوس الزراعى".

ثم شكل الملكية الثالث "هو شكل الملكية الاقطاعية, أو ملكية المراتب المختلفة....إن هذه الملكية مثلها مثل الملكية القبلية والملكية المشاعية, لترتكز بدورها على الجماعة التى لايشكل العبيد حيالها الطبقة المنتجة بصورة مباشرة كما هى الحال فى النظام القديم, بل الفلاحون الصغار الأقنان, ومع
تطور الاقطاعية تطوراً كاملاً يظهر بصورة متوازية التضاد حيال المدن". "يقابل هذه البنية الاقطاعية العقارية فى المدن, ملكية الأصناف الحرفية, التى هى تنظيم اقطاعى للحِرفز فقد كانت الملكية هنا تقوم بصورة رئيسية فى عمل كل فرد بمفرده".

ثم شكل الملكية الرأسمالية والذى انطلق "التقسيم بين التجارة والصناعة فى المدن...حيث دخلت هذه المدن فى علاقات بين بعضها البعض".

قرائة ماركس وانجلز لأنماط الانتاج عبر التاريخ, ترسم معالم التداخل أو تعايش عناصر من أنماط انتاج سابقة مع لاحقة. فتغير شكل الملكية وتأسيس تشكيلة-بنية اجتماعية جديدة, لا يعنى الغاء عناصر أو مكونات من أنماط انتاج سابقة.

وهذا ما أرادت تأكيده روزا لوكسومبورغ (6) "أن الرأسمالية بحاجة إلى تنظيم اجتماعي غير رأسمإلى، كشرط أو معيار لتطورها, بذلك تتقدم لتمثيل كافة الشروط التى تضمن لها الوجود" .

فى دراسة (7) للبروفيسور Jairus Banaji , يقول ان الستالينية فرضت سياقاً بأن نمط الانتاج هو أحادى أى أنه يحتوى فقط على نمط واحد, وبأن نمط الانتاج يلغى تماماً النمط السابق عليه. لذلك فان ستالين يرفض تعايش أنماط الانتاج. لهذا فرض سياقاً خطياًّ, يقود لاحقاً الى اقتصادوية ترتكز على أن قوى الانتاج هى التى تحدد التاريخ. وعلى هذا الأساس ينتقد بذلك ألتوسير وباليبار.

قَبْلَ Jairus Banaji, فى كتاب تمرحل التاريخ (2001), وفى نقده لآلتوسير وباليبار, خصص مهدى عامل قسماً خاصاً عن "النزعة البنيوية فى الفكر الماركسى" . يقول فيها "حركة تفكك للبنية القديمة, وحركة تكون للبنية الجديدة, كأن هذا الشكل من التعايش يقتصر على وجود البنية فى انتقال, أو قل كأن تعايش عدة أنماط من الانتاج فى البنية الواحدة لا وجود له فيها...". "هذا المنطق هو منطق البنيوية نفسه ...فى دراسة باليبار, أحد تلامذة آلتوسير. "

وفى اضائة د. فيصل دراج (8) على كتاب مهدى تمرحل التاريخ, يقول "يأتى باليبار بعمومية نظرية تنسب أنماط الانتاج المختلف الى حيز نظرى واحد....تعنى وجود جوهر موحّد للظواهر الاقتصادية, وكذلك للظواهر السياسة والايديولوجية, سابق لسيرورة تحولهم التاريخى, أى سابق لسيرورة تجددهما بآثار الصراع الطبقى".

ويقول أيضاً (9) "فالمادية التاريخية حث تقوم بتحليل نمط انتاج معين, تبدأ من تمازج علاقات الإنتاج والقوى المنتجة, لكنها, وهى تفعل ذلك, تؤكد أن علاقات التمازج يتحقق دوماً فى شرط تاريخى محدد. ...وبسبب هذا التحديد, فان نمط الانتاج العام لا وجود له. "وحتى حين يوجد بشكل منطقى -شكلى, بلغة بولنتراس, فإنه يرد الى نمط إنتاج محدد, وهو ما يفرض على الماركسيين التمييز دائماً بين مفهوم نمط الانتاج كتصور نظرى, ومفهوم التشكيلة الاجتماعية -الاقتصادية التى ترد الى مجتمع مشخص".
الفكر الاشتراكى الدياليتكيى المادى, فكر قِوامَهُ تمييز التشكيلة أو التكوين الاجتماعى الذى يحتضن تعايش أنماط انتاج متعددة متداخلة (العبودية, والبطريركية, وتشغيل العامل بلا أجر أو أجر أقل من ثلاثة دولات فى اليوم, استغلال الاطفال فى الحروب كونها أحد أشكال التوسع الاقتصادى والسياسى, استغلال المرأة, الخ), كلها عناصر من أنماط انتاج سابقة مازالت تتعايش وتنموا مع نمط الانتاج الرأسمالى.
ولو أخذنا أقصى درجات تطور نمط الانتاج الرأسمالى, وهى عملية تنظيم قوى الانتاج فى علاقات رأسمالية حديثة, من أجل بناء تشكيلة اجتماعية "المعرفة والتكنولوجيا", نسأل وعلى سبيل المثال لا الحصر: ألا يوجد مناجم عديدة حول العالم من أجل استخراج مواد تدخل فى تصنيع التكنولوجيا, يعمل بها أطفال وعمال تحت ظروف اضطهاد قاسية وأجور لاتكفى الا لمستوى الكفاف اليومى؟. حيث العديد من الدراسات تؤكد بأنها استمرار لنظام العبودية أو الأقنان حول العالم.

خلاصة: مَشيئَةْ نمط الانتاج:
لقد وقع الفكر الماركسى العربى فى مصيدة تَشْيِئَة أنماط الانتاج, أو كالقول أن كلُّ شيءٍ على ِشِيئةِ نمط الانتاج, كالقول كلُّ شيءٍ بِمشِيئةِ اللّه, فأصبح نمط الانتاج ميتافيزيقيا, قوى مُطْلَقة عابرة للواقع. كأننا نقول نمط الانتاج "اذا أراد أن يحدث شيئاً: فان نمط الانتاج هو الذى يقرر فى حتمية التاريخ: كن فيكون". ومن هنا طغى التحليل والتفكير الاقتصادوى الارادوى (أسبقية قوى الانتاج) على المجتمع-التشكيلة الاجتماعية. فاندثر الواقع, فى عقل الفكر اليسارى, عناصر اقتصادية جوهرانية, منفصلة عن المجتمع.

مراجع
(1) عامل مهدى (2013). فى تمرحل التاريخ (مخطوطة) تقديم واضاءة: د. فيصل دراج. دار الفارابى- بيروت- لبنان.
(2) نفس المصدر ص 65.
(3) نفس المصدر ص 78.
(4) ملاحظة: دور الصراع الطبقى فى البنية ونمط الانتاج هو الحاسم فى تحديد العلاقة, بل فى الترابط بين مختلف مستويات البنية. بحاجة الى دراسة منفصلة لتوضيح مايقوله مهدى بخصوص الصراع الطبقى ودوره المحورى.
(5) ماركس كارل, انجليز فريدرك (2016) . الأيديولوجية الألمانية مصادر الاشتراكية العلمية. ترجمة فؤاد أيوب. دار الفارابى. ص 34.
(6) Luxemburg, Rosa. The Accumulation of Capital (Kindle Locations 5593-5594). . Kindle Edition
(7) Fuchs, Christian. Digital Labour and Karl Marx (Kindle Locations 4086-4089). Taylor and Francis. Kindle Edition
(8) عامل مهدى (2013). فى تمرحل التاريخ (مخطوطة) تقديم واضاءة: د. فيصل دراج. دار الفارابى- بيروت- لبنان ص 46.
(9) نفس المصدر ص 104-10