كولريدج والجاسوس الفضولي


أشرف حسن منصور
2017 / 10 / 25 - 15:39     

كولريدج والجاسوس الفضولي
أثناء الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، كانت الحكومة الإنجليزية متتبعة لأي حركات سياسية أو فكرية مؤيدة للثورة الفرنسية. فقد كان نابليون يقدم نفسه آنذاك على أنه ممثل الثورة الفرنسية الذي سينشر مبادئها في أوروبا كلها. وكلفت الحكومة الإنجليزية البوليس بتتبع المفكرين الذي يمكن أن يكونوا مؤيدين للثورة أو متبنين لأفكار ثورية، وكان من بين من تتبعهم البوليس الإنجليزي، الشاعر صمويل تيلور كولريدج (1772 – 1834)، وصديقه الشاعر وليم وردسورث (1770 – 1850)؛ فربما شعرت الحكومة الإنجليزية أن أفكارهما وتوجهاتهما ثورية ويمكن أن تشكل خطراً على المجتمع الإنجليزي أثناء حربها مع نابليون.
أرسل البوليس الإنجليزي عميلاً سرياً ليسترق السمع لأحاديثهما، إذ كانا يجلسان في المقاهي العامة في لندن، ويلتف حولهما رواد المقهى، وكان هذا العميل السري من بين الرواد. لاحظ هذا العميل أن كولريدج وصديقه وردسورث يتحدثان عن "جاسوس فضولي" Spy Nosy. زاد اهتمام هذا العميل بهما، فالأمر يتعلق يجواسيس فضوليين، وربما كانوا لنابليون. كتب العميل تقارير للبوليس الإنجليزي بهذا المعنى الذي فهمه من عبارة Spy Nosy. لكن الحقيقة أن الذي سمعه العميل لم يكن Spy Nosy، بل Spinoza !!!. سمع العميل السري ما أراد أن يسمعه، وترجم في ذهنه اسم الفيلسوف الهولندي الشهير إلى "الجاسوس الفضولي". روى كولريدج هذه القصة في مذكراته الأدبية، متندراً بها على سبيل الفكاهة، وقال إن هذا العميل قد فهم بعد ذلك أن الحديث لم يكن عن جواسيس بل عن شخص ألف كتاباً منذ زمن بعيد. لم يهتم البوليس الإنجليزي بعد ذلك بأحاديث كولريدج وصديقه وردسورث، فلم يكونا يشكلان أي خطر على أمن واستقرار بريطانيا العظمى، إذ كانا من الشعراء الرومانسيين الحالمين الذين ليست لهم أي علاقة بالسياسة، ويتكلمون عن فلاسفة ماتوا منذ زمن طويل ويتناولون أفكاراً غريبة لا يفهمها أحد.
لقد كانت فلسفة سبينوزا إذن من أهم الفلسفات التي عملت على تغذية التيار الرومانسي في الأدب برؤية فلسفية قوامها وحدة الوجود وفكرة الطبيعة باعتبارها تجلياً للإله نفسه. وبالطبع فقد كانت هذه الأفكار بعيدة عن الثورة الفرنسية ونابليون. كانت هذه الأفكار الرومانسية هي وحدها البعيدة عن الفكر الثوري الذي كانت الحكومة الإنجليزية تخشى منه، لكن لو كانت الحكومة الإنجليزية على دراية بأفكار سبينوزا الأخرى، السياسية والدينية، لكانت قد حظرت فكره ومنعت كتبه في هذه الأثناء.
لقد كان العميل السري للبوليس الإنجليزي على حق، فسبينوزا هو بالفعل "جاسوس فضولي" من وجهة نظر أمنية. ذلك لأن فكر سبينوزا علماني، يرفض أي تحالف بين الدين والدولة، ويرفض مناصرة الدولة لدين معين أو مذهب أو فرقة دينية معينة، فالدولة عنده محايدة تجاه الأديان، وهو يقف ضد كل النظم الملكية ويدعو إلى الجمهورية العلمانية؛ في حين أن النظام الإنجليزي ملكي، ويعلن صراحة تبنيه وحمايته للمذهب البروتستانتي، والملك الإنجليزي هو ممثل الكنيسة وحامي الدين المسيحي. لقد كانت أفكار سبينوزا الثورية هذه هي التي أعطت طاقة الدفع لعصر التنوير وفلاسفته الذين مهدوا فكرياً للثورة الفرنسية: فولتير، روسو، ديدرو، هولباخ، هلفشيوس، وبذلك كان بالفعل خطراً على النظم الملكية، وخاصة المتحالفة منها مع مذهب ديني معين، مثل النظام الإنجليزي. كما كان سبينوزا صاحب مذهب فلسفي شامل ومتكامل ومستوعب لكل شيء، يضم أراءه في الفلسفة والأخلاق والدين والسياسة، أي كان فضولياً، يدس أنفه فيما يعنيه (الفلسفة) وما لا يعنيه (الدين والسياسة)، وبذلك كان هو الجاسوس الفضولي الذي خشى منه عميل البوليس الإنجليزي في البداية.
Samuel Taylor Coleridge, Biographia Literaria, vol. I, pp. 126 – 127.