هل كانت ثورة أكتوبر مفارقة واستثناء !؟ الجزء الأول


حميد خنجي
2017 / 10 / 27 - 23:13     

هل كانت ثورة أكتوبر مفارقة واستثناء !؟
(مساهمة بمناسبة الذكرى المئوية للثورة البلشفية 1917 - 2017)
الجزء الأول


لم ير التاريخ البشري حدثا مدويا، مجلجلا، جذريا ومصيريا، لحلم البشرية التقدمية، كالثورة البلشفية، التي رأتها روسيا، في نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر1917 (25 أكتوبر حسب التقويم الروسي وقتئذ)، مباشرة بعد ثورة فبراير البرجوازية الديمقراطية من نفس العام. ولعل الأغرب أن ثورة أكتوبر، التي اتخذت من اللون الأحمر شعارا أساسا لها؛ كانت بيضاء تقريبا، بلا إسالة دماء تذكر.حيث لم تكن إطلاق المدمرة " أفرورا" لمدافعها، في فجر السابع من نوفمبر 1917 (25 أكتوبر حسب التقويم الشرقي الروسي القديم) سوى عملا رمزيا! من هنا.. فالأسئلة تترى: هل كان الحدث إنقلابا، قفز فيه حفنة من الجنود البلشفيين عنوة إلى السلطة؟!.. أم إنتفاضة على يد مجموعة من الثوريين الروس وغير الروس؟!.. أم انها بالفعل كانت ثورة بكل ما تعنيها هذه الكلمة من معنى؟! للوصول إلى تصور أقرب إلى الواقع التاريخي، الذي نحن بصدد الإحتفاء المئوي لـ ذكرى الثورة تلك. لابد لنا من إستعادة الأجواء السياسية والمجتمعية في حينه، إن من جانب الحراك الإجتماعي للجماهير. أو من جانب ميزان القوى وحجم كل حزب سياسي وقوته في الدوما (البرلمان الروسي). والاهم من كل ذلك القوة الفعلية لمجالس السوفييت والميزان الحزبي فيه. من المعروف أن الثورة البرجوازية، بقيادة " كيرنسكي" وحزبه (الإشتراكيون الثوريون) أطاحت بنجاح بالحكومة القيصرية، لكنها تلكأت بالسير قدما في شتى المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.. خاصة موقفها من الحرب الدائرة، التي كانت روسيا غارقة فيها ومن موقع مهزوم

عودة إلى الوراء قليلا.. وحتى قبيل ثورة فبراير. لم يكن واردا أصلا، بما فيه بنود برنامج الحزب البلشفي، القيام اوحتى التفكير في ثورة إشتراكية قريبة وقادمة في روسيا المتخلفة عن الركب الرأسمالي الغربي، حين كانت السمة الغالبة لإقتصادها زراعية إقطاعية، مع قطاعات رأسمالية صناعية ضعيفة في الحواضر؛ موسكو وبطرسبورغ. وحيث البروليتاريا الروسية اتسمت بضعف واضح- عددا وعدة- ضمن بحر واسع من طبقة الفلاحين في كل أصقاع روسيا.. ولكن مع قوة نسبية ملحوظة تتعزز- رويدا- على صعيدي؛ الانتليجنسيا الثورية وأحزابها السياسية السرية العمالية والطليعية.. ولعل حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الروسي يشكل مثالا ساطعا هنا (حزب عمالي ماركسي أساس بقيادة مناضل وألمعي ومنظر ومروج ماركسي من الدرجة الأولى، عرف في وقته بأسماء سرية عديدة واشتهر لاحقا بـ "لينين"/ نسبة إلى نهر لينا). ليس هذا فحسب.. بل أن التنظير الماركسي السائد حينئذ كان ينطلق أساسا من ملاحظات ماركس الأولى والأساس؛ من أن الثورات الإشتراكية ستندلع؛ بل يجب أن تندلع، في المنظومات الرأسمالية المتطورة (المانيا وإنجلترا مثالا) وفي مجموعة من البلدان الرأسمالية الاقوى. بالرغم أن ماركس ومن ملاحظاته المتاخرة، بعد تباطؤ الحركة الإجتماعية في القارة العجوز، إلتفت يسرة إلى أمريكا في البدء (كانت حاضنة لحركة النقابات العمالية العالمية خاصة). وحينا إلتفت يمنة إلى روسيا الشاسعة والمتخلفة.. ولكن حيث "الأرض ملكية عامة" مقارنه مع الدول الأوربية الأخرى، كدأب بعض الدول الأسيوية (نمط الإقتصاد الأسيوي)! بتقديري من المفيد للباحث السوسيولوجي مراجعة ما كتبه ماركس عن هذه المسالة بالذات. من هنا فإن ماركس وأنجلز ولينين كنوابغ، لم يكونوا من بين النخب الفكرية والثورية، التي تاخذ المسلمات على عوائنها.. فهم يدركون بالطبع، أكثر من غيرهم، تعقيدات حركة التاريخ والإستثناءات غير المسبوقة

عودة إلى اللحظة التاريخية الحاسمة.. ظل البلاشفة وعلى رأسهم لينين مشدوهين لفترة، وهم في انتظار مخرج من الوضع الغريب وغير المسبوق لروسيا!.. اضحت هناك في الواقع سلطتان (دوال فلاست): سلطة الحكومة المؤقتة وسلطة السوفييت (فترة إزدواجية السلطة). ظل البلاشفة في البداية أقلية في مجالس السوفييت وفي الدوما. لكن مع إشتداد ضغط الحرب الخاسرة.. وخاصة مع عودة الجنود الروس من المعارك.. تبدل تدريجيا المزاج الجماهيري. لاحظ لينين بنظرته الثاقبة أمورا عديدة تصب في مصلحة مشروعه الذي يتخمر في ذهنه منذ بعض الوقت؛ التحول الثوري للمزاج الجماهيري وغضب الجنود المهزومين وإلتحاقهم أفواجا افواجا لمعسكر الثورة. هذا مع تردد وتلكؤ الحكومة البرجوازية المؤقتة وإنزوائها عن اتخاذ قرارات فعالة. بل اصبحت مستعدة للتراجع والعودة لأحضان القيصرية. ورافق ذلك تحول في ميزان القوى لصالح البلاشفة، خاصة في مجالس السوفييت حيث باتوا الآن الأكثرية! هنا طرح لينين برنامجه الشهير المفاجئ؛ وهو الإستيلاء على السلطة وعدم التردد (أمس كان باكرا غدا سيفوت الأوان اليوم هو يوم الحسم!)



تاريخيا.. " لينين" هو أول من حاول تطبيق فكر ماركس على الأرض بشكل خلاق غير نمطي، طارحا مشروعه الاستثنائي والغريب في وقته؛ وهو الاستيلاء على السلطة، منطلقا من ابتكارات جديدة وشجاعة ثورية وفهم عميق للاستثناءات الضرورية لحركة التاريخ والتواءآتها في المنعطفات المصيرية.. منسجمة مع "روح" ماركس كما لم ينسجم أحد معها. لم يرضخ لينين لأهوائه، حسب منتقديه وخصومه الكثر. ولم يصاب بمس من الجنون حسب رفاقه وحتى زوجته، قبل إقناعهم الصعب بفكرته غير العادية والاستثنائية القادمة من ظروف استثنائية لن تتكرر أبدا؛ وهي تكملة الثورة البرجوازية أولا (الثورة البلشفية كانت ضرورة تاريخية و أولوية الأولويات.. وكانت عبارة عن ثورتين متتابعتين!). ثم الشروع في البناء الأولي للاساس المادي للإشتراكية من خلال خطة الـ-نيب- (رأسمالية الدولة الضرورية) لتشييد الأساس المادي لرأسمالية متطورة! تخلص لينين بجسارة منقطع النظير من كل -المساطر- الجاهزة والقياسات - الدقيقة- والجمل التنظيرية العائدة لأفكار محترفي الماركسية كـ "كاوتسكي" و"برونشتاين" وغيرهما، الذين أضحوا الناطقين الرسميين للماركسية، بعد موت أنجلز. ابتكرت على يد هؤلاء نمط من الفكر الماركسي النمطي "الخشبي"، بدون أن ياخذوا بعين الإعتبار الحالات المعينة لكل بلد. والظروف الإستثنائية لمراحل تاريخية محددة. بل أصرت هذه النخب الفكرية على التفسير الأحادي للماركسية المركون على جدلية شكلية، الأمر الذي يفضي –لامحالة- إلى التردد والتذبذب والإنتظار، حتى يكتمل أولا؛" الوضع الثوري الخالص" والموقف -الأنموذجي- للثورة (أشبه بإنتظار غودوت)! وضرورة اكتمال العوامل الموضوعية الشاملة (شيء مستحيل حدوثه في عالم الواقع) قبل التفكير بإستيلاء البروليتاريا على السلطة (حدث هذا في المانيا وقد دفع الثوريون الالمان ثمنا غاليا لترددهم). فها هنا الظرف الإستثنائي القاهر، الذي لمحه "لينين" لوحده قبل غيره، كقائد ومنظر فذ، قل أن يأتي الزمان بمثله

لم يستخدم "لينين" الجمل "الثورية" ولا الشعارات البراقة، لتفسير وفهم معنى أفكار ماركس الخلاقة وتطبيقه على الأرض. عرف متى يعارض القواعد - إن كانت هناك قواعد محددة- والعموميات والتنظيرات المكتبية. لم يسقط في متاهة انتظار الوضع الأنموذجي للثورة. والوضع الثوري المثالي الناضج، على أهمية ذلك موضوعيا. كان - لينين- نابغة، عرف الاستثناءات كما عرف القواعد والقوانين (ماركس لم يكن بإمكانه أن يفتي بأوهام خيالية ولم يكن من أصحاب الطوبى والتنبؤات!) ومن ناحية أخرى لم يقم -لينين- بثورة أكتوبر، لأنه كان مستعجلا من أمره. وأراد ان يرى الثورة في حياته ويحقق ذاته.أو ينتقم لأخيه المعدوم من قبل السطات القيصرية! العكس هو الصحيح. بجانب إرادة فولاذية، كان - لينين- يمتلك عقلا نفاذه، باستطاعته معرفة حركة الواقع المعقد بالميللي. وبدون هنات ذاتية. من الممكن أن ندعي أن تعقيدات العالم اليوم -بتقديري- في حاجة إلى عبقري من وزن ماركس وزعيم من طينة لينين!؟

لقد شهد عهد لينين القصير( 1917 – 24 ) عهدا ديمقراطيا بحق، فيما يتعلق بالحرية الفردية العامة أوبالديمقراطية الداخلية لحزب البلاشفة وحرية تمسك العضو برأيه الشخصي في أية مسألة، مع التجاوب والرضوخ لرأي الأكثرية في التطبيق، لذلك كثر المفكرون المبدعون وتكاثروا.. بعكس عهد ستالين، الذي فيه ضمر الماركسيون الفعليون، بشكل عجز فيه الاتحاد السوفيتي -بعظمته وانجازاته- من انتاج الفكر والمفكرين المبدعين ومنظرين يشار لهم بالبنان

مع ذلك .. كم هو لئيم الموت المبكر، الذي يقطف عبقري قبل أوانه (تتكرر هذه الظاهرة السلبية في التاريخ البشري مرارا وتكرارا). فمن حسن حظ ثورة أكتوبر أن قائدها كان لينين، ومن سوء حظها انه ذهب قبل الأوان. ساد في عهده حياة حزبية ديمقراطية حقيقية، اتسمت بعلاقات رفاقية راقية ومساءلة دقيقة، بلا محاباة ولانفاق، الامر الذي أفضى إلى بروز دستة من خيرة النظريين الماركسيين في العهد اللينيني – قبل الثورة وبعده- بجانب قادة سياسيين وعمليين مرموقين من الدرجة الأولى.. لعل أعظمهم كان " يعقوب سفيردلوف"، منظم حزب البلاشفة الأول، الذي رأى فيه لينين خليفته المحتمل والموثوق. غير أن "سفيردلوف" توفى فجأة في سنة 1919 . لكم حزن قائد الثورة على الموت المبكر لـ " سفيرلوف"، قال لينين في تأبينه قولته الفلسفية الشهيرة : (الثورة تقتل خيرة أبنائها !).

حصد الموت الموت المبكر مجموعة من خيرة مناضلي ومنظري البلاشفة، الذين كان الوضع المعقد والحراك السريع لحركة التاريخ بأمس الحاجة إلى خبراتهم غير المقدرة بثمن، بمن فيهم لينين نفسه. في لحظة تاريخية حرجة، قبيل وبعد ذهاب لينين، تنافس إثنان من كبار البلاشفة على القيادة (تروتسكي وستالين). وكم كره هؤلاء الاثنان أحدهما الآخر؟! لم يكن بينهما أية مودة.. ولا شيء مشترك بينهما،غير الإختلاف الشامل في كل شيء. الأول ثوري عبقري ومنظر وخطيب مفوة وخبيرعسكري واستراتيجي كبير، لكنه نرجسي حتى النخاع ومغرور كالطاووس! الثاني رجل جلب من الفولاذ (لقبه ستالين يعني بالروسية/ الفولاذي). تكتيكي ماهر من الدرجة الأولى، زرع في صدره قلب لايعرف الشفقة والرحمة! كان من سخرية قدر الثورة أن يتنافس هذان الإثنان على قيادة سدس الكرة الأرضية! (لاحظوا التشابة بين الغريمين يلسين وجورباتشوف). كم أساء تنافس الإثنان الأولان مشروع بناء المجتمع الجديد. كما أساء تنافس الإثنان الآخران وجود صرح الإتحاد السوفيتي نفسه

يبدو أنه في حينه لم يكن موجودا ذلك الشخص، الذي تتوفر فيه مزايا ستالين الإيجابية، ولا تتوفر فيه عيوبه!! حقا انها كانت معادلة صعبة لإيجادها! .. رسالة لينين التوجيهية أوملاحظاته للقيادة البلشفية (عرف بوصية لينين حسب الميديا الغربية) تتسم بالتردد والشك في إيجاد ذلك الشخص، أو انها حملت أمنية فحسب، في لحظة من التأمل الذاتي، خاصة بعد أن انتقد لينين كل المرشحين لتقلد مركز ستالين وعلى رأسهم تروتسكي، الذي عرفه لينين جيدا وخبره وأدرك - كما لم يدرك غيره-سر تقلبات تروتسكي وشخصيته النرجسية المتعالية والمتعجرفة

مرحلتان في عمر الاتحاد السوفيتي تسببتا في سيادة البيروقراطية البغيضة والنخر من الداخل :
مرحلة ستالين العدمية .. ومرحلة خروتشوف الرمادية!
الأولى حولت الحزبيين إلى "دمى" لا تستطيع إلا أن توافق على كل شيء، مع عدم الاقتناع الداخلي. حيث ساد النفاق والمحاباة والخوف من أقرب الأقربين. ونسى الحزبيون أولوية المساءلة والصدق والنقد والنقد الذاتي والانسجام الفكري المنطلق من حق الاختلاف والإجتهادات ..الخ (سقطت غالبية الأحزاب الطليعية/ الشيوعية في نفس الأمراض الذي كان يعانيها الشقيق الأكبر). تحول الحزب إلى جهاز بيروقراطي رهيب وفتاك. ظلت هذه البيروقراطية الطفيلية الحزبية سيدة الموقف. انتفت فيها مرحلة "المركزية الديمقراطية" لتسود "المركزية البيروقراطية" في أسوأ تجلياتها، ولتتحول إلى ديكتاتورية الحزب الأوحد واللجنة المركزية والمكتب السياسي، لتتكثف وتتركز السلطات كلها، متجسدة في الزعيم الأوحد والمؤله، الذي لا يخطئ (ستالين)!. لم يستطع الحزب في كل تاريخه اللاحق - بالرغم من المحاولات في أكثر من مرة- آخرها كان عهد " أندروبوف"- التخلص من هذا المرض العضال، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل يمينية أو فوضوية -غيرعلمية- في التحليل والتشخيص والممارسة، لعل أهمها المرحلة الخروتشوفية الرمادية، كرد فعل مباشر على مرحلة التسلط الستاليني! مرورا بعهد " بريجنيف" وغيره.. لعل أسوؤه؛ مرحلة "جورباتشوف" الماكرة، وعصابته المرتدة المتآمرة اليمينية

الآن.. ماهي بالضبط كانت ماهية أو جوهر النظام السوفيتي؟ هل كانت منظومة إشتراكية أم راسمالية الدولة ؟ لنستمع إلى ما يطرحه الأستاذ الماركسي العراقي الكبير "حسقيل قوجمان" حول هذا الامر الإشكالي. هناك فكرتان رئيسان متداخلتان في طرح الأستاذ حسقيل قجمان
أولا؛ أن الاتحاد السوفيتي كان مجتمعا اشتراكيا أوأنهي فيها بناء المرحلة الاشتراكية حتى سنة 1953 أي يوم موت ستالين!!.. أما بعد ذلك مباشرة فقد اصبح شكل إقتصاده: -رأسمالية دولة-، والتي أضحت في النهاية للعودة إلى النظام الرأسمالي في تسعينات القرن الماضي؟!.. فعل هذا الكلام صحيحا؟ وهل هذا الرأي الذاتي بأمكانه أن يصمد أمام المقارعة الموضوعية؟
الفكرة الثانية؛ تتلخص حول مرحلة ما بعد ستالين أي ما يسميها الكاتب مرحلة - الخروتشوفية-.. بمعنى أنه جرت ثورة مضادة رأسمالية بدأت على يد مجموعة يمينية إصلاحوية بقيادة - خروتشوف-!.. أي أن هذه المجموعة أو -خروتشوف- شخصيا، أضحوا رأسماليين معادين للفكر الاشتركي (بقدرة قادر!).. من هنا فإن الكاتب يربط كل المنجزات الاشتراكية باسم ستالين.. ويغدو مؤلها لستالين كعهده (الكاتب) دائما؟!؟ باعتقادي أن طرحا كهذا لايمكن أن يغدو مقاربة موضوعية وقراءة ماركسية لفترة طويلة نسبيا من التاريخ دامت سبعين عاما

حتى الآن لاتوجد وصفة جاهزة أو توافق لدى كافة معشر الماركسيين وشيعهم على ماهية الإتحاد السوفيتي ومحتوى منظومته الإقتصادية. فمثلا التروتسكيون والحكمتيون ومثيلاتهما يعتبرون أن الإتحاد السوفيتي عبارة عن نظام إستبدادي شيده ستالين وأضحى حتى النهاية عبارة عن رأسمالية دولة! أما "الستالينيون" فيعتبرون أن الإشتراكية انتفت بعد موت ستالين مباشرة! أعتقد أن للماويين وجهة نظر قريبة من هذا الأخير. لوحدهم أتباع الأممية الثالثة من الأحزاب الشيوعية ومن يسير في فلكهم يعتبرون ان المنظومة كانت اشتراكية المحتوى، بالرغم من المعيقات الكثيرة والصعاب الضخمة، التي جابهت التجربة هذه منذ اليوم الأول

يجب على الكاتب "حسقيل" إثبات أن الاتحاد السوفيتي، في بداية خمسينات القرن الماضي قد انهى بناء مرحلة المجتمع الاشتراكي الإنتقالي!.. المفارقة هنا أن ستالين لم يدع ذلك في وقته، كما يدعي مريدوه ويقولونه! بينما خروتشوف هو الذي طرح ذلك معتقدا -خطأ- أن الاتحاد السوفيتي قد انجز بناء مرحلة الاشتراكية المتطورة، وهو الآن - وقتئذ- قد ولج مرحلة بناء المجتمع الشيوعي (هكذا.. وبأمل كاذب ووهم ذاتي!) ،، ومن هنا اعتبر "خروتشوف" أن مسألة -طبقية- المجتمع السوفيتي قد انتهت وأضحى الاتحاد السوفيتي مجتمع الشعب الواحد!.. بمعنى أن خروتشوف والقيادة في وقته إقترفوا خطأ نظريا، منطلقين من اجتهاد مخاتل. ولم تستطع القيادة وقتئذ القراءة الموضوعية لبنية المجتمع، بل وضعت تصوراتها وآمالها الذاتية محل الواقع الموضوعي، عدى عدم فهمهم الفعلي لسمة ذلك العصر!.. بتقديري هذا كل ما في الأمر. نعم .. ممكن اعتبار -الخروتشوفية- تحريفا معينا (نظريا وعمليا) للماركسية الفعلية ورد فعل للمرحلة الستالينية، والتي هي بدورها لم تكن بلا خلل نظري وتطبيقي، بجانب التسلط والاستبداد ، التي اتسمت بهما المرحلة المذكورة. لقد دافع - خروتشوف- في كل محفل - بما فيها وقت أو إبان زيارته لأمريكا- عن المجتمع السوفيتي وعن الاشتراكية ومنجزاتها، أي حسب فهمه "الفلاحي" الريفي، ما كان يراه صوابا في حينه.. ووقف بحسم مع الثورة الكوبية وعاضد الأنظمة الوطنية في العالم الثالث. أما أن نحمله كل مساوئ وأخطاء بناء الاشتراكية.. فهذا أجحاف للواقع وسقوط في أوهام ذاتية بعيدا عن التقييم الموضوعي. بل أنه انكار لكل منجزات العهد السوفيتي في حينه.. خاصة؛ سمعته الدولية كبلد محب للسلم العالمي وبلد قد غزى الفضاء..الخ. حيث استعاد فيه المواطن عافيته وشيئا من -فرديته- (مقارنة بالجماعية الستالينية / التوتالاريزم المضخمة على حساب الانداويجواليزم!) وحريته المفقودة، في العهد الستاليني! ومن هنا، فليس مقنعا أبدا أن المجتمع أو -البنية السوسيو اكونومي- السوفيتية كانت عبارة عن -رأسمالية دولة- ، والتي تتطلب بالضرورة وجود - طبقة- برجوازية (ليست فئة حزبية بيروقراطية بل طبقة) يحق لها قانونيا شراء قوة العمل لإدرار- فيض القيمة- (كمثل الصين اليوم) .. الامر الذي لم يكن له وجود في مجمل العهد السوفيتي طوال السبعين عاما - عدا فترة - النيب- القصيرة! الخلاصة : يجب قراءة التاريخ (الفترة السوفيتية الملتبسة خاصة) بموضوعية وتأن وتجرد، حسب المنهج الماركسي الجدلي، بلا زيادة أو نقصان.. بلا شخصنة، أدلجة، تأليه أوبغضاء. وبلا هنات ذاتية

أين أس الخلل ؟ و لم تفتت المنظومة؟ وهل التفكك كان حتميا؟
ظل القصور الذاتي، المذكورة تفاصيله أعلاه، خاصية دائمة، ضمن العوامل الموضوعية غير المكتملة أبدا، في المجتمع السوفيتي نتيجة مشاكل ومآس منذ الحرب الأهلية، مرورا بالصراع على السلطة بعد موت لينين. ثم في مرحلة النيب. ومرحلة بناء الإشتراكية الأولى (مشرع ستالين 1 الذي انهى النيب!) قبل الحرب الوطنية العظمى. وبعد الحرب، حيث تأسيس المنظومة الإشتراكية الأوروبية اولا، ثم الاسيوية (الصين). نلاحظ بوضوح أن خطة الصناعة الخفيفة للسلع الإستهلاكية تتعثر في كل مرة.. نتيجة للظروف الصعبة والقاهرة، التي واجهت المجتمع السوفيتي. بجانب أن البيروقراطية (كانت ضرورة إدارية في البداية)، التي سيطرت واستأسدت في العهد الستاليني خاصة، ما فتئت تتعزز في كل مرحلة، بعد تبدد كل محاولة للإصلاح

لكن مع ذلك ومع كل المعوقات الموضوعية والذاتية، التي أخرت بزوغ مجتمع إشتراكي متطور. فإني أعتقد أن عملية "التفكك" لم تكن حتميا بأي شكل من الأشكال. كانت مؤامرة دنيئة في وضح النهار، من قبل عصابة يمينية محترفة استولت على قيادة الحزب بخطة مدروسة (قد تكون هندست من قبل الغرب)، بعد أن انتقلت نظريا إلى سكة "السلامة"، المتمثلة في فلسفة وفكر الإشتراكية الديمقراطية البرجوازية، والعودة إلى المثالية.. لكن باسم تجديد الحزب وإشاعة الحرية والديموقراطية فيه وتحديث آلية عمله، الأمر الذي سهل ثقة الشعب المطلقة والحزبيين في هذه المجموعة "المنقذة"، وهي تظهر غير ماتبطن بمكر ما بعده مكر!. وتواصل خطتها الجهنمية للقضاء على النمط الإشتراكي للمجتمع السوفيتي تدريجيا، تحت شعار مخاتل وهو تجديد المجتمع السوفيتي وتعزيز الحزب، عبر آليتي؛ " الشفافية" (جلاسنست)/ التي غطت الجانب السياسي. و" إعادة البناء" (بيروسترويكا) / التي غطت الجانب الإقتصادي أساسا! صحيح أن هؤلاء لم ينزلوا من السماء أو من كوكب مجهول. بل انبثقوا من البيروقراطية الحزبية والمجتمعية، التي لم تعرف إلا لغة الطاعة العمياء السفلي والتسلط الأوامري العلوي لعدة عقود

خاتمة
من الملاحظ أنني لم اسرد المنجزات، التي حققها العهد السوفيتي، في فترة زمنية قصيرة وصعبة غير مؤاتية البتة. ولم ادخل في تفاصيل الاخطاء والنواقص والتجاوزات على حقوق المواطنين السوفييت في فترات أولى خاصة. وذلك بسبب أنني كتبت عن هذا وذلك في أكثر من مقال. بجانب أن الأخوة المنصفين يعرفون تلك المنجزات حق المعرفة، بجانب خبايا الخطايا. الآن كلمة عن تعليقات المتشفين والمعادين "السوقيين"، من مختلف الشيع للعهد السوفيتي.. حيث يجري تحليل سطحي، مؤدلج، منحاز، ذاتي وغير موضوعي.. من قبل هؤلاء وأولائك، يفضى أن التجربة السوفيتية كانت وبالا على الروس وعلى مجمل التطور التاريخي لروسيا وحتى الأوروبي وربما العالمي، إنطلاقا من فهم مثالي مرده أن الثورة قامت قبل الاوان، بدون استكمال الشروط الموضوعية. أو ما يطرحه بعض "الماركسيين" أن سكة الثورة قد انحرفت، ربما بعد موت لينين (التروتسكيون والحكمتيون وغيرهما) أو بعد موت ستالين (النمريون/ نسبة إلى فؤاد النمري المنظر الماركسي الأردني)، الذين يعزون السبب الأساس في أفول التجربة إلى خيانة فئتي العسكر والبرجوازية "الوضيعة"! ملخص الحديث أن هناك كثر من التحليلات الذاتية غير المبنية على مقارعة الحياد العلمي الموضوعي للمسألة، المستندة على فهم الجدل الماركسي بالشكل السليم.. كلها تنطلق من تصنيفات ذاتية ورؤى شخصية وأحكام مسبقة. يتبع