في مئوية الثورة التي هزت العالم لينين ومفهوم الثورة البروليتارية


ماري ناصيف
2017 / 11 / 20 - 20:41     

في مئوية الثورة التي هزت العالم
لينين ومفهوم الثورة البروليتارية


"لم يصل البلاشفة إلى السلطة بواسطة مساومة مع الطبقات المالكة أو مع السياسيين عموما، ولا كذلك بفعل بذل الجهد للتوافق مع جهاز الدولة القديم. ولم يستلموا السلطة كذلك بالعنف المنظّم من قبل مجموعة صغيرة. فالانتفاضة كانت ستؤول إلى الفشل لو أن الجماهير في كل روسيا لم تكن مستعدّة للثورة. هنالك تفسير واحد لنجاح البلاشفة: لقد حققوا التطلعات الكبيرة والبسيطة لأوسع فئات الشعب التي دعوها إلى تفكيك العالم القديم وتدميره، وذلك من أجل الخوض معا في بناء أسس عالم جديد ينبلج من بين دخان الأطلال المنهارة"
جون ريد، "عشرة أيام هزّت العالم"

لم تأت ثورة أكتوبر من فراغ.
فهي نتيجة سياق تاريخي عمره ما يقارب مئة وخمسين عاما من النضال الدامي الذي خاضته الفئات الشعبية الروسية بأشكال مختلفة؛ ونخصّ بالذكر، هنا، انتفاضات الفلاّحين منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى السنوات الأولى من القرن العشرين، من أجل إلغاء نظام القنانة، أولا، وإجراء إصلاحات أهمها إعادة توزيع الأرض وإلغاء الضرائب المرهقة وتحسين الظروف المعيشية الرثة لما يقارب الثمانين بالمئة من الشعب. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن ما سمي بمرحلة انتقال روسيا إلى "العصرنة"، بعيد الانتفاضات الفلاحية التي تلت ثورة 1905، زادت الأمور سوءا، إذ لم يستفد من "الاصلاح الزراعي" سوى أقلية من المالكين الصغار، بينما اضطر قسم لا يستهان به من أبناء الريف إلى النزوح باتجاه المدن بحثا عن لقمة عيش مرّة لم يجدوها غالبا.
والطبقة العاملة الناشئة، التي أتت بأكثريتها من الأرياف الفقيرة، لم تكن أحسن حالاً من الفلاحين، إن بالنسبة لساعات العمل التي تصل إلى الستين أسبوعيا مقابل أجور ضئيلة لا تكفي لسد الجوع، أم بالنسبة للمساكن الفقيرة وغير الصحية والضيّقة، أم، أخيرا، بالنسبة لعلاقات العمل غير الإنسانية وللتشريعات الموضوعة أساسا من أجل خدمة أرباب العمل وزيادة إرباحهم ومنع العمال من التحركات المطلبية. أما النقابات، التي بدأت تبرز في تلك الفترة، فلم تكن بذات شأن، عدا عن أن معظمها كان مخترقا من البوليس القيصري وخاضعا لمشيئته.
وإذا ما أضفنا إلى تلك اللوحة السوداء ما أدى إليه انخراط روسيا في الحرب العالمية الأولى من مشاكل اقتصادية واجتماعية بفعل تحويل مجمل الصناعة باتجاه المجهود الحربي والاستيلاء على القسم الأكبر من الانتاج الزراعي تحت هذا العنوان، وما أدت إليه الحرب، خاصة منذ صيف 1915، من تضخّم وانهيارات في القدرة الشرائية، المنخفضة أساسا، ومن قمع للعمال والشعوب المستعمرة، ومن تهجير وتدمير للمناطق الصناعية، القديمة والمستحدثة، إلى جانب ملايين القتلى والجرحى والأسرى (مليوني قتيل وثلاثة ملايين أسير ومفقود، بحسب إحصاءات 1916)، لتوضح لنا مغزى التحركات الواسعة التي اجتاحت روسيا، بمدنها وريفها، ووصلت أصداؤها إلى جبهات القتال...
كل هذه التحركات أدّت، في 25 و26 شباط / فبراير 1917، إلى الإضراب الشامل في العاصمة بتروغراد تحت شعار "الخبز" الذي طورّه البلاشفة بإضافة شعارين جديدين "فليسقط القيصر" و"لا لاستمرار الحرب"، أي بالجمع بين النضال الطبقي والتغيير السياسي والقضية الوطنية. وقد تجلّى هذا الاختلاف في الشعارات في النتائج الأولى للإضراب، عبر نشوء قيادة مزدوجة تمثلت في تشكيل "اللجنة التنفيذية المؤقتة"، التي ضمت ممثلين سياسيين عن الأحزاب الاشتراكية المختلفة، بينما تجمع ممثلو العمال والفلاحين والجنود المنتخبون في أول مجلس "سوفيات" للعاصمة.

مفهوما الثورة البرجوازية والثورة البروليتارية
ويمكن القول أن الفرق بين مفهوم الثورة البرجوازية ومفهوم الثورة البروليتارية يكمن في ما كان يهدف إليه كل فريق عبر البرنامج الذي تبناه في تحركات شباط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البلاشفة لم يطرحوا في تلك الفترة مسألة استلام السلطة، بل كانوا يرون – كما تدلّ الشعارات المطروحة – أن المسالة الأهم هي تحديد المرحلة على أنها مرحلة ثورة وطنية ديمقراطية سقفها إزاحة القيصر، ومنع القوى المضادة للثورة من الارتداد على الانجاز الذي تحقق، ووضع الأسس لوقف الحرب. لذا، يمكن فهم المساومة التاريخية التي قام بها البلاشفة يوم اعترفوا، في الثاني من آذار 1917، بشرعية الحكومة المؤقتة وبتسليم لفوف ومن بعده كيرنسكي رئاسة الحكومة المؤقتة التي تألفت، بشكل أساس، من الحزب الدستوري – الديمقراطي ومن "الليبراليين" ... إنما ليس لأجل غير مسمّى، من جهة، أو بدون وضع ضوابط وشروط، من جهة ثانية. فقد ركز مجلس السوفيات على أنه يدعم الحكومة في حال طبّقت برنامجا ديمقراطيا يرتكز على الاعتراف بالحريات العامة، وإلغاء كل الامتيازات الطبقية المعطاة من قبل القيصر للنبلاء وكبار البرجوازيين، وحل البوليس السري وتشكيل جمعية تأسيسية مهمتها تحديد النظام السياسي اللاحق وصياغة دستور جديد. بمعنى آخر، كان الدعم المشروط، بعناصره المختلفة، يشكّل منطلقا حقيقيا للانتقال من مرحلة الثورة البرجوازية إلى مرحلة الثورة البروليتارية التي لا يجب أن تتأخر كثيرا.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الحكومة المؤقتة عملت على تطبيق الاتفاق، تقريبا، كونها لم تكن قوية بشكل كافي للتملص من محتوياته أو للخلاص من البلاشفة. لذا، كانت أولى خطواتها العمل على استقالة القيصر، منهية بذلك ثلاثمائة عام من سيطرة عائلة رومانوف على روسيا وشعوبها. كما أنها اعترفت بالحريات الأساسية، وعمدت إلى حل الأجهزة البوليسية القيصرية، ووضعت نظاما انتخابيا مبنيا على حق الاقتراع للجميع؛ كما عمدت، أخيرا، إلى تشكيل جمعية تأسيسية... غير أنها، من منطلق تشكيلتها الطبقية، حاولت التملص من كل ما أقرّت، عبر تشكيل أجهزة بوليسية جديدة، من جهة، وتغليب الوجود الليبرالي داخل الجمعية التأسيسية، من جهة ثانية، وتبني شعار يركز على ضرورة "انتهاج سياسة لا تزعج أحدا"، من جهة ثالثة.

ما هو المقصود من وراء هذه التسمية؟
المقصود هو بالطبع عدم إزعاج الطبقة الحاكمة السابقة والسياسيين الدائرين في فلكها، والاستعانة بهم لإحداث تحوّل باتجاه تثبيت النظام البرجوازي الجديد... خاصة مع الدعوات الصادرة عن بعض الدستوريين – الديمقراطيين إلى إقامة ديكتاتورية عسكرية تمسك بزمام الأمور والتي كانت تتناغم مع التوجه الأساسي الذي رسمته الحكومة في السياسات الاقتصادية، والهادف إلى تحويل روسيا باتجاه الرأسمالية الليبرالية القريبة من الرأسماليتين البريطانية والفرنسية.
والأهم من هذا وذاك، لم تسع تلك الحكومة إلى اتخاذ موقف من القضيتين اللتين كانتا تشكلان الشعارين الأساسيين لكل التحركات التي انطلقت منذ العام 1914، وهما: الأرض والحرب، أي القضية الطبقية الأولى المتعلقة بإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين ودعمهم، خلافا لما جرى بعد الثورة الرأسمالية الأولى في العام 1905، والقضية الوطنية الأولى المتعلقة بالانسحاب من حرب استعمارية، الهدف منها تقسيم العالم بين المراكز الرأسمالية الأساسية. كل ذلك في وقت سعى فيه المناشفة و"الاشتراكيون – الثوريون" إلى وضع اليد على مجلس السوفيات لتكبيل البلاشفة نهائيا. والأفظع من هذا وذاك هو الموقف المائع بعض الشيء من مسألة إنهاء الحرب الذي عبّرت عنه جريدة "البرافدا" في أواخر آذار بالقول: "إن شعارنا يركز على الضغط على الحكومة المؤقتة لإجبارها على إجراء محاولة باتجاه تحفيز البلدان المتصارعة للانتقال إلى المحادثات في ما بينها... بانتظار ذلك، ليبقى كل في موقعه القتالي".
هذا الموقف المائع، واجهه لينين مباشرة في بداية "موضوعات نيسان"، التي وزّعها غداة عودته من منفاه في سويسرا، وطرحها في اجتماع مشترك حضره البلاشفة والمناشفة. فكتب أن موقف ممثلي البروليتاريا لا بد وأن يركّز على الطبيعة الامبريالية للحرب، وأن البروليتاريا الواعية لا يمكن أن تعطي موافقتها حتى على حرب ذات طابع ثوري إذا لم تتأمن الشروط التالية: "ألف، أن يكون الحكم في يد البروليتاريا والعناصر الفقيرة من الفلاحين القريبة منها. باء، أن يتم التنازل الفعلي، وليس اللفظي، عن كل أشكال الضم والإلحاق. جيم، أن تتم القطيعة الفعلية والكاملة مع كل مصالح رأس المال"... ليستخلص، بعد ذلك، عدم إمكانية إنهاء الحرب الدائرة، وإقامة سلم ديمقراطي فعلا وغير مفروض بفعل العنف، في ظل الحكومة المؤقتة، البرجوازية، من جهة، وبدون الخلاص من سلطة راس المال، من جهة ثانية، وانتقال هذه السلطة إلى طبقة أخرى، البروليتاريا.

الجمهورية البرجوازية البرلمانية والحكم الثوري
لقد كان لـ"موضوعات نيسان" ولعودة لينين إلى روسيا دورهما في استرجاع الحزب البلشفي إلى موقعه الطبيعي في الصراع الدائر حول ماهية النظام الجديد، بل وفي تسريع الانتقال من مرحلة الثورة البرجوازية إلى مرحلة ثورة البروليتاريا، ومن مرحلة دكتاتورية الحكم البرجوازي إلى "الديكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين". ويضيف بعض المحللين أن المواقف التي طرحها لينين إثر عودته شكّلت ردّا على انحرافين خطيرين. الانحراف الأول، اليميني، الذي عبّر عنه المناشفة بالقول أن مهمة البروليتاريا في تلك المرحلة يجب أن تقتصر على دعم (مشروط طبعا) للبرجوازية الروسية لتمكينها من مواجهة النظام الاستبدادي القيصري وإلى أن تصبح روسيا مهيأة للانتقال إلى النظام الاشتراكي؛ أما الانحراف الثاني، اليساري، فيتمثل في أطروحات تروتسكي وشعاره عن "الثورة الدائمة" ودعوته إلى استعجال وصول الطبقة العاملة إلى الحكم في روسيا، بحيث تدفع باتجاه تصدير الثورة وتسريع قيام الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الأخرى.
وفي هذا المجال، لا بد لنا من التوقف أمام ثلاثة من التوجهات الأساسية الموجودة في "موضوعات نيسان" وكذلك في كتابات لينين اللاحقة لثورة أكتوبر، ومنها المقال المهم الذي يحمل عنوان "عن الضريبة العينية".
المسألة الأول، ويتعلّق بكيفية استعجال إنهاء المرحلة الانتقالية للخلاص من نظام حكم البرجوازية باتجاه الحكم الثوري؛ ويتوجّب علينا لفت النظر في هذا المجال إلى أن لينين كان الوحيد الذي طرح مسألة عدم ضرورة إطالة المرحلة الانتقالية المتمثلة بالجمهورية البرلمانية، بل تسريع التوجه إلى "جمهورية السوفيات" وإقناع أغلبية العمال بأهمية ذلك.
يقول لينين ما يلي: "لا يجب تقديم أي دعم للحكومة المؤقتة، بل إظهار الطابع الكاذب لكل وعودها، خاصة تلك المتعلقة بالعدول عن ضم أراضي بلدان أخرى، وفضح الحكومة، بدل "المطالبة" – المرفوضة، كونها تعطي فكرة وهمية – بأن تكف هذه الحكومة، التي هي حكومة الرأسماليين، عن كونها إمبريالية" (والمقصود، هنا، موافقة حكومة لفوف – كيرنسكي على الاتفاقات التي عقدها القيصر مع حكومتي فرنسا وبريطانيا تحت مسميات مختلفة، من بينها "اتفاقية سايكس – بيكو). وبعد أن يتطرّق إلى وجود عناصر كثيرين من البرجوازيين الصغار بين قوى اليسار الروسي، من الاشتراكيين "الشعبيين" إلى "الاشتراكيين – الثوريين" إلى "المناشفة"، مشددا على ضرورة توضيح الأخطاء، يدعو إلى رفض الجمهورية الديمقراطية البرلمانية، حيث السلطة للبرلمان في الشكل و"حيث ماكينة الدولة، وجهاز الادارة يتألفان، كما دوماً، من: الجيش، والبوليس، والبيروقراطية ذات الامتيازات والموضوعة فوق الشعب" ويشكلان دكتاتورية البرجوازية، الأمر الذي يتطلب "توضيح الطابع الكاذب لكل وعودها وفضح ماهيتها الامبريالية"، واستبدال ذلك بالدعوة إلى جمهورية سوفياتات ممثلي العمال والعمال الزراعيين والفلاحين في كل البلاد، بدءا من القاعدة وحتى القمة".
المسألة الثانية، وتتعلق بكيفية تفعيل قوى البروليتاريا والفلاحين (بما يعني، ضمنا، الجنود) من أجل الوصول سريعا إلى المرحلة الثانية، مرحلة تشكيل الحكم الثوري الذي يحدده لينين بوضوح قائلا عنه إنه يستند "إلى عمل ثوري، إلى مبادرة ثورية للجماهير الشعبية – مبادرة تأتي من تحت – وليس إلى قانون صادر عن سلطة مركزية. فهذا الحكم هو من معدن آخر غير الذي يتواجد عموما في دولة ديمقراطية برجوازية برلمانية، كالذي يسيطر في أيامنا هذه في البلدان المتقدمة في أوروبا وأميركا (...). إنه على مثال كمونة باريس في العام 1871"، التي عمدت إلى استبدال الجيش والبوليس، البعيدين عن الشعب، بتسليح الشعب مباشرة ليواجه قوى العدوان والاحتلال والتحالف الناشئ بينها وبين برجوازية الداخل التي استعانت بها لتقمع التغيير ولتعود إلى كراسي الحكم على حساب الوطن والأرض والشعب.
ويُذكَر في هذا المجال ما كتبه جون ريد في الفصل الأول من كتابه "عشرة أيام هزّت العالم"، إذ يقول أنه أجرى في 15 تشرين الأول 1917 مقابلة مع رأسمالي روسي كبير، ستيفان ليازانوف (الملقب بروكفلر روسيا)، الذي لم يكتف بالإعلان عن أن الثورة "مرض"، بل أكد انه "لا بد للقوى الأجنبية من أن تتدخل هنا، عاجلا أم آجلا، كما يتدخل الطبيب لمعالجة طفل مريض وتعليمه المشي".
أما المسالة الثالثة، والأخيرة، فتتعلّق بالبرنامج الوطني والاقتصادي. ذلك أن مثل هذا البرنامج – بالنسبة للينين – واجب وضروري، ولا بد أن يترافق مع تدابير عملية قابلة للتطبيق الفوري.
أولى نقاط هذا البرنامج تكمن في تأميم كل الأراضي في روسيا، وبالتحديد الأراضي التي لا تزال بيد الإقطاع القديم، وإعادة توزيعها من قبل السلطة المركزية، متمثلة، لا بالموظفين والبيروقراطيين، بل بالسوفياتات المناطقية التي لها وحدها الحق في تحديد شروط استثمار الأراضي واستملاكها...
أما النقطة الثانية، فتتعلق بالعمل على فضح ومنع عودة أنصار القيصرية وكبار الملاّكين العقاريين إلى المواقع القيادية في الجيش والبوليس والوظيفة العامة، أي في قيادة "الأجهزة المعتمدة لقمع الجماهير". ويترافق التركيز على إعادة بناء جهاز الدولة، بالنسبة للينين، مع العمل على زيادة الانتاج وتطويره، وتطوير القطاعات المنتجة ضمنه.
أخيرا، وبالإضافة إلى طرح شعار تأميم المصارف والشركات المالية ومصادرة النقابات الرأسمالية، تركز الموضوعات على النضال الأيديولوجي، وبالتحديد على ضرورة وأهمية فضح الدور الذي تلعبه البرجوازية الصغيرة التي "سحقت البروليتاريا الواعية بعددها وبأيديولوجيتها، أي أنها لوّثت أوساطا واسعة من العمال من خلال نقل مفاهيمها البرجوازية – الصغيرة في السياسة إليهم"؛ ذلك أن تلك البرجوازية الصغيرة إنما ترتبط بالبرجوازية في وجودها وفي الموقع الذي تحتله داخل عملية الانتاج. وهذا التركيز على مساويء البرجوازية الصغيرة لم يقتصر، بالنسبة للينين، على دورها في المرحلة الانتقالية، بل تعداه إلى مرحلة نجاح الثورة البروليتارية. ومن يقرأ المقال المهم "عن الضريبة العينية" يلاحظ الاستفاضة في تعريف "البرجوازي الصغير" وفي لفت النظر إلى الصراع الرئيسي الذي يدور، في العام 1921، أي بعد أربع سنوات تقريبا على انتصار الثورة البروليتارية.
يقول لينين، في هذا المقال، "إن البرجوازية الصغيرة والرأسمالية الخاصة هما اللتان تناضلان جنباً إلى جنب ضد رأسمالية الدولة ضد الاشتراكية في آن واحد. فالبرجوازية الصغيرة تعارض كل تدخّل من جانب الدولة، تعارض كل مَسْك حسابات وإشراف سواء أمِن جانب رأسمالية الدولة أم من جانب اشتراكية الدولة. وهذا واقع فعلي، لا مراء فيه أبداً، واقع يشكل عدم فهمه أساس جملة كاملة من الأخطاء الاقتصادية. فالمُضارِب، التاجر المُحتكِر، مخرِّب احتكار الدولة، هذا هو عدونا "الداخلي" الرئيسي، عدو الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها سلطة السوفياتات"... أما الحل فيكمن في النضال ضد المضاربة، وفي تطوير مبادرة المنظمات المحلية ونشاطها المستقل في جميع الاتجاهات، وتشجيع التداول بين الصناعة والزراعة، ودراسة التجربة العملية في هذا الميدان... إلى جانب اقتراحات اقتصادية واجتماعية أخرى يمكن القول عنها أنها تدخل في أساس "السياسة الاقتصادية الجديدة" التي لم تسنح لها الفرصة للانتقال إلى حيّز التطبيق...
* * * * *
مئة عام مرّت على الثورة البروليتارية والدولة التي انبثقت عنها والتي انتهت إلى ما انتهت إليه، منذ أكثر من ربع قرن. غير أنها لا تزال تثير الكثير من النقاش، في مجالي النظرية والتطبيق، خاصة في عالمنا العربي الذي يتخبط، منذ ست سنوات، بين الثورة الوطنية الديمقراطية، التي أطلقتها الجماهير الواسعة في تونس ومصر، والثورة المضادة التي تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية من داخل وخارج بلداننا.
في هذه السنوات الست، طرحت مجموعة من المساهمات النظرية والعملية من قبل قوى طبقية مختلفة، لعل أهمها تلك المساهمات التي تمت في دائرة "اللقاء اليساري العربي" والتي هدفت وتهدف إلى تسريع مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو الحكم الوطني الديمقراطي، للانتقال إلى الثورة البروليتارية التي أصبحت ضرورة ملحة في ظل وضع أصبح يهدد وجود العالم العربي بأسره.
هذه المساهمات، يمكن تلخيصها في ما جاء بالتحديد في البيان الصادر عن اللقاء الثاني، الاستثنائي، المنعقد في شباط / فبراير 2011 في بيروت، والذي جاء فيه "إن المهمة الأولى لقوى اليسار العربي، اليوم، تكمن في تحصين الحالة الثورية التي يعيشها عالمنا العربي وتجذيرها، باتفاقها على برنامج للتغيير يتحقق فيه الربط المنهجي النضالي بين المهام الوطنية ومهام التغيير الديمقراطي والاجتماعي. والمواجهة هذه تنطلق في موقع اليسار من إنتاج هذا التغيير ومن مقاومة الاحتلال والعدوانية الامبريالية، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية. إن هذا المفهوم للمقاومة الوطنية يعطيها بعداً تحررياً يؤسس لحركة تحرر عربية جديدة يرتبط فيها البرنامج النضالي لتغيير الأنظمة القائمة، باتجاه إقامة أنظمة حكم وطني ديمقراطي علماني مقاوم للاحتلال ولكل سياسات العدوان الامبريالي والصهيوني، وللسياسات الاقتصادية النيو ليبرالية".
لا شك أن المهمة صعبة، إنما غير مستحيلة، إذا ما أعدنا قراءة ما جرى منذ مئة عام في بلد يشبه، بتطوره ودوره قبل الثورة، الكثير من بلداننا، واستفدنا من دروس الماضي لنعيد صياغة المستقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1. جون ريد، "عشرة أيام هزت العالم"، 1919، دار النشر الفرنسية Editions sociales، طبعة 1986.
2. فلاديمير إيليتش لينين، "موضوعات نيسان"، 1917، ويكيبيديا.
3. فلاديمير إيليتش لينين، "عن الضريبة العينية"، 1921، منشورات دار التقدم، موسكو، 1973.
4. ريتشارد بايبس، "الثورة الروسية"، PUF، باريس، 1993.
5. نيكولا ﭭيرت، "الثورات الروسية"، PUF، باريس، 2017.
6. بيانات "اللقاء اليساري العربي"، 2010 – 2016.