ميثاق الرواية: مقال في القيم الأساسية للكتابة الروائية


سعد محمد رحيم
2017 / 12 / 16 - 13:17     

جوهر الإبداع هو صناعة المدهش. أنْ تجعل المتلقي يحبس أنفاسه. أنْ يلهج بكلمة (الله). أنْ تصعقه الغبطة. أنْ يستدعي صوراً من حياته وهو غائص في العوالم المبدعة. وأنْ يستعيد الأمل.
الرواية كأية صنعة فنية إبداعية لها قيمها الخاصة، والتي يستبطنها الصانع الروائي حتى وإن لم تكن محدّدة بوضوح في ذهنه. وقد يشترك الروائيون في تأشير بعض هذه القيم إنْ سُئلوا عنها، وقد يختلفون في بعضها الآخر.. أشّر الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو ستاً منها ألفاها منشبكة بنسيج النص السردي المنجز هي (الخفة والسرعة والدقة والوضوح والتعددية والاتساق). عاداً تلك القيم (ست وصايا للألفية الثالثة). كان هذا عنوان آخر كتبه قبل وفاته.
يستحضر الروائي الإيطالي الآخر (أمبرتو إيكو) وصايا كالفينو وقيمه وهو يتحدث عن (ست نزهات في غابة السرد) لكنه لا يقف عندها وحدها.. وإذ يتطرق إلى (ميثاق تخييلي) للكاتب مع جمهور القراء، يأخذ بنظر الاعتبار ما يسمّيه كولريدج بـ (تعطيل الحس بالارتياب) "فعلى القارئ أن يعلم أن المحكي قصّة خيالية دون أن يعني ذلك أنها مجرد كذب... إننا نقبل الميثاق التخييلي ونتظاهر بأننا نعتقد أن ما يروى لنا وقع فعلاً".
وإذا كان ميثاق التخييل الخاص بكالفينو يعيّن ويؤطِّر مخطّط العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ، مع منح النص مركز الثقل حيث يحمل تلك القيم المبثوثة والتي تغري القارئ بوعد الجمال، فإن الميثاق المقترح في هذه المقالة يعود للمخطّط عينه، مع منح الكاتب مركز الثقل. الكاتب الذي يشترط فيه أن يحظى بقيم إبداعية مكتسبة تجسِّد موهبته، وتعينه على إنجاز نصِّه السردي.
نتمثّل قيم الحياة من تجربتنا في الحياة، ونتعلم قيم الكتابة حين نمارسها لوقت طويل. وتتجلى هاتان الحقيقتان قانونين لابدّ من احترامهما.. وأعني بقيم الكتابة تلك المبادئ/ المؤهلات التي لا غنى عنها لكل كاتب كي يستمر في مجاله الإبداعي.. تلك التي تؤازره في الكتابة، ومن غيرها لن ينتج شيئاً ذا بال.
وشخصياً أرى أن القيم التي تعين الروائي على إنجاز نصِّه تنحصر في سبعٍ هي:
1ـ الحدس
إذا كانت الرواية محاولة للإمساك بلغز العالم ومغزى الحياة فإن هذه المحاولة لا تستقيم من غير الحدس، من غير ذلك اللهب الغامض المتأجج في العقل والروح، ومن غير تلك الرؤيا الهادية، وهما ما أعرِّف بهما الحدس أولاً. فالحدس يشتغل في تلك المنطقة الغريبة التي تصل العقل بالروح.. هو ما يسبق العقل ويمنحه الطاقة الحيوية الإيجابية والدافع للكتابة. الحدس هو ما ينظِّم فوضى العقل بناءً على حسٍ بالتناغم والاتساق والوحدة.. إنه القدرة على الاختيار في التوقيت المناسب.. الحدس هو التبصّر الذي يحاذي المنطق ويتجاوزه.. منبعه الفطرة السليمة، ومساره في الجزء غير الظاهر من الوعي. وربما هو حسّ الصواب حتى وإن اكتشفت فيما بعد بأنك على خطأ. وفي النهاية هو الوجه الآخر لما أطلقنا عليه طويلاً تسمية الإلهام، وهو نتيجته كذلك.
أول حدس للروائي يبزغ مع إيمانه بأن موقعه ودوره في العالم هو أن يكون روائياً. أن يتتبّع حلمه القديم في أن يكتب روايته.. أن لا ينفك من التفكير بنفسه كاتباً روائياً. هذا لا يعني بأنه أفضل من الآخرين أو أسوأ.. هذا امتياز اختلافه، كما أن كل شخص في هذا العالم مختلف.. الاختلاف ليس حكم قيمة مجرّد، بل حقيقة تعكس روح تراجيديا الوجود.. نحن لا نشبه بعضنا بعضاً، وبطبيعة الحال؛ بدرجات متفاوتة.. حين نتشابه جميعاً لن نبقى بشراً بل كائنات أدنى في سلم التطوّر والارتقاء الطبيعيين.. هذا هو الخطأ القاتل الذي تقترفه الأنظمة الشمولية في النظر إلى المجتمعات التي تحكمها، كقطيع أفراده نسخٌ مكررة. فتنتج بذلك الكرب والأهوال. لكن خطأها ذاك يفضي بها، بالمقابل، وفي نهاية المطاف، إلى الهاوية.
يشتغل الحدس بفعالية في أثناء الكتابة، مانحاً الوعي والتفكير والتخييل بوصلات دقيقة..
الروايات الجيدة نتاجات حدوس حادّة نفاذة.
2ـ المخيّلة الخلاقة
المخيّلة هبة عظمى حازها البشر وبمعونتها شيدوا حضارتهم.. وكان يجب أن تمضي مئات آلاف السنين من التطوّر البطيء حتى تتشذب تلك المخيّلة، ويكون بمقدورها أن تبدع الجنس الروائي.. والرواية نفسها كانت فاتحة لأبواب جديدة للمخيّلة. وبرأي كولن ولسن فإن نوع المخيّلة الذي حرّرته الرواية هو الذي قاد إلى العصر الحديث، إلى الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، وإلى تلك الثورات كلها في حقول العلوم والفنون والآداب والمعارف.
المخيّلة التي يقتضيها الفن الروائي، تختلف عن تلك التي تتطلّبها الفنون الأخرى، الكتابية منها وغير الكتابية، في الدرجة، وفي النوع. ولذا فمن يبرع في كتابة القصّة القصيرة قد يخفق في الكتابة الروائية، والسبب هو ما ذكرنا.. فالمخيّلة الروائية شاسعة، عريضة، متشابكة، متعددة المستويات، مرنة، وقابلة للتحوّل. وهي التي تضبط في النهاية شكل العمل الروائي.
المخيّلة البارعة هي تلك التي تنعجن بالواقعة المعيشة، بروح التجربة وتفصيلاتها، بخبرات الذات الكاتبة، وأحياناً لا تكاد تكون مرئية، في أثناء معاينة القارئ للنص الروائي.. صهر الواقع بالخيال في سبيكة إبداعية هو العلامة الأولى لبراعة الروائي ومهارته وحرفيته.
للمخيّلة قواعدها الخاصة التي تعمل باستقلال عن تدخّلاتنا الطائشة.. أي تدخّل غير محسوب لكسر إرادة المخيّلة يؤدي إلى تصدّعات في العمل، ولطخات معيبة.
أن تكون روائيا فالميثاق الذي توقِّعه مع نفسك، ومع طيف الرواية الذي يلازمك، هو أن تحضر في لحظة الكتابة بقوة الخيال أولاً.. فقر المخيّلة هو العائق الأعظم أمام أي أحد يروم دخول صومعة الفن، ومنها الزاوية المهيبة المخصّصة للرواية. وإذا كان فقر الخيال يسلب النص السردي طراوته ونكهته، فإن الإفراط في الخيال يتركه غير مستساغ.
يبحث إيكو في ميثاقه للتخييل عن النسبة المعقولة/ المقبولة بين الواقع والخيال في متن العمل الحكائي.. مع تأكيد أن "كل ما لا يسمّيه النص أو ما لا يصفه بشكل جلي باعتباره مختلفاً عن العالم الواقعي، يجب أن يُنظر إليه ضمنياً باعتباره متطابقاً مع قوانين ووضعيات العالم الواقعي".
يتيح الخيال للواقع فرصاً أخرى، ويعتقه من رتابته وعاديته، يمنحه أبعاداً جديدة، وتشكّلات جديدة. فمادة الخيال من الواقع بعد انتهاك حر لقوانين الفيزياء وقواعد المنطق الصوري، مع اشتغال واسع لقوانين الاحتمالات.
3ـ حسّ اللغة
اللغة منطقة الكاتب الفريدة؛ المنطقة الملتمة على هذا القدر الهائل العجيب واللانهائي من المفردات وقواعد النحو وممكنات الصياغة. وما يميّز الكاتب الجيد عن غيره ليس احتواء مخزون ذاكرته على أكبر مساحة من منطقة اللغة، وإنما كيفية إدارته لها. كيفية إحساسه بالمفردة، بإيقاعها، وظلال معانيها، ودرايته بفن الاستعارة، وربط المفردات بعضها ببعض، ووضع المفردة المناسبة في موضعها الصحيح من الجملة ومن مبنى النص.
أتكلم هنا عن شيء أنعته بـ (الإحساس بالكلمة). الإحساس بموسيقاها؛ حلاوتها حين النطق بها.. ما تبث من دلالات وخيلات.. ظلال معانيها، علاقتها مع الكلمات الأخرى..
كلمات كثيرة لنا معها تواريخ.. الكلمة وهي تفتح باباً لحكاية، أو لانطباع قديم، أو لذكرى آفلة. وقد تتفتح على فضاء اللغة مع كلمات أخرى لها معها قرابات صريحة أو خفية في المعنى أو الإيقاع.
التفكير باللغة في الكتابة السردية يجري عبر التفكير بالحدث السردي، وببنية السرد.. هنا يتعاشق في ذهن الكاتب العالم واللغة ويمتزجان.. تتخذ صور العالم السردي المتخيّلة شكلاً لغوياً وبناءً لغوياً.
الإحساس بأشياء العالم وتحوّلاته يتلبس حسّ اللغة. ومن حقنا أن نتساءل عن طبيعة الفيض الشعوري الذي ينتاب الكاتب وهو في خضم الكتابة، وهو يستحضر موجات الصور والكلمات التي تطلقها ذاكرته ومخيّلته. ما ينعتق من ذلك المخزون الأثيري الذي كوّنه طوال سنوات عمره عبر فيوض القراءات والتجارب والمشاهد والأحلام والتخيلات.
لا كتابة ـ لا سيّما الكتابة الروائية ـ تخلو من ثغرات، ومن مناطق معتمة ومن فراغات، طالما كان الأمر تعاطياً مع اللغة. واللغة كما نعلم منطقة انزلاقات على طول الخط، وارتجاجات لا تنتهي. لذا المناورة معها وبها مغامرة ليست مضمونة النتائج دائماً..
4ـ الحسّ الجمالي
كيف يتحسّس الروائي الواقع، كيف يتحسّس اللغة، كيف يستذوقهما؟ ما هي طبيعة الفيض الشعوري الذي ينتابه، وهو يستدعي، في خضمِّ الكتابة، موجات الصور والكلمات التي تطلقها ذاكرته ومخيّلته.. ما ينعتق من ذلك المخزون الأثيري الذي كوّنه في رحلة حياته الطويلة عبر التجارب والقراءات والمشاهد والأحلام والتخيّلات.
من غير ذائقة مرهفة لا رواية جيدة.. الذائقة شرط أول لامتلاك الحسّ الجمالي، لكن الحسّ الجمالي في جوهره ليس الذائقة فقط.. الحسّ الجمالي نتاج تربية الحواس التي تلتقط الجميل من بين ركام القبح الذي يثقل مشهد عالمنا، وتساهم في صناعة الجميل.. الحسّ الجمالي هو تلك الملكة التي تجعلنا نقع على علامات الحياة في ما حولنا. ما يوحِّد أرواحنا مع الكون، ويثبت لنا أن ثمة مغزى ملغزاً في الوجود.. يقول كونديرا: "لا يصنع الروائي موضوعاً عظيماً من أفكاره. إنه مستكشف يتحسس طريقه بجهد ليكشف بعض جوانب الوجود المجهولة".
صناعة الجمال في جوهرها هي صناعة للمدهش السار، ذاك الذي يترك خدراً لذيذاً في العقل، ورعشة ساحرة في الروح. وهو لا يحصل فقط حين نصوِّر الخير والأليف والإنساني.. يمكن بث الجمال في الصادم والمحيّر والمريب. ويمكن تصوير الشرّ والقبح بأسلوب جميل.. قد يبدو الجمال حيادياً، ها هنا، للوهلة الأولى، لكنه، ليس كذلك.. الجمال يفضح السوء ويُدينه، حتى وإن لم تكن وسيلته مباشرة.. ويكون أروع حين ينطوي على بعض الغموض، على ما يُثير ويُربك.
الواضح جداً، الساطع جداً، والذي لا يبعث على التفكير ولا يهز المشاعر، لا يمكن أن يكون جميلاً.
قد أقصد بالحسّ الجمالي في الرواية وضع الإيقاع الخاص بالعمل/ النص.. إيجاد نقاط الارتكاز الأساسية له، والتوازنات الدقيقة المحافظة على وحدتها وتكاملها.. الخيوط السرّية التي تربط أجزاء الرواية.. اجزاء لغتها وعالمها ومجالها الدلالي.
تحدث في داخل النص الروائي توازنات معقّدة، وهي التي تضفي على الرواية إيقاعاً خاصاً، وتجعل قراءتها مستساغة، وممتعة.
الاتساق والتناغم لا ينتج عن مسار باتجاه واحد، وإنما عن مسارات متوازية ومتقاطعة. والأخيرة هي التي تخلّص النص من الرتابة. فالتضاد قيمة مطلوبة لتأسيس تناغم بمستويات فائقة في النص. ويأخذ التضاد موقعه في بناء النص عبر فاعليته في الجملة اللغوية، وفي نسج المشهد السردي، ومن ثم في كلّية المتن الحكائي ومبناه.
حسّاسية الروائي لأشياء العالم، وفضاء اللغة، تمهِّد لإنضاج حسِّه الجمالي. وبافتقاده للحسِّ الجمالي لن ينتج الروائي إلا نصّاً يعاني الجفاف والخشونة والشحوب والاختلالات.
5ـ الفضول، أو؛ حس الواقع والتاريخ
يتكلم كلٌ منّا ويسلك في سياق ثقافي ـ نفسي ـ اجتماعي. فالرأي والموقف يتلونان بآثار ذلك السياق. وحتى لو كانا شاذين فلا شك أن شذوذهما نتاج ظروف دنيوية تؤثر بحسب استعدادات المرء ومصدّاته المقاوِمة وطموحه وخبرته.
قد يكون مثل هذا الطرح نظرياً مجرداً تبسيطياً. وليس مطلوباً من الروائي أن يبحث في مسوِّغات أقوال وأفعال شخصياته، وتفسيرها بشرح مسهب.. تلك من مهمّات النقد والعلوم الاجتماعية والإنسانية. لكن الروائي الجيد يستطيع أن يوحي للقارئ بذلك السياق، بإشارات أو تلميحات أو مجازات ورموز، جاعلاً منطقة المسكوت عنه في النص ساحة للعب القارئ ولمّاحيته وذكائه.
هنا على الروائي حيازة حسّ الواقع. وهو ما سيدفعه ليكون مقنعاً حتى حين يشطّ بتخيّلاته، وترميزاته، ولا معقولية العالم الذي يخلقه في نصّه الروائي.. وحسّ الواقع هو حسّ تاريخي أيضاً.. فالسياق الثقافي النفسي الاجتماعي يتصل بالتاريخ، بحركة المجتمع والعالم الموضوعية، وبتجربة الذات في ذلك السياق. فالروائي متلصِّص وفضولي.. يراقب الواقع ويرصد وقائع التاريخ، بدقّة وصبر، كما لو أنه مكلّف بمهمة خطيرة تخصُّ أمن العالم.. وما يراه ويعيشه ويقرأه ويرصده هو مادته الخام في الكتابة.
كيفية التعاطي مع التاريخ قيمةٌ حاسمة في الصنعة الروائية.. التاريخ حقل على كل روائي ارتياده لأنه يحضر بأشكال شتى في نسيج النص الروائي حتى وإن لم تتم الإشارة إلى وقائع تاريخية بعينها. وهذا الحضور يؤشر مدى تمثّل الروائي لروح التاريخ.
ليس الروائي مؤرخاً بالمعنى التقليدي.. هو مؤرخ على طريقته، وأحياناً بصورة مكشوفة، كما نجيب محفوظ مؤرخ مدينة القاهرة، مثالاً.. القاهرة التي لا يمكن فهمها، باعتقادي، فهم روحها بعمق، من غير قراءة روايات محفوظ.
قد تبدو كتابات بعض الروائيين أبعد ما يكون عن التاريخ، ومن حق أي أحد الاعتراض؛ لا تاريخ في روايات آلان روب غرييه، في سبيل المثال.. وإجابتي التي أفترضها؛ إن أي نص روائي مبدع، مهما كان غرائبياً ومتخيلاً، هو خلاصة لتاريخ الرواية أولاً، وإن المتن الحكائي لأية رواية هو صورة مجسّمة ومعقدة لواقع وتاريخ.. واقع وتاريخ يستبطنهما الروائي، شعورياً ولا شعورياً، قبل شروعه بالكتابة.
ولأن التاريخ منطقة زلقة وملتبسة بات على الروائي الاحتراس وهو يقترب منها، ويستكشف ميراثها الهائل العجيب والمتناقض.
في الرواية نحن لا نؤرخ.. لا ننقل وقائع التاريخ بحذافيرها.. ما يهمنا هو تمرير أجزاء بعينها من مسرودات التاريخ في مرشّح اللغة والمخيّلة.
تمسك اللغة الواقعة بطريقة ما. ولغة الروائي تصنع منها بما يلائم ممكناتها وحدودها وآفاقها.
إن رؤيتنا هي التي تقرر طبيعة تعاطينا مع اللغة، وأسلوب استثمارنا للواقعة التاريخية والمتخيّلة.
6ـ الرؤية
تجسِّد الرؤية هوية الكاتب وهوية نصِّه، وإن لم تطابق في جوهرها أياً منهما.
الرؤية في سياق هذه المقاربة، تنعكس في أسئلة من قبيل؛ كيف أنظر إلى العالم، إلى الأشياء، إلى اللغة، إلى الأدب ووظيفته، إلى ذاتي، وإلى الآخرين، وأين موقعي الذي أقف فيه من ذلك كله؟. هل رؤيتي صافية، بريئة، موضوعية، مثقّفة، أم ملوّثة بأحكام جاهزة، وتحيّزات، ومواقف مسبقة؟.
ومن نافل القول إن لا شيء يشوّه النصوص الإبداعية بقدر الموقف المسبق والحكم المسبق واللاموضوعية.
صحيح أن الرؤية لا تنفصل عن المنطلق الإيديولوجي للكاتب، عن قناعاته وتصوّراته حول ذاته والآخرين والعلاقات البشرية والزمان والمكان والعالم والوجود والمصير. لكن من المعيب والكارثي أن تظهر تلكم القناعات والتصوّرات جليّة، صارخة، منحازة بفجاجة، ومنفرة، في النص.
وعند تحليل أي نص روائي قد يبرز تساؤل عن الثقافة التي تسند الراوي الرئيس، وهو، غالباً، وليس في مطلق الأحوال، قناع للمؤلف. ما هي خبراته التي يوظفها في بناء العالم الروائي.. الرؤية دالة ذكاء الراوي، ومن قبله ذكاء الروائي، ومدى غزارة وخصب مخيلتهما، والأفق الدلالي الذي يرومانه.
تلخِّص الرؤية المجسّدة داخل الرواية موقف الروائي من العالم بما فيه نصّه، ومن فن الرواية ولغة السرد، وموقفه من الحياة والزمان والوجود. وقد تقود الرؤية النفاذة التي من خلالها تُرسم العالم الروائي إلى تكهّنات صحيحة بشأن الواقع ومستقبله. فكثيراً ما تصدق تنبؤات الروائيين، غير أن هذا لا يجعل منهم قراء للغيب. إن استغوارهم للواقع ومساراته، ولخفايا الكونين النفسي والاجتماعي للبشر يمكِّنهم من استشفاف مسارات الأحداث. ففي الرواية الجيدة نحن نقرأ قبسات من ماضينا وحاضرنا من منظور لافت، غير مطروق، ونطلُّ على أشياء من مستقبلنا.
7ـ القدرة على الإقناع
يتعلق الإقناع بدءاً بالحقيقة الفنية، لا بالحقيقة الواقعية، بعدّه قيمة فنية/ جمالية يخص القارئ في النهاية. غير أن كاتب العمل الروائي يجب أن يكون مقتنعاً بعمله قبل ذلك.. أن يكون عمله مقنعاً له؛ بلغته، بأسلوبه، بثيمته، وبكيفية معالجة هذه الثيمة لغةً وأسلوباً وأنساقاً سردية..
أحياناً يكون النص تقريرياً، واقعياً إلى حد بعيد، ولكن إذا لم يتقن الكاتب صوغه بمناورات جمالية مقنعة، لن ينال اهتمام قارئه. ولن يجد فيه واقعاً يُرضي شغفه القرائي. ولن يمضي معه، غالباً، حتى الصفحة الأخيرة. فيما الكاتب الحاذق، الموهوب، والماسك جيداً بزمام اللغة الروائية وتقنياتها يستطيع أن يجعل، حتى الأسطوري والخرافي والخارق واللامعقول مقنعاً للقارئ. لنتذكر غريغوري سامسا في رواية (المسخ) لفرانتز كافكا الذي يتحول إلى حشرة.. لنتذكر ريموديوس الجميلة في رواية (مائة عام من العزلة) لغابريل غارسيا ماركيز التي تطير مع الريح وهي تنشر الغسيل لتختفي في السماء البعيدة.. والقائمة تطول.
ليست هناك وصفة جاهزة باتباع تعليماتها يستطيع الروائي اكتساب القدرة على الإقناع.. أن تكتب نصًاً مقنعاً، هو أمرٌ مناط بالموهبة، والوعي الفنّي، والحدس، والرؤية.
هذه القيم ليست نهائية.. وليست وحدها التي يستبطنها الروائي وهو يكتب نصّه.. لكني أراها، وهذه وجهة نظري الخاصة التي لا أمليها على غيري، تشكِّل عدّة احترافية، لا غنى عنها لأي روائي، في أول طريق الإبداع، أو في منتصفه، أو في نهايته، لابد من الحفاظ عليها، وتنميتها دائماً، وتوسيع آفاقها، واستثمارها في كل نص. حيث النص هو التجلّي لمدى نجاح اشتغال تلك القيم خفيةً في نسيجه.