مظفر النواب: شاعر للبيع!


سلام عبود
2017 / 12 / 15 - 15:51     

ثلـّة كريمة من الأدباء الأسخياء، الغيورين، يفتتحون البازار الدوليّ، بازار بيع شاعر!
بازار الانتيكة الحزبيّة يأتي بعد أن تمّ بيع (سرقة) كلّ شيء: سرقة الوطن بأكمله آثاره وآباره، سرقة حلم الناس بالتغيير والحرّيّة، حلم البشر بالعيش الآمن في دولة المواطنة الجامعة، سرقة موارد الشعب الخرافيّة، سرقة كرامة المجتمع والفرد، سرقة شهدائه، ضميره، تاريخه، ثقافته، حاضره، ومستقبله.
لم يتبق شيء لم تسرقه المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة. ولم يتبق في ساحة التحاصص سوى شاعر أعزل، عليل، يرقد في مشفى المحسنين، بانتظار معجزة رب مصاب بالشلل الأبدي.
لكنّ رب هذا الزمان القبيح هو اللص والفاسد والملوّث وبائع المشاريع الهوائيّة. ربّما لذلك تنادت ثلـّة بائعي الوهم وأسرعت الى فتح بازار الثقافة، رافعة قميص مظفـّر، على رؤوس أقلامها، صانعة منه شعارا صالحا للدبغ والمقايضة، شعارا مجانيا، مثل حقوق وثروات الشعب العراقي، الضائعة من دون مُطالب. مُتحاصَص اليوم لا ينتمي، من قريب أو بعيد، الى مكونات بائعي الهوى، مالكي المدبغ الثقافي الجديد، بكل تصنيفاتهم السياسيّة والحزبيّة وألوانهم القديمة أو الجديدة، لكنه يحمل عوارض التحاصص المثاليّة: لا يوجد خلفه من يطالب بحقه.
ورثة ومدمنو فن الشقاق والنفاق الحزبيّ والثقافيّ التقليديون يستفردون بالشاعر، كما حاولوا من قبل مع يوسف الصائغ والبياتي والسياب وسعدي يوسف. اليوم يرفعون قميص مظفـّر، يلطخونه بدم نوبل، لكي يضعوه كرها وليس حبّا، في وجه خصوم حقيقيين أو متخيلين، يريدون إشهار عدائهم لهم وبيع هذا الاشهار الى أوّل مشتر مفلس.
بائع مفلس، ومشتر مفلس والنواب بينهما. يا لها من معادلة ظالمة! إنها معادلات الخراب التام.
إنها حرب بالإنابة، حرب ضمائر ثقافيّة ومكائد، هي بعضٌ من تراث العنف الحزبيّ المتوارث والمقيت، تراث كسر العظام، من طريق دقّ العظم بالعظم، وكسب عواطف المغفلين بضمير مستريح.
الآخرون، الذين يراد قتالهم باسم مظفر يعرفهم الجميع. منهم العراقي ومنهم العربيّ. وربّما يكون أبرزهم قوميّا الشاعر أدونيس، المرشح العربيّ الأقدم، والأقرب الى الجائزة منذ سنوات، وأجدر من يستحق المؤازرة، لا لمنتجه الثقافيّ حسب، بل لقربه الشديد من محيط الجائزة.
إنها دعوة مُحاربة بامتياز، في هيئة جائزة كيديّة، تـَرفع باسم شاعر جريح، ومبدع ذبيح. إنها خطاب تمزيق آخر بقايا الوحدة الثقافيّة القوميّة، على يد اتحاد آخر سلالات القمّامين الثقافيين، من بقايا الأحزاب الخاسرة.
أين كان هؤلاء حينما كان مظفر ينشد "عشاير سعود"؟ في أيّ مخاضة عقليّة وثقافيّة وحزبيّة كانوا حينما كان مظفـّر يخاطب الحزبيّ المطيع والقائد المُطاع ويهجوهما بأقذع النعوت؟
أين كانوا حينما كان الشاعر يغرد خارج سرب الحلفاء؟
هناك من يقول يوجد تغيير ملحوظ في بعض الخصوصيات التاريخية والثوابت المتعلقة بمعايير نوبل. وهذا صحيح تماما.
هنالك تغيير يشمل كسر شروط الأدب الصارمة (الشعر والسرد)، والانفتاح على فنون أخرى، من طريق كسر حاجز الرصانة الأكاديمية المتوارثة.
بعضهم يقول هناك تغيير في واضح في نظرة السويديين الى الجائزة: هارولد بنتر، الكسييفا. فازت الكسييفا بجائزة جراء نقدها للنظام السوفيتي، التي عدت درتها المؤهلة لنيل جائزة نوبل، لكن المهزلة الكبرى هنا، هي أن هذه الدرة الناقدة، هي ذاتها التي فازت بها الكاتبة، كصحفية وليست أديبة، بجائزة النظام السوفيتي الشيوعي "المنقود" قبل ثلاثين عام.
أتمنى لمظفـّر الفوز بالجائزة!
لكن حزني لا يتعلق بفوزه وعدم فوزه، بل يتعلق بأمر آخر، لم يره كثيرون. لقد ذهب بائعو الهوى بمظفـّر بعيدا، ذهبوا به الى آخر الأرض، حاملين معهم جسد وروح شاعر عليل، متجاهلين الأرض التي جاء منها، والتي سيذهب اليها.
غبي على هؤلاء أن يعيدوا مظفـّر النواب الى وطنه، الى بيته، الى روح شعبه. غبي عليهم أن يعيدوه ثقافيّا وروحيّا، قبل إعادته صحيّا ونفسيّا وجسديّا. قبل أن يُدفع به الى هاوية نوبل، وأن يُوصل بأسلاك ديناميتها! نسوا أن يخصصوا له حلقات دراسيّة جادة ومنتجة، نسوا أن يجدوا له مؤسسة ثقافيّة وهميّة أو حقيقيّة ترعاه وتتكفل به شخصيا وبتراثه، ونسوا أن ينجزوا له تقويما أخلاقيّا وعلميّا وعاطفيـّا منصفا، ينسينا قاموسهم التدنيسيّ البشع والوضيع.
ألم يكن هو المغامر، المتطرف، المنحرف، البذيء، المهوسجي، الـذي لم يوفروا نعتا قبيحا لم يتم إلزاقه به؟
سبحانك نوبل مغيّر الأحوال!
بدلا من أرض نوبل البعيدة جدوا باسمه شارعا، مكتبة، مدرسة، تكية، باب بيت، مسمارا في حائط عراقي! المفارقة السوداء هنا نوابيّة خالصة أيضا. لأنّ النواب لا يحتاج الى هذا الضرب من التكريم، فهو الوحيد فينا من يحمل باسم عائلة النواب ساحلا نهريّا سحريّا، محفورا في ذاكرة الأيّام البغداديّة والعراقيّة، لم تمحه سنوات المدّ الرماديّ والأحمر والأصفر ثمّ الأسود، ولن تستطيع محوه.
إن أعظم تكريم لشاعر هو أن ينفضّ من حوله القمّامون. وإن أعظم تكريم لمظفـّر النواب حصريّا هو أن لا يخلط اسمه باسم بائعي الهوى، من مريدي الثقافات البعثـيّة والشموليّة والمناطقيّة والمتأمركة، قادة جيش الوشاة الجديد، صنـّاع مصائد الحمقى والمغفلين.
والأهم من هذا كلـّه أن لا يتكرم عليه شحاذو الثقافة بقصر في جنة الأدب العالميّ، قصر داعشيّ بسبع وسبعين حوريّة نوبليّة!
أعيدوه الى قصيدته، الى غنائيّاته، الى بكائيّاته، الى حنانه العذب، الى لسانه الذرب، الى صفائه، الى وفائه، الى شريعة النـّواب، الى أرضه ومائه، الى شعرية أوهامه، والى مسرى قوارب أحلامه!
أما أنتم فخذوا نوبل لكم ، خذوه كلـّه! تحاصصوه كما تحبّون. علـّقوا الجائزة على صدوركم، أو اربطوها على بطنونك كما تربط أحزمة الديناميت. أنتم تستحقونها بجدارة أكثر من مظفـّر النواب، لأنكم أبرز الكتاب المهرة في مجال صناعة الوهم، وصناعة ثقافة الطغاة والعبيد.
# ملاحظة ضرورية جداً:
كتبتُ هذا النص أولا بأسلوب تحليلي مدرسي، يناقش طبيعة الجائزة وظروفها وملابساتها. لكنّي عدلت عن الأمر، وقررت أن أناقش الدعوة بما يليق بها. لكيلا يفهم بعض القراء أنّ هذه الدعوة فعل ثقافيّ حقيقيّ، أو فعل خيّر، يقدّم لوجه الله أو لوجه مظفـّر.
ربّما هي مزحة، طرفة، دعابة سوداء، أو ايّ شيء آخر!
ولكن، في عقل من نبتت هذه المكرمة العالمية أولا، من رتبها وأخرجها؟ وكيف اجتمع وأجمع عليها "مفبركوها" المفبرَكون حزبيا وثقافيا؟
على من يضحك المضحِكون!