عملية مونتاج للتاريخ... الحركة القومية الكردية وجلال الطالباني


أحمد الناصري
2017 / 10 / 11 - 14:17     

لا أدري بالضبط من أين تأتي صلافة أو عملية نسيان أو شطب وتجاوز أحداث رئيسية مهمة قامت بها حركة سياسية معينة أو شخص سياسي، رغم انها معروفة وموجودة في أكثر من وثيقة ومصدر؟ هل الموت والغياب يتطلب ذلك المونتاج والتعديل مثلاً؟ حيث سيأتي هنا من يقوم بعملية مونتاج وتقطيع وتجاوز وحذف وتعديل لاحقة لسيرة الميت (ربما وردت في مذكراته) ولتلك الأحداث والمواقف الرئيسية المهمة والقفز على مراحل تاريخية مهمة، ليظهر تاريخ منمق وملفق آخر لم يعشه الميت بهذه الطريقة. أنها عملية إعادة كتابة التاريخ، باعتبارها مهمة ومهنة غبية.
أنني مضطر هنا (ضرورة للتنبيه والفصل) للتمييز بين قضايا الشعوب القومية والوطنية الصحيحة وحقوقها الطبيعية العادلة، وبين الحركات السياسية والشخصيات السياسية (كذلك أميز وأضع مسافة بين الوطن والسلطة والدولة بسبب ما يجري في بلادنا من تأييد الاحتلال وما بعده)، التي قد تخطأ وتخون وتتراجع وتسبب الكوارث لمن تدعي تمثيلهم. وهذا حصل في كل تجارب حركات التحرر الوطني والثورات المعاصرة والعمل السياسي والعسكري، لأسباب كثيرة اجتماعية وفكرية وثقافية وشخصية أيضاً... وبأنني أؤيد العروبة والهوية القومية الكردية (الكردايتي)، بمعناها وأفقها الإنساني والثقافي الديمقراطي التقدمي واللغوي الحديث، وكل ما يرتبط بالحقوق الطبيعية لهذه القوميات، وضد القومية البرجوازية الضيقة والرجعية غير الإنسانية، بكل أمراضها ومشاكلها ومخاطرها العدوانية الكثيرة. ولا يمكن لي أن أؤيد حركة قومية فاشية أو رجعية اقطاعية، حتى لو طرحت وتبنت حلم الوحدة القومية، وأنني ضد مفاهيم ومصطلحات القومية الكبيرة والأقليات القومية، حيث إن العدد لا يقرر وضع الشعوب والقوميات ومسألة الحقوق. هنا يبرز ميدان العمل السياسي والسياسة والتطبيق والموقف الصحيح المطلوب!
لنبدأ بموقف الحركة القومية من ثورة 58 وإعلان تمرد أيلول 61 المسلح، الذي شارك به الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة ملا مصطفى البارزاني، ونتجاوز أمور كثيرة حصلت قبل هذا التاريخ، وهي بحاجة للدراسة، منها انتفاضة الشيخ سعيد ميران في كردستان تركي وفشل الانتفاضة واعدام الشيخ سعيد، كذلك تجربة جمهورية مهاباد في إيران وانهيارها وإعدام قاضي محمد، وكانت قبل ذلك تجربة المشاركة المشينة لأفواج عبد الحميد الثاني آخر سلاطين الدولة العثمانية (جحوش عبد الحميد) في مذابح الأرمن (أسوق هذه الأحداث والتجارب لمعرفة تقدير الظروف السياسية والثقافية التي احاطت بها وأدت إلى فشلها)، كذلك إفرازات معاهدة لوزان ومعاهدة سيفر على القضية الكردية والوضع الكردي وقضيته القومية.
كان لاستقبال عبد الكريم قاسم للبارزاني العائد من منفاه أن يفتح آفاقاً وطنية كبيرة على طريق الوحدة الوطنية والتقدم العام. أنها لحظة فاصلة، فالبارزاني لم يهرب من العراق إلى الاتحاد السوفيتي، أنما هرب من مهاباد الإيرانية بعد سقوط جمهوريتها سبب اختلاطات ونتائج ومساومات الحرب العالمية الثانية والوضع الجديد التي ترتب عليها وأهمية النفط الإيراني لبريطانيا المدمرة والصعود الأمريكي اللاحق (الاستراتيجيات الجديدة)، لكن بعد حصول تمرد اقطاعي عشائري في منطقة بهدينان قام به آغوات المنطقة، ليس بعيداً عن تحركات خارجية وداخلية ضد الثورة. أرسل عبد الكريم قاسم البارزاني للاطلاع على الوضع ضبط الأمور وإعادة الهدوء إلى المنطقة. هنا بدأ اللعب السياسي القومي والشخصي الضيق بالورقة القومية، فقد خاف البارزاني من سيطرة المجموعة الأخرى على الوضع وعزله وطرده إلى بغداد البعيدة خارج منطقة نفوذه العائلي والعشائري والديني، وربما جرى الاتصال به من المجموعة التي تدير المواجهة مع قاسم (شركات النفط البريطانية السافاك الإيراني قوى دينية وقومية داخلية)، وبدل العودة إلى بغداد سافر سراً إلى طهران والتقى شاه إيران الذي وعده بعلاقات قوية مع الغرب الأمريكي والبريطاني والكيان، وعاد وأعلن تمرد أيلول المسلح كمنزلق خطير في تاريخ الوضع الكردي والعراقي العام وبداية اللعب الخارجي بالورقة الكردية لأسباب عديدة، منها عدم تكون هوية الحركة الثقافية والفكرية المستقلة، والضعف العام والطمع بمساعدات خارجية والقبول بالتوظيف في استراتيجيات وخطط كبرى.
نعود إلى دور جلال الطالباني في هذا الوضع من خلال موقع إبراهيم أحمد والد زوجته هيرو كسكرتير للحزب، وكيف تقدم جلال في الحزب، وتشكيل كتلة المكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد والانشقاق والخروج على سلطة البارزاني عام 64، والهروب وللجوء إلى همدان إيران (أقرأ السافاك جهاز الأمن الإيراني) والعودة إلى كردستان العراق والحجز في منطقة دولي رقة (مع سيل من الشتائم البذيئة من قبل البارزاني (بالكردية الفصحى والشعبية) لهم، لأنهم قالوا عنه باع القضية الكردية بالبرتقال)، ثم الهروب إلى بكرة جو وتشكيل جحوش 66 التابعة لنظام عارف.
قبل هذا، كان هناك لقاء مبكر بأجهزة الكيان، حسب توجه وتصور إبراهيم أحمد وبموافقة البارزاني، وهذا يقع ضمن اللعب السياسي الخطير، (حيث كانا إبراهيم أحمد وجلال الطالباني اول من دشنا هذه العلاقة منذ عام ١٩٦٢ من خلال شخصين الاول هو كاميران بدرخان والثاني الدكتور عصمت شريف وانلي (او فانلي كما يكتبه هو)، وان الاثنين رتبا لقاءً لقيادات كردية عراقية مع شيمون بيريز في باريس). ثم كانت هناك الزيارات والعلاقات والدعم منذ عام 64! وهذا ليس له علاقة بتصاعد الصراع والاضطهاد القوميين كمبرر لهذه العلاقات الخاطئة والخطيرة. وكان جلال الطالباني هو من كتب برقية التأييد لانقلاب 8 شباط الفاشي ثم شارك بوفد المفاوضات مع نظام عارف والسفر إلى القاهرة واللقاء بجمال عبد الناصر...
بعد ذلك جاءت مرحلة المفاوضات مع سلطة البعث بعد انقلاب 68، وقضية بيان آذار والحكم الذاتي ودور الخارج الرئيسي في رفض مشروع الحكم الذاتي واندلاع القتال والحرب الجديدة عام 74 والانهيار الكبير والشامل عام 75 بعد اتفاقية الجزائر بأمر من شاه إيران وحصول (الآش بطال لعبة يلعبها الأطفال)، وتكون حركة مسلحة جديدة يقودها جلال الطالباني والاتحاد الوطني الكردستاني الذي تشكل في فندق طليطلة في دمشق عام 75، ودو منظمة كادحي كردستان الماركسية (الكوملة) في ذلك. وتشكيل القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة إدريس ومسعود البارزاني (عائلة البارزاني)، واندلاع الحرب الداخلية (ما يسمى بحرب الأخوة) بين جماعة جلال وآل بارزاني، وحصول مجزرة هكاري عام 78، التي راح ضحيتها العشرات من قادة وكوادر وبيشمركة جلال وهم في طور التكوين من بينهم قائدهم الدكتور خالد... هنا تقسمت المنطقة الكردية لسنوات طويلة إلى قسمين ومنطقتين، منطقة سوران التي يسيطر عليها جلال الطالباني، ومنطقة بهدينان التي يسيطر عليها البارزاني، وتحولت قوات جلال إلى مانع وحاجز لوصول وتواجد قوات البارزاني في هذه المنطقة (مناطق أربيل والسليمانية وكركوك) وحصلت معارك وملاحقات واغتيالات وتصفيات كثيرة ومستمرة من قبل الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) ضد جماعة البارزاني. وفشلت جميع الجهود والمحاولات والوساطات لإنهاء الخلاف والمشكلة، وتجسد ذلك في التحالفات الجديدة (جوقد وجود) تعبيراً عن انقسام المشهد، وصولاً إلى كارثة بشتآشان التي نفذها جلال بالتعاون والتنسيق مع صدام ضد مقرات الحزب الشيوعي العراقي الرئيسية في 1 أيار عام 83، وحصول المفاوضات بين جلال والسلطة عام 84. وهذا تحول نوعي في الحرب الداخلية أنهى طابعها الكردي – الكردي، بسبب ملابسات كثيرة كتبت عنها بالتفصيل، رافق ذلك مواقف غير صحيحة من الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة والمشاركة فيها والتعويل الكامل على نتائجها ثم توقفها في ،88.8.8 وبدأ هجوم القوات العراقية الشامل والكاسح في 16. 8. 88 أي بعد اسبوع واحد على انتهاء الحرب وانهيار الحركة المسلحة من جديد وتواجد بقاياها على الحدود من الطرف الإيراني والتركي.
استمر هذا الحال بين الحزبين (جلال والبارزاني) حتى ما بعد احداث وتطورات 91 العاصفة على بلادنا، ونشوء وضع سياسي واداري وعسكري خاص في كردستان، وذهاب جلال من جديد للتفاوض مع السلطة، والصراع الدموي عام 94، وطلب مسعود مساعدة حاسمة من صدام لطرد جلال من مدينة اربيل التي استولى عليها، وتم طرده إلى إيران من قبل قوات الحرس الجمهوري الصدامي. لم تتوقف هذه المشاكل بشكلها العسكري المباشر الا بالتدخل الأمريكي بعد تحديد وحسم قضية احتلال وطننا من قبل أمريكا ودور الحركة القومية الكردية في ذلك، إلى جانب القوى التي شاركت في المشروع الأمريكي... ثم تجربة ما بعد الاحتلال وما رافقها من مشاركة وتطبيق لسياسة ومواقف غير وطنية، قادت البلاد إلى كارثة الخراب والتدمير والإرهاب...
الشعب الكردي، لا يزال ضحية الجغرافيا والتاريخ والسياسة والمصالح والصراع والاضطهاد القومي البغيض، لكنه تعرض لتخريب مستمر وحقيقي من قبل الحركات القومية السياسية، التي شوهت النضال التحرري، وهذا يتطلب عمل فكري وثقافي وسياسي وإعلامي من قبل المجتمع ومؤسساته...