المسلمين و أسئلة التنوير


مولود مدي
2017 / 10 / 5 - 21:02     

طريق التنوير طويلة و دروبه وعرة, لأن التنوير هو أقحام لمنهج الشك و النقد في كل شيء حتى في ما نعتبره و نسمّيه " الثوابت ", قالوا أن التنوير هو معنى نبيل و لا يمكن للمسلم العاقل أن يتقبّله, لأن الاسلام يدعوا الى الاختلاف و الاحتكام للعقل, نعم الاسلام يدعوا الى ذلك و الله أمرنا في أن نسير في هذا الكون و أن نتدّبره و نكتشف القوانين التي تسيّره و أن ننظر في أحوال الأمم السابقة و نستنتج أسباب تقدّمها و انهيارها, و في النصوص القرأنية دعوة الى التدبّر و الاجتهاد للجميع دون اقتصار أو تعيين لطائفة معيّنة للبشر, و هذا خطاب حداثي قياسا على الظروف التي جاء فيها لأنه استهدف ان يرفع من قيمة الانسان بالدّعوة الى استخدام ما أكرمه الله به و هو العقل, عكس العصر الحالي الذي يشهد أن الأمة التي لا تفكّر ستذهب في طوايا القرون غير مأسوف عليها, لكن هل يتفضّل علينا المدافعين عن الجمود و عدم الاستفادة من الأفكار الانسانية غير الاسلامية بحجّة الحفاظ عن الهويّة و الثوابت و غيرها أن يقولوا لماذا نحن متخلّفين رغم أن ديننا يدعوا الى ما دعى اليه ديكارت بمقولته " أنا أفكّر اذن أنا موجود " ؟, أجابوا أن هناك فرق بين الاسلام و المسلمين و كأن المسلمين لم يستطيعوا فهم حقيقة دينهم منذ القرن الثاني عشر, و ذهبوا بعيدا و قالوا أن الغرب هو الذي يتأمر على الاسلام لكي لا تتقدّم الامة الاسلامية, و تناسوا أن التخلّف سببه هو قوى الخرافة و الأسطورة و كهنة الدين الذي قتلوا و صلبوا و كفّروا و المعروفين بألقابهم اللامعة مثل " شيخ الاسلام " و " حجّة الاسلام " وغيرها من الألقاب و اشهروا سيوف الاتهام بالزندقة و الالحاد ضد كل من جاء بفهم جديد للدين, فهل يريدون أن نتكلّم عن غيلان الدمشقي و الجعد بن درهم و المعتزلة و ابن رشد وسائر التيّارات العقلانية في الاسلام التي أجهضت و استبدلت بدين يقوم على العنعنة و اختراع الأسانيد لكل قضيّة فقهية ؟, لقد زايدوا على الناس في دينهم و قالوا أن ان اتباع العقل هو اتباع للهوى, وقالوا أن سائر نقّاد الفكر الاسلامي هم منفّذين لأجندة الغرب و لانعلم أي مصلحة الغرب عندما ينكر المسلم وجود عذاب قبر في الاسلام مقابل أن الذي يزايد و يتّهم باتباع الغرب, نسي نفسه أنه يأكل مما ينتج الغرب و يلبس مما ينتج الغرب و يستخدمون أحدث تقنيات الغرب في نشر الفكر الداعشي الارهابي و تهريب السلاح في المطارات من أجل قتل الأبرياء داخل الأمة الاسلامية و خارجها.

نحن نفخر كلّ يوم بالتقدّم الذي تحققه الروح الفلسفية و العقلانية في بلادنا رغم سيرها بخطوات بطيئة جدّا بسبب طبيعة المجتمعات العربية التي تشبه الى حد بعيد المجتمعات الأوروبية أيّام العصور الوسطى و التي كان فيها الانسان الأوروبي ساذج الايمان, مشغول بأمور الايمان و الأخرة وحدها, يفرط في الاعتقاد بامكانية حدوث الخوارق الطبيعة و يجعل الكوارث الطبيعة غضبا من الله عليه, لقد كان الانسان الأوروبي في العصور الوسطى فقيرا و معدوما و جاهلا أمّيا يئن من الجوع و تنخره الأمراض و الطاعون, اما النخب الأوروبية انذاك أما رجال الدين أصحاب السلطة و النفوذ عوض أن يهتمّوا بالانسان الأوروبي و ان يقوموا باصلاح الكنيسة, كانوا مهتمّين بالجدال حول حكم الضحك هل هو حلال أو حرام .. و هذا ما يحدث في العالم الاسلامي التي اختزلت مشاكله في هل يجوز أن نقول صباح الخير لغير المسلم و هل يجوز أن نحتفل بعيد رأس السّنة و هل قيادة المرأة حرام أم حلال.

ما هو التنوير ؟ يقول " كانت " أن التنوير هو قدرة الانسان على استخدام عقله بكل حرّية دون تدخّل اي قوّة خارجية لتفرض عليه طريقة تفكير معيّنة أو تفرض عليه عدم التفكير, لذلك لا تنوير دون عقلانية و حريّة في نفس الوقت, لكن يجب أن نفهم أن العقل يجب أن يكون المركز في القضايا الدنيوية و الطبيعية فقط, و لا شأن له بالمجال الميتافيزيقي الغيبي الذي ليس محلّ اهتمام العقل لأن هذا المجال لا يعترف بأسس التفكير المنطقي, لقد تسائل يوما الكاتب " عبد الوهّاب المسيري " سؤالين مهمّين, فالأول كان هل الدعوة الى استخدام العقل يقصد بها العقل المادي الأداتي, ام عقل يستطيع تجاوز المادة ؟ و السؤال الثاني كان " لقد كان فكر عصر الاستنارة و عصر النهضة يوضع عادة في الأدبيات الغربية مقابل عصر الظلمات الوسيط, فهل العصر العبّاسي الأول المتزامن مع العصور الوسطى المظلمة الغربية هو عصر ظلمات ؟ ", فالجواب على السؤال الأول هو أن العقل في الحقيقة لا يستطيع أن يتجاوز الحيز الذي يعيشه الانسان هو الحيّز المادي الطبيعي و الدنيوي, لذلك العقل الذي ندعوا اليه هو العقل الناقد للفكر الديني الاسلامي البشري المتمثّل في تفسيرات النصوص القرأنية التي تعرّضت لقضية خلق الكون و الانسان و قضيّة حريّة الارادة, الأحاديث النبوية, و القواعد الفقهية, وكل هذه العوامل هي بشرية الانتاج و الهوى لا تستطيع أن تكون مقدّسة و معصومة, لقد كان على العقل المسلم أن يعمل و ينقد هذه المواضيع التي أثّرت كثيرا في الفقه الاسلامي, فلو لم يكن العقل الانساني ذا طبيعة مادّية فلماذا عجزنا عن فهم حقيقة الروح ؟ كيف يستطيع العقل أن يفسّر النصوص القرأنية التي تحكي لنا قصص ولادة الصخرة للناقة ؟ و قصة الطير الأبابيل التي قصفت ابرهة الحبشي و تغلّبت على جيشه العظيم لتصبح هذه الطيور أوّل قاذفات جوّية في التاريخ ؟ انّ مجال العقل هو المجال المادّي لا غير و لم نعرف في التاريخ أيّ فلسفة استطاعت الانتقال من المادة الى الرّوح, لذلك عندما فشل العقل في حل اشكاليات الروح و طبيعته و ماهية العالم الأخر ترك هذه القضايا للدين, و بالتالي المهّمة التي علينا ان نقوم بها هي ليس البحث عن عقل يستطيع تجاوز المادّة و هو البحث الذي سينتهي بالفشل, بل يجب أن نبحث في هذه الأفكار الغيبية ان كانت بامكانها أن تؤثّر في طريقة حياتنا و سلوكاتنا.

اما عن مسألة العصر العبّاسي الأول, فلا يمكن لأحد أن ينكر أنه كان من أزهى عصور الدّولة العبّاسية, و لقد اختاره عبد الوهّاب المسيري لأنه يعلم أن في هذا العصر شهدت الدّولة العبّاسية ثورة في ميدان العلوم و التقنيات خصوصًا الفيزياء الفلكية والتقنية, و تم فيه اختراع الاسطرلاب و الساعة المائية, و انشاء أول مركز فلكي للرصد, و فيه تمّت اضاءة الطرقات و المساجد لأول مرّة, وفيه تمّ تأسيس أّوّل جامعة في بغداد سمّيت بجامعة الحكمة, لا يمكن الانكار أيضا أن في عصر المأمون تم الانفتاح الثقافي على المعتقدات الدينية بل وقع الخليفة المأمون نفسه في حبّ الفلسفة, لكن لا يجب أن نتناسى أن في هذا العصر تم تكريس الاضطهاد المذهبي و اضطهاد العلماء المعارضين لقضيّة خلق القرآن, ان ما تجاهله المسيري هو أن التنوير يعني الحرّية, ان كل خطاب يهدف الى اعلاء قيمة الانسان هو خطاب تنويري, لكن في العصر العبّاسي أو حتى العصور التي أتت بعده تم الدوس على كرامة الانسان و تمّ تعذيب العلماء و تم قتل الانسان مسلما أو غير مسلم بمجرّد الشبهة, مثلما حصل في أوروبا بمحاكم التفتيش حيث كانت الكنيسة تتلقّف كل من يعارضها و تلقي به الى المحرقة بتهمة الهرطقة, و هكذا سار الخلفاء العبّاسيون على نفس المنوال اذ كانوا يترصّدون لكل من تسوّل نفسه رفض قضيّة خلق القرآن و عموما, كانت الدولة العباسية دولة دينية ذات دين أرضى خاص اعتمدت علي فقهائها ورواة الحديث التابعين لها في تعزيز سياستها ضد الحركات السياسية المناوئة لها ، واذا قصّر احد الفقهاء في خدمة الدولة كان يتعرض للاضطهاد على قدر التقصير وهذا ما حدث مع مالك وابى حنيفة والشافعى ، ثم ابن حنبل فيما بعد... لذلك يجب أن ننصف الجميع و أن نعطي لكل ذي حقّ حقّه, ان الفرق بين التجربة العبّاسية و التجربة الأوروبية هي أن التنوير الأوربي كان أشد تأثيرا و ديمومة لأنه قام على فلسفة أن الانسان هو المركز, و التنمية و التطوّر لا تحدث الا عند الانسان أولا فلا تقدّم في ظل بيئة فقهية متشدّدة تمتلئ بالتحريم و التكفير و الاتهام بالزندقة و رفض قبول الأخر المختلف فكريا و دينيا, و تم في عصر الأنوار الاوروبي عرض أفكار و تصوّرات جديدة عن الدين و السياسية و العالم, و هذا هو الفرق, فلو استهدفت الدولة العبّاسية المسلم, لتخلّص من اثار البداوة و أصبح أكثر تفتّحا و تسامحا و أقل وحشية و أكثر انسانية, فلو نعمل مقارنة صغيرة بين انسان العصر العبّاسي و الانسان المسلم الذي عاش في الأندلس لوجدنا أن الانسان المسلم الأندلسي أكثر حضارة و تفتّحا من المسلم العبّاسي لأن الأندلس كانت ملتقى الكثير من الثقافات التي ساهمت في اثراء الثقافة الاسلامية و بالتالي تظهر لنا مدى أهمّية الانفتاح الثقافي, و للأسف السلطة العبّاسية دعمت الكهنوت الديني و ضمّته لكي يساعدها في اخماد أي معارضة سياسية متسلّحة بفهم جديد للدين و لا يزال العالم الاسلامي يعاني من هذا الكهنوت الى حد الأن و الذي بدأ أصلا بدعم السلطة العبّاسية لحركة تدوين الحديث, فتراجع الاجتهاد و علت قيم الأبائية و النرجسية و الوصاية على العقل المسلم لدى الفقهاء, ان مشكلة المؤرخين المسلمين هي المبالغة في تعظيم التاريخ الاسلامي, فلا يزال في عصرنا الحالي مفكّرين مسلمين يتحدّثون عن فضل الحضارة الاسلامية على الغربية, التي تجاوزت كل ما قام به المسلمون و أصبح الحديث عن ما قام به المسلمون هو مضيعة للوقت, فالغرب أخذ من المسلمين و تطوّر, أما المسلمين فيرفضون أخذ المنهج الغربي, و الأكثر من هذا, هو أنها تفهم الحضارة الأوروبية على أنها حضارة الالحاد و الانحلال الخلقي, ثم تقول أن الحضارة الأوروبية أخذت عن الحضارة الاسلامية, ان الحضارة الاوروبية لم تقم على الالحاد بل قامت على أسس المذهب الانساني و على حياد الدوّلة تجاه الأديان و منع حشر الدين في السياسة, فظهرت بيئة صحّية سليمة ليخرج الى الوجود العلماء الكبار, و من يريد شيطنة هذه الحضارة فسنذكّره أن الحضارة الاسلامية حتى في اوج ازدهارها انتشر الترف و المجون و تسرّب الى البلاط و اصبحت شؤون الدول الاسلامية و مصيرها في يد الحريم و الخصيان و غيرهم, وتمّت سرقة اسلامنا و أصبح ملكا للسلطة الفقهاء يصيغون أحكامه في البلاط, على حسب هوائهم و هوى السلطان, و يكفّرون من يريدون و يبيعون الجنّة لمن يريدون.

لا يمكن الافلات من مسألة التنوير على أي حال, و لا يمكن الالتفاف عليها أيضا, فأغلبية المثقّفين العرب يتحلّون بقشرة رقيقة من التنوير و الحداثة, و التي تخبئ ورائها كل الرواسب الطائفية الموروثة منذ اثني عشر قرن, فتجدهم يدافعون عن الموروث الفكري بأكمله و يعتبرونه من الثوابت, و بعد ذلك يحاولون البحث فيه عن المفاهيم الغربية مثل الديموقراطية و الحداثة, يعني انّهم يريدون تنويرا و حداثة بذلك العفن القديم.