الثورة: قراءة نقدية في المصطلح


محمد علي مقلد
2017 / 11 / 15 - 11:25     

الثورة: قراءة نقدية في المصطلح

التغيير الجذري لا يحصل إلا بالثورة. هذا صحيح. لكن مصطلح الثورة يحتاج، هو الآخر، إلى تحديد وتعريف، إلى اتفاق على مضمونه ودلالته. سمير أمين أحصى ثلاث ثورات في العصر الحديث، الفرنسية والسوفياتية والصينية. فؤاد مرسي تحدث عن ثلاث ثورات في التاريخ: ثورة العصر الحجري التي تميزت "بظهور المحاصيل وتربية الماشية... والانتقال من الوضع المشاعي إلى المجتمع الطبقي" (ص.15،م.ن.)، الثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي، والثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، التي تشكل المرحلة الأخيرة بعد مراحل "الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية"( م.ن.). آخرون تحدثوا عن ثورة علمية أو ثورة معرفية أو "ثورة ثقافية" (الصين الشيوعية بقيادة ماوتسي تونغ). بيار شونو تحدث عن " ثورة الأفكار من 1620 إلى1650 والقفزة المتقدمة لعلوم الرياضيات وميكانيك الفضاء من 1650 إلى 1680" كما تحدث عن "ثورة ميكانيكية" وعن "انفجار المعرفة المتصاعد"(ص.214 وص.327 وص.328 من كتاب، الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار، ترجمة سلمان حرفوش، دار كنعان، دمشق، 2003). ألتوسير أشار، من غير أن يستخدم مصطلح الثورة، إلى قارات معرفية، افتتح اليونانيون الأولى، قارة الرياضيات، وغاليليه الثانية، الفيزياء، وماركس الثالثة، وهي قارة التاريخ. (محمد الوقيدي، العلوم الانسانية والإيديولوجيا، دار الطليعة، بيروت، 1983، ص33). كما أشار غاستون باشلار إلى ما أسماه "القطيعة الابستيمولوجية"، التي تحمل معنى "الانقلاب الثوري" على منهج التفكير السابق. آخرون تحدثوا عن تثوير العقول وتثوير الدين وتثوير القرآن، فيما دعا الشاعر أدونيس إلى تثوير اللغة الشعرية.
بيد أن "أحزاب الله" شحنت مصطلح الثورة هذا بمدلول وحيد هو الاستيلاء على السلطة السياسية عن طريق الانقلابات العسكرية، وفي ظنها أنها تقلد آليات التغيير التي استخدمها لينين في الثورة البلشفية لتغيير النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي، أو وسائل الاغتيال التي التي سادت في القرون الوسطى. غير أن لينين استدرك باكراً، مباشرة بعد إعلانه "كل السلطة للسوفيات"، الحاجة إلى الرأسمالية وآلياتها الاقتصادية من أجل الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي، فيما قرأت الأصوليات تجربته بعين واحدة وراحت تتفنن بتنظيم خلايا عسكرية داخل الجيوش للقيام بانقلابات وإذاعة "البيان رقم واحد" وإطاحة النظام "البائد" ومحاكمة "عملاء الامبريالية والصهيونية والاستعمار".
الحقيقة أن فكرة الانقلاب الثوري التي وردت في نص البيان الشيوعي كانت تستند إلى قوانين المادية الجدلية، لا كما هي الحال لدى أحزاب الله. ويمكن تفسيرها بقانون التراكم الكمي والتحول النوعي. بموجب هذا القانون لا تكون الثورة بنت اللحظة بل هي عملية طويلة وشائكة تشكل لحظة الانقلاب فيها تتويجاً لسيرورة من التحولات المتراكمة، ويضرب عليها مثلاً تراكم درجات الحرارة في الماء درجة درجة، حتى إذا بلغت المئة تحول الماء إلى بخار، أو تراكم التحولات الجزئية في الزهرة إلى أن تغدو ثمرة، الخ. مثل هذا المعنى ينطبق على الثورة في المجال العلمي، فيندرج الانقلاب تحت اسم القطيعة المعرفية أو الابستيمولوجية. وفي جميع الحالات لا يكون الانقلاب أو القفزة النوعية أو التحول الكيفي في العلم إلا اللحظة الأخيرة من سلسلة التحولات المتراكمة، التي لا تلغي ما سبقها بل تستند إليه لتتجاوزه بعد أن يكون قد بلغ حدوده التاريخية. وقد أكدت النصوص الماركسية هذه الدلالة لمصطلح الثورة، حين رأت أن مهمة الفلسفة هي تغيير العالم لا الاكتفاء بتفسيره، وأشارت بوضوح إلى أن التاريخ "يفتتح فترة ثورية مجتمعية" (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص، 4، من النص الفرنسي،(editions sociales تبدأ حين تصبح علاقات الانتاج عائقاً أمام تطور القوى المنتجة.
الفكرة القائلة إن الثورة لا تكون بنت لحظتها بل هي سيرورة تمتد طويلا في الزمن، تتجلى بمزيد من الوضوح حين يتعلق الأمر بالثورة المعرفية والإيديولوجية. سمير أمين تناول الموضوع بشيء من التفصيل في كتابه، نحو نظرية للثقافة( معهد الانماء العربي 1989). فهو يرى أن الفكر الإيديولوجي مر في ثلاث مراحل. الأخيرة منها هي المرحلة الرأسمالية، وقبلها الإيديولوجيا الخراجية في العصر الوسيط والفكر الميتافيزيقي، وقبلها العصور القديمة التي سادت فيها الميثولوجيا والفكر الأسطوري.
يشدد سمير أمين على نقطتين، الأولى هي أن التحولات في الفكر كانت بطيئة، بحيث لم يكن "هناك فرق جوهري بين نظم الفكر في المجتمعات البدائية القائمة على نمط انتاج جماعي، وبين نظم فكر المجتمعات الخراجية في مرحلتها الأولى" (ص19) ثم يؤكد هذه الفكرة حين يرى أن " إتمام تبلور الإيديولوجيا استغرق حوالي ثلاثة قرون هي قرون الانتقال إلى الرأسمالية... بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر"،(ص83-84)، وأن" التكوين الايديولوجي للمجتمع الخراجي لم يتبلور مرة واحدة في فترة وجيزة، بل تشكل بالتدريج وببطء" (ص17). كما تحدث عن ثورات لا عن ثورة واحدة، اقتصادية وإيديولوجية ودينية، وعن مراحل ثورية لا عن ثورة ناجزة. والثانية هي أن الانتقال من سيطرة إيديولوجية إلى سيطرة إيديولوجية أخرى كان يتم في لحظة ثورية هي ما يسميه غاستون باشلار بالقطيعة، وهي التي حصلت مرة حين سيطرت الإيديولوجيا الخراجية الميتافيزيقية، فيما تلازم حصول الثانية مع " الانتقال من نمط الانتاج الخراجي في شكله الاقطاعي إلى نمط الانتاج الرأسمالي"(ص18)
يقول محمد الوقيدي في كتابه (العلوم الانسانية والإيديولوجيا، دار الطليعة، 1983، ص68): "إذا صح أن نعتبر نشأة العلوم الانسانية ثورة معرفية في تاريخ الفكر الانساني، فإن ذلك لا يكون إلا مرفوقاً باعتبارين. فأولاً لقد تم بصورة تدريجية تهييء الشروط اللازمة لقيام هذه الثورة المعرفية، وثانيا إن الشروط المتعلقة بقيام هذه الثورة المعرفية لم تكن تتعلق بمجال العلوم الانسانية وحده، بل كانت تتعلق أيضاً بتحقيق قطيعات ابستيمولوجية في ميادين معرفية أخرى". ثم يعدد العوامل المساعدة والممهدة، فيرى أن "سيادة النظرية الميكانيكية في القرن السابع عشر مهدت لاعتبار الانسان جزءاً من الطبيعة" ...وأن علوماً كثيرة أصبحت تنظر إلى الانسان كموضوع من موضوعاتها... ومن أهم هذه العلوم التاريخ الطبيعي، الذي نجح في إلقاء الضوء على تاريخ النوع البشري، ممهداً بصورة قوية لتقدم الدراسات الطبية من جهة ، ولتقدم الوعي بضرورة نشأة العلوم الانسانية من جهة ثانية"(ص69-70). كما رأى أن الاتجاهات التجريبية الانكليزية، شأنها شأن الاتجاهات العقلانية، قد ساهمت هي الأخرى في التمهيد لنشأة تلك العلوم (ص71)، وأن جميع العلماء الذين أرسوا قواعد المنهج العلمي قد ساهموا بصورة غير مباشرة في خلق الوعي بضرورة تأسيس هذه العلوم(ص73). ثم يؤكد أن تحرير العقل من سلطة النصوص المقدسة والتاريخ من الخضوع للاعتبارات اللاهوتية مهد لنهضة علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، التي كان لها تأثيرها على نهضة العلوم الانسانية(ص75). كل ذلك، من غير أن تجبّ الثورة المعرفية ما قبلها، بل هي تستند إليه وتنطلق منه، فتتناسل المعارف وتتوالد من غير أن يلغي بعضها الجديد بعضها القديم. وهكذا فإن العلوم ما زالت تستند إلى قوانين بيتاغوروس وأرخميدس ونيوتن، كما أن شعر الملاحم والجداريات والتماثيل القديمة والمقطوعات الموسيقية ما زالت تحافظ على قيمتها الفنية بعد مرور مئات السنين.
التمهيد الذي يشير إليه الوقيدي لا يتجاوز عمره القرنين من الزمن، لكن بعض هذه العلوم التي ساهمت في نهضة العلوم الانسانية يعود ميلادها إلى عشرات القرون، فهل يحتاج التغيير في المجال السياسي مثل هذا المدى الزمني من التمهيد؟ نميل إلى الاعتقاد بأن السلطة السياسية في الحضارة السابقة على الرأسمالية تعجز حكماً عن إدارة علاقات الانتاج الجديدة الرأسمالية، لأن قدراتها الإدارية تكون قد بلغت "حدودها التاريخية"، ولهذا كان من الطبيعي أن يتولى السلطة في الحضارة الجديدة فئة أو طبقة تعتمد آليات جديدة في إدارة شؤون المجتمع ومنهجاً جديداً في التفكير والعمل. إذن كان لا بد من أن تزيح واحدة الأخرى، فكانت اللحظة التاريخية التي جسدتها الثورة الفرنسية عام 1789، وما تلاها من تداعيات في كل أنحاء أوروبا ثم على صعيد الكرة الأرضية. بدأت التحولات الثورية بقيام الجمهورية في فرنسا، ثم بحروب خاضها نابليون لتعميم تجربته على امتداد القارة العجوز، واستمرت بقوانين التنافس الرأسمالي والتوسع الأفقي ولم تنته بحربين عالميتين، بحيث يمكن القول إن الثورة الفرنسية اختتمت تاريخاً من التحولات البطيئة في الميدان الاقتصادي وفي مجالات العلوم والمعارف والثقافة والعادات والتقاليد، لكنها دشنت " فترة ثورية مجتمعية" عنوانها انتقال المجتمعات البشرية على الكرة الأرضية من حضارة العصر الاقطاعي إلى الحضارة الرأسمالية.
إذا جاز لنا، على سبيل المقارنة، أن نحدد بداية الحضارة الاقطاعية، أو العصور الخراجية، بحسب التسمية التي اختارها لها سمير أمين، من بداية ظهور فكرة التوحيد، منذ الفرعون أخناتون ثم في الأديان السماوية من بعده، ومما يوازيها في الديانات الشرقية (البوذية والكونفوشية حوالي 600 قبل الميلاد، و الهندوسية قبلهما بكثير)، فإن الحضارة السابقة على الرأسمالية تكون قد عمّرت أكثر من ألفي عام في أجزاء كبيرة من آسيا وأوروبا. وإذا جاز لنا أن نتخيل أن التاريخ لا يتوقف عن توليد عوامل التطور والتغيير، يحق لنا أن نستنتج أن التمهيد "للفترة الثورية المجتمعية" في المجتمعات التي سادت فيها الحضارة الاقطاعية قد استمر قروناً طويلة، قبل أن تبلغ الثورة الاقتصادية في بريطانيا وهولندا والبلدان المنخفضة مرحلة متقدمة، وقبل أن تندلع الثورة السياسية في فرنسا عام 1789. كما يمكن القول إن الثورة على الحضارة الاقطاعية حصلت من داخلها وفي رحمها، بعد أن كان جنينها قد نما في نمط العيش ونمط الانتاج ونمط التفكير.
إذا جاز لنا أن نختصر دوافع الثورة على الحضارة الاقطاعية، مع ما في الاختصار من مجازفة واحتمالات لتشويه المعنى، فيمكن القول إن الدافع الأساس إلى الثورة هو الحرية، حرية العمل وحرية التفكير. حرية الانسان الفرد وتحرير قدراته من كل أنواع القيود التي كان يفرضها عليه النظام الاجتماعي السياسي والمنظومة الدينية. ولهذا كانت الحرية واحداً من شعارات ثلاثة رفعتها الثورة الفرنسية إلى جانب شعاري الإخاء والمساواة. لم تطرح الحرية على جدول عمل التاريخ إلا حين نضجت ظروفها، لأن "الإنسانية، كما يقول ماركس، لا تطرح من المشاكل إلا ما تكون قادرة على حله"(م.س. مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص4-5). إذ باتت حرية الانسان الفرد، حرية العقل والتفكير والإيمان والعمل، حاجة لتطور الفرد ولتطور المجتمع، لتطور الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والفنون والآداب. وقد بدأ التمهيد لطرح شعار الحرية مع الكوجيتو الديكارتي بتحرير العقل من سيطرة الميتافيزيق ومع لوثر بتحرير الدين من سيطرة الكنيسة وأخيراً مع الثورة الفرنسية بتحرير الفلاح من سيطرة الاقطاعي وشرعة حقوق الانسان وقيام الجمهورية.
احتاجت الحرية إلى مرحلة تحضيرية امتدت، افتراضياً، قرنين من الزمن، من بداية السابع عشر(ديكارت 1596-1650)حتى الثورة الفرنسية في نهاية الثامن عشر، مع ذلك لم تكن تلك الفترة الطويلة كافية لتكريس الحق بالحرية لجميع البشر على وجه الكرة الأرضية، إذ مازالت بلدان كثيرة ومنها كل البلدان العربية تشكو، بعد مرور قرنين ونصف على الثورة الفرنسية، من غياب الحريات وعدم الالتزام بالشرعة أو بالاعلان العالمي لحقوق الانسان. خمسة قرون إذن بدت الرأسمالية خلالها كأنها في بداية الطريق السياسي لتعميم التجربة الجمهورية وإزالة أنظمة الاستبداد، مع أنها أنجزت في الميادين الأخرى، ولا سيما العلمية والمعرفية والاقتصادية، خلال القرن الأخير أضعاف ما أنجزته في كل عصور التاريخ المكتوب.
تقودنا هذه المقارنات إلى خلاصتين. الأولى هي أن الثورة الرأسمالية لم تبلغ حدودها التاريخية بعد، طالما أنها لم تنجز مهماتها التاريخية، ولاسيما على صعيد الحرية، خصوصاً أن بلداناً كثيرة على الكرة الأرضية، ومنها بلدان العالم العربي كلها، مازالت محكومة بأنظمة متحدرة من الحضارة السابقة على الرأسمالية، أي من الحضارة الاقطاعية والحكم الوراثي الذي كان معتمداً فيها.
أما الخلاصة الثانية فهي التالية: إذا صح أن نختزل بالحرية دوافع الثورة على نظام الاستبداد الاقطاعي، فأي دافع يمكن أن يختصر الثورة على النظام الرأسمالي؟ وهل يمكن أن تكون المرحلة التحضيرية كافية قياساً بتلك التي احتاجتها الثورة على الحضارة الاقطاعية؟ إننا نميل إلى الظن، استناداً إلى تجارب القرن العشرين، وإلى الشعارات التي رفعتها الثورات والمحاولات الثورية والثورات المزعومة ضد الرأسمالية، بإن العدالة، بمعنى التوزيع العادل للثروة وإزالة الفوارق الطبقية، هي الدافع الأساس والذريعة المفضّلة. وقد وظفت الحركات الثورية ما كتبه ماركس، في هذا الصدد، عن التنازع على القيمة الزائدة بين العمل ورأس المال، وعن الاشتراكية كحل لهذه المعضلة، في معركتها ضد الحضارة الرأسمالية، كما وظفت شعار الحرية، الرأسمالي النسب، في مواجهة الاستعمار، واستعانت بشعار المساواة، الرأسمالي هو الآخر، فأزاحته عن حقيقة معناه كمساواة أمام القانون وشحنته بدلالة طبقية.
إذا كان ذلك كذلك، فمن الممكن القول إن "أحزاب الله" رفعت شعار الثورة على الرأسمالية من خارج جدول عمل التاريخ، لأن الرأسمالية أثبتت، على ما دلت أزماتها المتلاحقة، قبل القرن العشرين ثم في الثلاثينات منه ثم في بداية القرن الحادي والعشرين، أنها ما زالت تملك القدرة على حل أزماتها أو في الأقل على تجاوزها. كما يمكن القول إن هذه الأحزاب شحنت المصطلح بمدلول يتناسب مع استعجالها الوصول إلى السلطة أكثر مما يتناسب أو يتطابق مع قوانين التاريخ. ومن الطبيعي، حين ينحصر معنى الثورة بالاستيلاء على السلطة، أن يصير الانقلاب العسكري والبيان رقم واحد والاغتيال من أهم علامات الثورة في نظر الأحزاب، بل وعند بعضها من "علامات الظهور".
من مقدمة كتاب سيصدر لاحقاً بعنوان " أحزاب الله" وهو بحث في بنية الأحزاب الشمولية