الرأسمالية، قراءة نقدية في المصطلح


محمد علي مقلد
2017 / 11 / 8 - 14:55     

الرأسمالية
قراءة نقدية في المصطلح
المقصود ب"أحزاب الله" في النص كل أحزابنا الرئيسية في الوطن العربي، في الحكم أو في المعارضة ،لأنها ببساطة ، أحزاب شمولية، أي متشابهة رغم كل الذي بينها من اختلافات جوهرية أو تمايزات في التفاصيل. متشابهة في شموليتها وفي برامجها وفي كونها أحزاباً إيديولوجية.

اللغة الكفاحية لدى "أحزاب الله" لم تر في الرأسمالية سوى الوجوه السلبية. فهي استغلال الانسان للانسان في نظر الشيوعيين، وهي الاستعمار في نظر القوميين، وهي خليط من هذا وذاك مضافاً إليهما، في نظر الاسلاميين، كل التهم الممكنة المتعلقة بالفكر المادي في مواجهة الروحانيات، إو بالعلمنة الملحدة مقابل الايمان، أو بالاستكبار العالمي ضد المستضعفين في الأرض. من لينين وقوله إن الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية حتى الخميني ونعته الولايات المتحدة الأميركية ب "الشيطان الأكبر" استمرت الأصوليات القومية والدينية واليسارية تبني استراتيجياتها الكفاحية انطلاقاً من تفسير أحادي لمدلول المصطلح، ما جعل مسارها الكفاحي محفوفاً بمخاطر المشي عكس إرادة التاريخ.
من الطبيعي ألا يضطلع الحزب السياسي بدور الباحث العلمي، لكن من الضروري، لتأمين نجاحه في رسم الخطة وفي تنفيذها، أن يعتمد على ما تتوصل إليه البحوث العلمية من اكتشافات وخلاصات. هذا ما فعلته الرأسمالية حتى غدا نشوؤها قريناً للنهضة العلمية الهائلة، وبدت العلاقة بينهما علاقة علة بمعلول، يتبادلان فيها طرفي المعادلة. هذا ما أجمع عليه الباحثون وخصوصاً من درسوا خصائص الرأسمالية بعين نقدية. فؤاد مرسي تحدث عن رأسمالية الثورة الصناعية وعن رأسمالية الثورة العلمية (الرأسمالية تجدد نفسها، منشورات عالم المعرفة، الكويت، 1990)، وكرر كلامه عن "مزايا" الرأسمالية في أكثر من مكان في كتابه، قائلاً عنها أنها " تولت، بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية التي قادتها، تطوير القوى المنتجة بنجاح" (ص177)، ويقول في مكان آخر، " إن الثورة العلمية والتكنولوجية هي وريثة كل ذلك التقدم الذي حدث في مجال تطوير قوى الانتاج على أيدي الرأسمالية" (ص22)، و "لا يمكن فهم الرأسمالية المعاصرة دون فهم الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة"(ص19).
أُشبع تاريخ نشوء الرأسمالية ارتباطاً بالثورة الصناعية درساً، وقد أشرنا إلى ذلك بنوع من التفصيل في كتابنا، هل الربيع العربي ثورة(منشورات ضفاف،بيروت،2015). في البداية كانت صناعة النسيج والآلات والسفن البخارية، والانتقال من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، والتقدم في علوم الكيمياء والفيزياء وتطوير وسائل الاتصال من القطار إلى السيارة والطائرة والهاتف والتلغراف إلى وسائل التواصل الحديثة عبر الانترنت، الخ ألخ. بحيث يمكن القول إن الثورة الصناعية الأولى أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي، كما يمكن قراءة هذه المعادلة بطريقة أخرى والقول بأن نمطاً جديداً من الانتاج تزامن مع ثورة علمية ليكوّنا معاً حضارة جديدة اسمها الحضارة الرأسمالية.
مع الثورة الصناعية أصبحت البشرية "قادرة على مضاعفة الناس والبضائع والخدمات" (ص80 من مجلد عصر الثورة، للباحث إريك هوبزباوم، الجزء الأول من ثلاثية من 2000 صفحة تحكي عن نشوء الرأسمالية في أوروبا، صدر عن المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. تتضمن هذه المجلدات استعراضاً لتطور الرأسمالية، من مرحلتها الأولى، عصر الثورة، الممتد بين عامي 1789 و1848، والثانية، عصر رأس المال بين عامي 1848 و1870، أي "المرحلة التي صار فيها العالم رأسمالياً"(ص68)، والثالثة، عصر الإمبراطورية، الممتد حتى الحرب العالمية الأولى 1914)، وهي تنطوي على أهمية استثنائية بالنسبة إلى بحثنا هذا، لأنها تتضمن استعراضاً مسهباً للظروف التي أضافت على مزايا الثورة الرأسمالية وفضائلها الكثيرة سلبيتين اثنتين، الامبريالية والاستعمار. غير أن اللافت في موقف الأحزاب الأصولية، أحزاب الله، إشاحتها النظر عن المزايا وتركيزها على ما يمكن تصنيفه في خانة المثالب والبشائع الرأسمالية.
ورد في البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنغلز أن "من نتائج التحسين السريع لأدوات الانتاج كلها، عبر وسائل الاتصالات المسهلة بصورة هائلة، أن البرجوازية تجر الجميع، حتى الأمم الأكثر بربرية، إلى حلبة الحضارة..." ما يعني أن الرأسمالية، في نظر ماركس، هي بالدرجة الأولى "حلبة حضارة". كما أكد البيان في أكثر من مكان على أن الرأسمالية شكلت ثورة تقدمية بكل ما تعنيه الكلمة، لأنها قضت على نمط الانتاج القديم ودفعت البشرية إلى عصر الوفرة والبحبوحة والاكتشافات العلمية. هذا الميل إلى التغيير والتقدم والثورة تلازم مع نزوع إلى التوسع، لأن الاقتصاد الجديد هو اقتصاد السلعة، اقتصاد السوق، فكان لا بد من توسيع إطار السوق، بعد أن ضاقت الأسواق المحلية على تصريف منتجات المعامل والمصانع. وإذا كان صحيحاً أن الرأسمالية "تجر الجميع ... إلى حلبة الحضارة"، فالصحيح أيضاً أن نزوعها إلى التوسع هو استجابة لمصالح تجارية بالدرجة الأولى، وبالتالي فلا بد من أن يكون المستفيد من عملية التوسع وصاحب المصلحة فيها هم منتجو السلع، أي أصحاب المصانع في البلدان التي كانت سباقة إلى الرأسمالية، فضلاً عن حاجة هؤلاء لمواد أولية للتصنيع.
النزوع إلى التوسع هو، إذن، جزء من آليات عمل النظام الرأسمالي. لقد انصبت جهود ماركس على كشف الآليات الخاصة بالانتقال إلى الحضارة الرأسمالية من تلك التي سبقتها، واستشرف زوال الرأسمالية بفعل العوامل ذاتها التي دفعت السابقة إلى الزوال، أي بفعل الصراع الطبقي الذي يدخل في مرحلته الثورية عندما تغدو علاقات الانتاج عاملاً معيقاً لتطور القوى المنتجة. تم تصنيف الكشف عن الآليات في باب البحث العلمي، أما الاستشراف ففي باب الإيديولوجيا، أو على الأقل هكذا استخدمته الأحزاب المكافحة المنافحة للرأسمالية، فاستبدلت مصطلحاً علمياً (نزعة توسعية) بمصطلح سياسي، بل أخلاقي( نزعة عدوانية)
الرأسمالية، باللغة الماركسية، حضارة قبل أن تكون نمط إنتاج. لأنها ثقافة وطريقة عيش ومنظومة قيم، تجسدت فيها علاقات جديدة بين البشر، وتولدت من رحمها روابط اجتماعية مبنية على فلسفة الحرية، حرية الانسان الفرد، التي شكلت الأساس الفلسفي للديمقراطية على الصعيد السياسي. إذا كان ذلك كذلك، فإن "أنماط الانتاج لا تموت بالذبحة القلبية" (جورج لابيكا، نحو تجديد الفكر الاشتراكي، بحوث ومناقشات مهداة إلى مهدي عامل في الذكرى العاشرة لاغتياله، منشورات الفارابي، 1997، ص495) وهي بالتأكيد لا تموت اغتيالاً، لا برصاصة ولا بطعنة خنجر ولا بعبوة ناسفة. ما يعني أن قوانين التاريخ لا النوايا الثورية، مهما كانت حسنة وصادقة، هي التي تحكم المواجهة معها.
ما هي قوانين التاريخ هذه؟ وما هي آليات عملها؟ وهل للبشر قدرة على التأثير فيها او على تغيير مسارها؟ ابن خلدون تحدث عن مسار وخط بياني يشبه حياة البشر، تولد الحضارات، بموجبه، وتنمو وتبلغ قمة شبابها، ثم تشيخ وتهرم، ثم تموت. تلك كانت حالة الحضارات السابقة والتاريخ المكتوب، البابلية والكنعانية واليونانية والرومانية والفارسية وسواها، فتحيا واحدة على حساب الأخرى، وربما تولد واحدة من رحم الأخرى. أما الماركسيون فتحدثوا عن خمس حقبات حضارية تبدأ بالمشاعية البدائية وتنتهي بالشيوعية مروراً بالاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية. استلهمت "أحزاب الله" نظرية ابن خلدون عن تعاقب الحضارات، ونظرية "الحتمية التاريخية" المشتقة من المدرسة الماركسية، فتخيلت الرأسمالية عدواً يعيش آخر أيامه وخاضت حروبها "المقدسة" ضدها، بغية استبدالها وإزاحتها تعسفاً عن مجرى التاريخ.
الحقيقة التي أجمع عليها الباحثون هي أن تمرحل التاريخ مرتبط بتطور قدرات البشر على السيطرة على الطبيعة، أي بتطور العقل البشري وأدوات العمل ووسائل الانتاج. ماركس تحدث عن بنية فوقية وبنية تحتية، وقال إن هذه الأخيرة هي العامل المحدِّد. وأشبعت هذه الفكرة بحثاً واجتهادات وتفسيرات. المتشددون أحاطوا دور الاقتصاد بهالة من القداسة، وآخرون كانوا أكثر مرونة (ماكس فيبر، جورج لوكاش، محمد عابد الجابري). فؤاد مرسي رأى أن تاريخ البشرية مر في " ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات: ثورة العصر الحجري ... والثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي... والثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة" (م.ن. ص15-16). سمير أمين رأى أن لكل بنية اقتصادية بنية إيديولوجية توازيها وتتزامن معها (نحو نظرية للثقافة، معهد الانماء العربي، بيروت، 1989)
استناداً إلى هذه الاجتهادات التي تناولت علاقة البنية الفوقية بالبنية التحتية، الايديولوجيا بالاقتصاد، اقترحنا في كتاب "هل الربيع العربي ثورة؟" تصنيف الحضارات في ثلاثة أجيال، الأول هو جيل الاقتصاد الريعي والعقل الاسطوري الذي انتهى في آخر أيام الفراعنة في مصر، وفيه تعايشت أو تعاقبت مجموعة من الحضارات كالفينيقية والبابلية والكنعانية واليونانية والفرعونية، الثاني هو جيل الحضارة الاقطاعية، أي الاقتصاد الزراعي والعقل الغيبي، أو (الأديان السماوية وغير السماوية)، ومن بينها الحضارة الاسلامية وحضارات الشرق في الهند والصين. أما الجيل الثالث فهو الحضارة الرأسمالية والعقل العلمي. تميز الجيلان الأولان بتعدد الحضارات المتجاورة أو المتزامنة أو المتعاقبة، فيما تميزت الرأسمالية بنزوعها إلى الكونية، فكان أول إنجازاتها، بعد الآلة والصناعة، ربط العالم بشبكة من الاتصالات في البحر والبر وعبر الأثير، فكانت شبكة المواصلات النهرية والبحرية وسكة الحديد والسيارة والطيارة والهاتف والتلغراف والفاكس والراديو والتلفاز وصولا إلى الثورة التكنولوجية والثورة الرقمية وعالم الميديا ووسائل التواصل الالكترونية. في الجيل الأول كان الله، الإله، يتجسد في الحاكم، في الجيل الثاني صار الحاكم يمثل الله( ممثل الله على الأرض)، أما في الرأسمالية فالحاكم يمثل، أو يفترض أن يمثل الشعب.
فضلا عن كل هذه البحوث الغنية، تيسر للكثيرين من أبناء جيلي من أهل الريف، أي من أهل الحضارة الاقطاعية، في لبنان كما في سائر بلدان الأمبراطوريات الكبرى، من الصين والهند الصينية إلى روسيا والسلطنة العثمانية، (نمط الحياة الذي عاشه والمنزل الذي وصفه محمد عابد الجابري في مذكراته، وكان يسكن فيه مع أجداده في المغرب، يشبه نمط حياة أجدادنا ومنازلهم في لبنان) أن نعيش مرحلة الانتقال بين "حضارتين". من مدرسة الكتّاب ثم مدرسة "تحت السنديانة"(مارون عبود) أو مدرسة "الحطب" (كان واحدنا يحمل معه كل صباح من أيام الشتاء الباردة قطعة حطب للتدفئة في مدرسة القرية) إلى جامعة السوربون في باريس؛ ومن بيوت الطين وقناديل الكاز إلى فيلات مشعشعة بالمصابيح الكهربائية؛ من علاقات الريف العائلية إلى رحاب الوطن والأحزاب والنقابات؛ من حضارة القلة وشظف العيش إلى حيث الوفرة والرفاهية ووسائل الاتصال والتواصل. من الاقطاع إلى الرأسمالية.
غير أن قراءة التاريخ شيء ومعايشة الوقائع شيء آخر. نقرأ عن عملية انتقال أنجزت في أوروبا ونقرأ عن صعوبات وأثمان باهظة ودماء وتضحيات، كلها صارت جزءا من التاريخ، فيما الولادة الصعبة للرأسمالية في بلادنا معاناة، تكاد تتكرر فيها الحروب ذاتها والأحداث التي شهدتها أوروبا بعد الثورة الفرنسية ( لمقارنة التفاصيل يمكن الاطلاع على ثلاثية إريك هابزباوم). لم تكن الرأسمالية في بلادنا موضع ترحيب من قبل معارضيها والمحتجين عليها، ولا كانت محل رعاية ممن كان ينبغي أن يكونوا رعاتها، أي من قبل البرجوازية. من هنا تبدأ صياغة الاشكالية وطرح التساؤلات التي لم يكن التفسير الطبقي للإجابة عليها مقنعاً، ولا التحليلات القومية والدينية.
لماذا لم تقم البرجوازية المحلية بدورها الطبقي كحامل لهذه الحضارة أي لنمط الانتاج الرأسمالي؟ ولماذا تخلت عن مهمتها لصالح طبقة متحدرة من الحضارة السابقة، فارضة على السردية اليسارية مفردة من خارج قائمة المصطلحات الكلاسيكية في الرأسمالية، أي مفردة "الاقطاع السياسي"؟ لماذا اختار اليسار الماركسي أن يحارب على جبهة الاقتصاد خصماً هو "الطغمة المالية"، وعلى جبهة السياسة خصماً آخر هوالاقطاع السياسي؟ هل هما يمثلان طرفين متمايزين حقاً ام هو توزيع أدوار؟ ولماذا تحسب عقود ثلاثة من الوجود "الغربي" استعماراً واحتلالاً فيما تظل القرون العثمانية الخمسة في خانة المسكوت عنه أو خارج التصنيف؟
حاول سمير أمين أن يجيب على هذه التساؤلات وعلى سواها من خلال نظرية "المركز والأطراف والتطور اللامتكافئ" كما حاول مهدي عامل من خلال نظرية "نمط الانتاج الكولونيالي" وجرب الفكر القومي بالاستناد إلى نظرية المؤامرة، فيما عادت الأصوليات الاسلامية إلى سيرة السلف الصالح لعلها تجد تفسيراً للأسئلة الصعبة التي طرحتها الرأسمالية على جدول عمل التاريخ، فكانت نظرية ولاية الفقيه والمهدي المنتظر أبلغ تعبير عن هذا النمط من التفكير. غير أن تنوع الإجابات التي قدمها المفكرون والفقهاء لم تمنع "أحزاب الله" من الاجماع على مواجهة الحضارة الرأسمالية، لا بصفتها حضارة، بل غرباً وامبريالية واستعماراً، أي بأسماء ذات دلالة سياسية وعدائية وصراعية، مستبعدة الدخول فيها والمشاركة في انتشارها وتوسعها الأفقي.
هل كان يمكن أن يتبدل مسار الحداثة العربية لو تعاملت الأصوليات مع الرأسمالية كحضارة لا كوافد غريب؟ كمنافس لا كعدو؟ إننا نميل إلى الإجابة بنعم، استناداً إلى بدايات التجربة النهضوية ممثلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ومحمد علي باشا والتجربة في جبل لبنان. واستناداً أيضاً إلى التجربة اليابانية التي بدأت حضارتها الاقطاعية احتكاكها بالرأسمالية بعد نصف قرن من حملة نابليون بونابرت على مصر، لكنها تمكنت، قبل مصر والعالم العربي، من أنجاز دخولها في الحضارة الجديدة.
التجربة اليابانية انتهت بنجاج منقطع النظير، لأن الأمبراطور موتسوهيتو، الذي عرف بالميجي، أو الحاكم المستنير هو الذي قاد حركة الاصلاح، فقلص نفوذ الساموراي(الاقطاعيين) وجردهم من امتيازاتهم، وقام بثورة حقيقية في نظام التعليم، واستعان بتجربة الغرب الرأسمالية وأرسل البعثات العلمية إلى كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. كان من أولى نتائج تلك النهضة زوال الأمية في اليابان في أقل من نصف قرن، بين 1850 و 1896 (المعجزة في الاقتصاد،آلان بيرفيت، ترجمة بسام الحجار، دار النهار للنشر، بيروت،1997). أما في العالم العربي فقد أجهضت حركة الاصلاح لأن السلطات السياسية تخلت عن مهمتها في رعاية النهضة، فلم تلعب السلطنة دور مساعداً لإنجاج تجربة خير الدين التونسي، ولا تمكنت بعثة محمد علي باشا العلمية إلى فرنسا من الاستمرار بعد نفي رائدها رفاعة رافع الطهطاوي ووفاته في السودان، فيما سارت حركة الاصلاح الديني القهقرى من الأفغاني إلى تلميذه محمد عبده إلى تلميذه رشيد رضا، ثم إلى حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين.
الحضارات في التاريخ لم تكن خياراً، لا فردياً ولا جماعياً. هي، بلغة الدين، قدر. لكنه ليس قدراً مكتوباً في لوح السماء. بل قدر محكوم بقوانين التاريخ. في الحضارة السابقة على الرأسمالية، والتي أتيح لجيلنا أن يختبرها بحلوها ومرها، لم تكن المقايضة خياراً، بل هي قانون الممكن الذي تتطلبه الحاجة وتوفره وسائل الانتاج والمخيلة البشرية، ولا هي من قبيل الصدفة أن تكون بيوت الفلاحين متشابهة، وموزعة بالتساوي بين العائلة وثورين للفلاحة مع بقرة حلوب وحمار، وأن تكون قصور الاقطاعيين متشابهة. وليس من الصدفة في تلك الحضارة أن يختار الملوك والأمراء أنسباءهم من الأزواج والزوجات ممن يوازيهم في الرتبة والجاه ولو من بلاد بعيدة. ولم تكن الجواري ظاهرة عربية اسلامية في بلاط الخليفة بل هي ظاهرة موجودة في كل بلاط. ترسيمة العمر لأبناء الفلاحين واحدة. ما أن يصبح الطفل قادراً على مساعدة والده في أعمال الزراعة حتى يرافقه إلى الحقل، ويتزوج في مقتبل العمر من قريبته، ويحج إلى بيت الله في الأربعين. بينما يحظى ابن الاقطاعي بمربية وبمعلم يلقنه القراءة والكتابة ويدربه على طقوس التشريفات في القصور.
أول المتغيرات التي أدخلتها الحضارة الرأسمالية على نمط العيش السابق استند إلى الاستثمار في العلم. المدرسة ثم الجامعة، وترسيمة عمر مختلفة تنتهي بالتخصص العالي في فرع من فروع المعرفة، وإن لم يكن في العلم فاستثمار في أي مجال تجاري أو صناعي. الاستثمار مصطلح رأسمالي بدأ منذ أن ألغيت المقايضة وظهرت النقود والبورصة وعالم البنوك. وما كان ذلك ليحصل لولا تكثيف وسائل الاتصال والتواصل والاكتشافات العلمية، التي شكلت أفضل الحوافز والسبل لانتشار الحضارة الرأسمالية وتوسعها الأفقي والعامودي.
حاولنا أن نثبت أن الرأسمالية ليست مجرد "نمط إنتاج"، وليست سلطة سياسية فحسب، أي أنها ليست مما يمكن تبديله بقرار، ولا هي مما يمكن "القضاء عليه" تحقيقاً لرغبة أو لحلم. بل هي حضارة ونمط عيش وثقافة وعادات وتقاليد، ويقاس عمرها، كما باقي الحضارات، بالقرون، وربما فاقت سواها لأنها أكثر قدرة على تجاوز أزماتها، ومن بينها اثنتان خطيرتان، الأولى في الثلاثينات من القرن العشرين، والثانية في بداية القرن الحادي والعشرين، وأكثر قدرة على "تجديد نفسها" (فؤاد مرسي. م.س.)، وهي، بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون "خصماً" أو عدواً أو طرفاً في نزاع، بل هي إطار تنشب فيه، بالتناسب مع تطور البنى السياسية والثقافية في المجتمع، أشكال متعددة من الصراعات والنزاعات تؤدي إلى إحداث تبدلات وتغيرات بطيئة، وتفضي، في نهاية المطاف، وعندما يحين أجل هذه الحضارة، إلى تغيير جذري، لا في بنية السلطة وحدها، بل في كل البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية التابعة لها.
بين أن تكون الرأسمالية خصماً، أو إطاراً ينتازع فيه الخصوم على السلطة أو على القيمة الزائدة أو على ملكية وسائل الانتاج أو على التفاوت الطبقي أو على حقوق الانسان، فارق شاسع. ذلك أن الحضارة الرأسمالية لم تكن الحضارة الوحيدة التي يمارس فيه القوي بماله أو بسلطته استبداده بالضعيف، ولا هي الوحيدة التي يتم فيها استغلال الانسان للانسان. قبلها، بحسب ماركس، في البيان الشيوعي " تاريخ كل مجتمع، إلى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات. فالحر والعبد والنبيل والعامي والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي بالاختصار، المضطهدون والمضطهدون، كانوا في تعارض دائم ، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة ، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً" ( مختارات ماركس وانغلز الجزء الأول، ص.49-50). وبالتالي، إذا كان التوصيف الماركسي صحيحاً، وهو صحيح، فإن الحرب التي خاضتها الأحزاب الأصولية ضد الرأسمالية كانت نوعاً من التعامل الطفولي مع قوانين التاريخ و حتمياته وطفراته، لأنها لم تكن تناضل لإحداث تغيير داخل الرأسمالية بل كافحت من خارجها أو في سبيل الخروج منها، متحدية قوانين التاريخ، وكان التاريخ هو الأقوى.
تمثلت الرأسمالية لأحزاب الله رجلاً، (ينسب إلى الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب قوله، لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته). الرأسمالية، في نظرها، هي الشخص الرأسمالي، أو، على الأكثر، هي الشخص الحاكم. وفي الحالتين تغييرها يبدو سهلا، عن طريق الالغاء، بقتل صاحب رأس المال أو بإنقلاب عسكري يطيح رأس السلطة الحاكمة. وغابت الصورة الحقيقية للرأسمالية بما هي حضارة وشبكة معقدة من العلاقات المركبة والقيم وآليات الانتاج المادي والفكري والتقدم العلمي والتقني والوفرة والبحبوحة وتاريخ يمتد على مسافة قرون طويلة من الزمن؛ واختزلت التناقضات والصراعات بثنائيات دينية لا تقبل التعايش ولا المساكنة، الخير والشر، الله والشيطان الأكبر، دار الحرب ودار الإسلام، حلف الأطلسي أو حلف وارسو. إما قاتل أو مقتول. الرأسمالية ذاتها لم تسلم من هذا العنف، وما زالت تمارسه بأشكال جديدة، إلا أنها تعلمت من تجربتها، بعد قرنين من الصراعات الدامية، وبعد حربين عالميتين مدمرتين، أن الحروب الأهلية بين مواطني الدولة الواحدة، والحروب بين الدول الرأسمالية ليست السبيل إلى حل المشكلات، وأن تنظيم الاختلافات بدل تفجيرها هو السبيل إلى تأمين الحد الأدنى من شروط السلم الأهلي. أما أحزاب الله فما زالت تصر على خوض غمار التجربة، وعلى ممارسة العنف وعلى استدراجه، وتتوسله لتحقيق أهدافها السياسية. والعنف المشروع، العنف الحلال، هو عنف الثورة، متسلحة بإيديولوجية الثنائيات الدينية، مع أن ماركس، ملهم الفكرة المتعلقة بالصراع الطبقي والعنف الثوري، أشار إلى أن تلك الحروب الطبقية "كانت تنتهي دائماً إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معاً" ( بيان الحزب الشيوعي)، لكن الحزب الشيوعي، وهو التنظيم المصنف في خانة أحزاب الله، يصرّ على انتصار الطبقة العاملة على خصمها الطبقي، ويغفل تجربة الثورة الرأسمالية، أقرب الثورات زمناً إلينا، تلك التي لم يكتب فيها النصر لا للنبلاء ولا للفلاحين، بل لطبقة ثالثة هي البرجوازية.
من مقدمة كتاب سيصدر قريباً بعنوان، أحزاب الله.