الطليعة الثورية والحدث


علي عامر
2017 / 12 / 8 - 23:03     



الحدث هو ظهور التناقضات الداخلية وخروجها إلى السطح.

فعلى مبدأ التراكم الكمي والتغيّر النوعي، تتراكم التناقضات وتنمو تحت السطح، وعند درجة محددة من نموّها تنفجر إلى الخارج، فتتحوّل من ما هو ممكن إلى ما هو واقعي وحقيقي وملموس.
لذلك فالسلام الظاهري (ما قبل الحدث) ليس إلّا حرباً مستترة.

دور الطليعة الثورية ومهماتها متصلة وغير منقطعة، لا يشوبها التراخي أو التكاسل، وتنأى الطليعة الثورية الحقيقية بنفسها عن أن تكون مجرّد رد فعل، أي أن لا تشرع بالحركة إلا بعد حصول الحدث وتحققه.
إلّا أن الطليعة الثورية يختلف دورها ومهماتها، وينقسما بحسب الفترة ما قبل الحدث وأثناء الحدث وبعد الحدث كالتالي:

أولاً: فترة ما قبل الحدث.
وهي الفترة الرمادية، وفترة السلام الظاهر والحرب المستترة، تتركّز مهام الطليعة الثورية هنا، في بناء ذاتها نظرياً وتنظيمياً أساساً، وتوعية وتنظيم الجماهير ثانياً.
وتلك المهمتان الرئيستان غير منفصلتان أبداً، فالطليعة تبني ذاتها من خلال تفاعلها بالجماهير ونضالها اليومي معهم، كما تثقف ذاتها من مصادر نظرية مكتوبة ومن خلال التجربة العملية سواءاً بسواء، على أن لا تغفل أبداً دور النظرية في قيادة النضال وحسم المعارك.
وفي المقابل، يتعزز دورها مع الجماهير وبينهم من خلال بناء ذاتها نظرياً وتنظيمياً، فكلما كانت النظرية أقرب للحقيقة وأصلب في البنيان، وكان بناء الطليعة الثورية الداخلي أشد عوداً وأصلب بناءاً، كلما ارتفعت فاعليتها بين الجماهير ومعهم، وكلما ساهمت في تسريع التاريخ نحو التحوّل الثوري.
من المهام الدقيقة للطليعة الثورية في هذه الفترة، التحذير من الانتفاضات غير الناضجة، التي ستأتي حتماً بالهزيمة، تلك الهزيمة التي ستعمل حتماً على تعزيز صفوف العدو، وتعزيز مواقعه وثقته، وفي المقابل، ستعمل على تشتيت صفوف الجماهير وتقويض ثقتها وعزيمتها وإرادتها ومواقعها.

ثانياً: فترة اندلاع وتفجر الحدث.
تنتفض الجماهير بإرادتها الحرة الذاتية، عند لحظة محددة في التاريخ، ليس من السهل أبداً التنبؤ بموعدها، وتخضع هذه اللحظة لمبدأ القشة التي قسمت ظهر البعير، فعند لحظة معينة من تكالب الظروف على الجماهير، تصل الجماهير مع الظروف لمرحلة الصفر، أو للنقطة الحرجة، تلك اللحظة التي إن ازدادت عندها درجة حقارة الظروف وقسوتها درجة واحدة، ستنفجر الجماهير وتنزل إلى الشوارع.
هنا تتحول مهمات الطليعة الثورية من مهمات البناء والتثقيف، إلى مهمة الإلتحاق بالجماهير وانتفاضتها، والسعي بكل قوّة وعزم نحو دفع هذه الانتفاضة إلى الأمام لتوسيع مداها الأخير.
حيث تلتحم الطليعة بالجماهير التحاماً عضوياً (ديالكتيكياً) مشتبكاً، فهي لا تذوب تماماً بالجماهير، كما لا تسلّم أبداً لعفوية الجماهير وبساطة رؤيتها، كما أنّها لا تنعزل تماماً عن الجماهير، فتخاطب الجماهير من أبراجها العاجية، وتنبح ضد غباء الجماهير وسذاجتها.
بل تمارس دورها الطليعي بامتياز ولكن من داخل صفوف الجماهير.
وتعتبر هذه الفترة، اختباراً عملياً لمرحلة البناء والتثقيف.

ثالثاً: فترة ما بعد الحدث.
بعد هدوء الأحداث الأخيرة، تعود الطليعة الثورية للمهمات المذكورة في (أولاً) دون أن تنسى أن تستخلص وتراكم الدروس من الأحداث الأخيرة، ومدركة تمام الإدراك لوقع وأثر نضالها الأخير بين الجماهير ودور ذلك في التأسيس لثقة الجماهير بهم، مما يمهّد الأرض لمهامهم القيادية والتثقيفية والتنظيمية في فترات الحرب والسلام.


ظهرت عدة تيّارات من المثقفين تنقسم تبعاً لموقفها من الأحداث التي تبعت تصريح ترمب الأخير المشؤوم، كالتالي:

1- التيّار النخبوي: الذي يفت من عضد الجماهير وعزيمتها، ويتهمها بالسذاجة والغباء، وينظر لأحلام الجماهير بالتحرر والانعتاق على أنها أحلام أطفال غير واقعية وغير ممكنة، كما ينتقد هذه التيّار آليّات عمل الجاهير التقليدية، ويؤكد وينعق في كل مكان، على لا جدوى هذا النضال.

2- التيّار الشعبوي: حيث يتخلّى المثقف أو الطليعي عن مهامه التثقيفية والتنظيرية والقيادية ويذوب تماماً داخل صفوف الجماهير، وهذا التيّار يقدس عفوية الجماهير ويعلّق عليها كل الآمال، فبالنسبة له الطيبة والاستناد إلى الحق كفيلين بأن يكون النصر حليف الأخيار ضد الأشرار!!! وهو بهذا الموقف الإنتهازي يتفلت من دوره ومسؤولياته.

3- التيّار المثالي أو الرومانسي: يقلل من شأن هبة الجماهير ونضالها متذرعاً أنّ أسباب انتفاضة الجماهير غير مقنعة، وأنّه صحيح مع انتفاضة الجماهير ويدعمها، ولكنه يشكك بجوهرية وضرورة الأسباب التي انطلقت من أجلها الجماهير، من هؤلاء مثلاً من شكك بأهمية أسباب الهبة التي اندلعت اعتراضاً على نقل السفارة إلى القدس، بحجة أن السفارة مرفوضة حتى لو كانت في تل أبيب، وبحجة رفض الكيان الصهيوني جملة وتفصيلاً، وبحجة التأكيد على كامل التراب الفلسطيني، وشعاره هنا وإن كان صحيحاً وضرورياً، إلّا أنّ الفجوة بين هذا الشعار ومنطلقات الجماهير في هبتها، تعود لتقصير هذا المثقف بمهامه الضرورية في فترات السلم، أو الفترات الرمادية، كما وصفت أعلاه، كما أنّه ومن الناحية الثانية، لا يرى خطورة الحدث المتمثل في الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لليهود، ونقل السفارات الدولية إلى هناك، بسبب من عماه المثالي، حيث لا يرى القضايا إلّا في إطارها الكليّ الكبير، بمعزل عن التفاصيل الواقعية الجزئية.
وفي ردنا على هذا التيّار، نقول أنّ السبب الصحيح للانتفاضة هو السبب الذي يدفع الجماهير للانتفاض، وليس السبب الذي تمنّاه المثقف. فالحقيقة موضوعية وليست في خيال وأحلام المثقف. وهذا لا يلغي أبداً دور الطليعة ومهماتها في إيقاظ وعي الجماهير على الأسباب المادية الحقيقة التي من الواجب أن تنتفض ضدها وتثور عليها، ولكن كما أكدنا، فإنّ المهمات التثقيفية لا تأتي أبداً لحظة اندلاع الانتفاضات، أي أنّه لا يجوز أن تكون المهمة التثقيفية كالوقوف في وجه السيل.
ومنهم أيضاً، من رفض الهبة، لأنّ الهبة بنظره اندلعت لأسباب دينية وليست وطنية، وهذا هو اليسار الطفولي.

4- أخيراً, الطليعة الثورية كما وصفناها أعلاه، وأثرها وحضورها مع الأسف مازال منحصراً ومحدوداً جداً.