المُحتَوى الاجتماعيّ-الطبقِيّ لِثوْراتِ العالَم، مُقارَبات ومُقارَنات


هيفاء أحمد الجندي
2017 / 10 / 2 - 23:23     

كانَ لافِتاً عندما انْدلَعَت الثورةُ الفرنسيّة، ظُهورُ ما سُمِيَ بالْحَشْد– الجُمهور وهُم اولئك الْفُقراءُ الذين كانوا خارجَ الحَيِّزِ العام، من المُنْزَوِينَ في مَنازلِ الحِرمان “اللامُتَسَرْوِلِين” الذي انطلقَتْ منه حركاتٌ لها موقِفٌ طَبَقيٌّ ضِدَّ الأرسْتقراطيَّةِ وهؤلاء جعَلوا مِن سعادةِ الشّعبِ هدفاً للثورةِ وأنْتجوا مَفْهومَ الثورةِ بالمَعنى الحَديثِ للكلِمة. وثورةُ الفقراءِ هي ثورةٌ من أجْلِ الحُريَّةِ أيضاً ولكنَّ الرَّبْطَ بين الحُريَّةِ والخُبْزِ هو ما يَتوَجَّبَ عليْنا قِراءَتُه في تاريخِ الثورات، وفي واقعِ الانْتفاضاتِ الشّعبِيَّةِ الْعَربيَّة. والثّورةُ السُّورِيَّةُ كَما الفَرَنْسِيَّةُ، لَمْ تَحدُثْ على يَدِ حِزْبٍ أَوْ حَرَكةٍ بِالمَعْنَى الحَدِيثِ لِلكَلِمَة، ولَمْ تَطْرَحْ قِياداتٍ مِن النَّوْعِ الذي عَوَّدَتْنا عليهِ ثَوراتُ القَرْنِ الْعِشْرِين، واتّسَمَ مَسارُها بِالحَيَوِيَّةِ الاجتماعيَّةِ-الصِّراعِيَّةِ-التَّناقُضِيَّةِ كَأيِّ صيرورة ثَوريَّةٍ نَتَجَ عَنْها تَفارُقٌ طبقيٌّ، فَضْلاً عَنْ أنَّ الشّعبَ والفُقراءَ الكادِحينَ أصْبحوا معَ تَقدُّمِ الرَّأسمال، مُرادِفَيْنِ لِلبروليتاريا الصّناعِيَّةِ ولِلطَّبقةِ الْعامِلَةِ. ومِنْ هُنا بَرَزَتْ إلى الوُجودِ بروليتاريَّةٌ اشتراكيَّةٌ ثَوريَّة.

ويَعرِضُ المُؤَرِّخُ الماركسيّ إريك هوبْسباوم في سِفْرِهِ الْهامِّ “عصرُ الثّورة” لِأوضاعِ الكادِحينَ الفُقراءِ والتي كانَتْ مُرَوِّعَةً بين عامَيْ “1815 و1848” ويقول: لا شَكَّ أنَّ مُسْتوَى الفَقْرِ كان أسْوَأَ في الْأرْيافِ ولا سيَّما في أوْساطِ العُمَّالِ المَأْجُورينَ، الذين لا يَمْتَلِكونَ الأرضَ، وعُمّالِ الخَدَماتِ، وبِالطّبْعِ الفلّاحين الذين لا أرضَ لَهم، فَضْلاً عن أوْضاعِ الفُقراءِ البائسَةِ في المُدُن. وغَدَتِ الفَجْوَةُ بين الأغنياءِ والفقراء، أكثرَ اتِّساعاً وبُروزاً ولمْ يَتبلوَرْ وَعْيٌ طبقِيٌّ بروليتاريٌّ إلّا في أوائلِ الثّلاثينيّاتِ، وقبلَ هذا التاريخ لمْ تكنِ الحركاتُ العمّاليَّةُ حركاتٍ بروليتاريَّةً بِمَعْنَى الكلمةِ مِنْ حيثُ تَكَوُّنِها أَمْ مِنْ حيثُ تَكْوِينِها الإيديولوجيّ وبَرامِجِها. أيْ أنَّها لَمْ تَكُنْ تَضُمُّ عُمّالَ الْمَصانِعِ والمَعامِل. وكان هناك جَبْهةٌ تَضُمُّ الفقراءَ والكادحين في المَراكِزِ الحَضَرِيَّةِ، وراحَتْ هذه الجَبهةُ تتَصدَّى لِلطبقةِ الوُسْطى الليبراليَّةِ ولِلمُلوكِ الأرسْتقراطيّين، والذي وَحّدَ صُفوفَها هو بَرنامجُ البروليتاريا وايْديولوجِيَّتِها.

ويُتابِعُ إريك هوبسباوم، كمَا جاءَ في كتابِه “عصرُ الثّورة” أنَّ ما يُخيفُ ويُرْعِبُ الأغنياءَ، هو شَبحُ الشّيوعيَّةِ وتَنْظيمُ الكادِحين، الذين كانوا يُعَبِّرون عن احْتِجاجِهم في البِدايَةِ بِشكلٍ عَفْويّ، وما كان يَجمعُ هذه التّحرُّكاتِ ويَلُمُّ شَمْلَها هو الجوعُ والبُؤسُ والكراهِيَةُ والأملُ وكان الفقراءُ قبلَ عام 1848 يَتضوَّرون جوعاً وبلغوا من ضَخامةِ العَددِ وعُمْقِ اليَأسِ حدّاً دَفعَهم إلى الثورة. بَيْدَ أنَّهم كانوا يَفتقِرون إلى التّنظيمِ والنُّضْجِ لِتحْويلِ تَمَرُّدِهم إلى ما هو أكثرُ مِنْ خَطَرٍ عابِرٍ على النّظامِ الاجتماعيّ. هذا ولم تكن الثورة الفرنسيَّةُ ثورةً بورجوازيَّةً فقط أحَلَّتِ النّظامَ الرّأسماليَّ مَحلَّ النّظامِ القديم، وسُلطةَ البورجوازيَّةِ مَحلَّ الأرستقراطيَّةِ، بلْ كانَت ثورةً شعبيَّةً-ديمقراطيَّةً-فلّاحيَّةً تَحوي بُذورَ الثورَةِ الاشتراكيَّة، ولكنْ لمْ تَتوفَّرْ شُروطُها وِفْقَ تحليلٍ لِسَمير أمين.
وثوراتُ 1848 تَتكرّرُ مرَّةً ثانيةً، بِحسَبِ ما ذهبَ اليه كُلٌّ مِن المفكّرَين البارزَين “اريك هوبسباوم وديفيد هارفي” من حيثُ أنَّ ثوراتِ اليوم، هي ثوراتٌ للطبقاتِ الدُّنيا وثوراتٌ مُضادَّةٌ، ومن ثُمَّ لِيَجِيءَ لويس بونابرت ويَخْتَطِفَ الثورة. ودُروسُ التّاريخِ تُعلِّمُنا أنَّ الثورةَ الشّعبيَّة في جَوهرِها هي لَحظةُ تَجَلِّي الصِّراعِ الطبقيِّ على سطحِ الأحداث، ولحظةُ خُروجِ حِمَمِ الصّراعِ الطبقيِّ من باطِنِ المُجتمعِ صَوْبَ ظاهرِه. فالصِّراعُ الطبقيُّ يَنْخُرُ قلْبَ المجتمعِ تحتَ السّطحِ باسْتِتارٍ وهُدوءٍ كالدُّودَة، كما عبَّرَ عنه ماركس، إلى أنْ يتَداعَى المُجتمعُ وتَظهرُ كَوامِنُه وتناقُضاتُه. وحتّى لوْ كانت الشّعاراتُ التي رُفِعَتْ مِنْ قِبَلِ شبابِ ومُثقَّفي الطبقةِ الوُسطى، في بداياتِ الثورة، لمْ تتَعدَّ السّقفَ البورجوازيَّ الديمقراطيَّ، ولكنَّ هؤلاءِ الشبابَ لا يُعانون فقط منْ مُشْكِلاتِ الطبقةِ الوُسطى، بِقَدْرِ ما يُعانون مِنْ مُشكلاتِ الطبقةِ العامِلةِ الكلاسيكيَّةِ كالبَطالَةِ والاسْتِغلال. كما أنَّهم بِكَدْحِهم الذِّهنيّ، يُساهِمون في خَلْقِ ثرواتٍ هائلةٍ لِشركاتِ تَقانَةِ المَعلوماتِ والاتِّصالات. ويُمكنُ القولُ، إنَّهم يُمثّلون نَوعاً جديداً مِن البروليتاريا الذّهنيَّةِ التي تَكدَحُ بِمهارَاتِها الذّهنيَّةِ وتَخْلقُ رأسمالاً ضَخما. ولهذه الطبقةِ العامِلةِ الجديدة، أشْكالُها الجديدةُ في التّنظيم. ولا ضَيْرَ من القولِ إنَّ الثوراتِ العربيةَ هي ثوراتُ البروليتاريا الذِّهنيَّةِ الحديثةِ والبروليتاريا التقليديَّة التي تَباطأتْ في حَراكِها الثوري في بادِئ الأمرِ، إلّا أنَّها سُرعانَ ما تَحركَتْ بِزَخَمٍ مَلْحُوٍظ ومن خِلالِ إضراباتِها واعْتصاماتِها.

غَنِيٌّ عن البَيان القول: إنَّ الثّوراتِ العربيَّةَ الرّاهِنَةَ، هيَ ثوراتٌ بورجوازيَّةٌ في شكلِها وسَقفِها ولكنَّها بروليتاريَّة في مَضْمونِها الاجتماعيِّ-الطبقيّ.

وكان قد تَنبّأَ اريك هوبسباوم قبلَ غيرِه، كما وَرَدَ في مقالاتِه الأخيرة، أنَّ الثّوراتِ الجديدة سوف تَخْتمِرُ وتَنْضجُ وتَنْدَلِعُ في الأرياف، لأنَّ الثورةَ الزراعيةَ أوْ رَسْمَلَةَ الزراعةِ جعلَتْ من ملايين الفلّاحين فائِضين عن الحاجة، كما سبقَ وعَرضْنا في هذه الدِّراسة والتَحقَتْ هذه الْكُتْلَةُ المُهَمّشَةُ بالاقتصادِ المُوازي وغيرِ النّظاميِّ كما حصلَ معَ الانتفاضةِ الشّعبيَّةِ السّوريَّةِ، حيْثُ اسْتَشْرَى الفَقْرُ والبَطالَةُ في الأرْيافِ وأصبحَتْ نسبةُ 30%من السّكّانِ تحتَ خطِّ الفَقْرِ، الْأمْرُ الذي يُفَسِّرُ تَطوُّرَ الانتفاضةِ في سوريا من المُحيطِ الرّيفيِّ نَحْوَ المَراكزِ المَدِينِيَّةِ، ومن أحْزِمةِ الفقرِ المُحيطَةِ بهذه المُدنِ نحوَ وَسَطِها، ولَولا انْضِمامُ فُقراءِ المُدنِ وفَلاحِي الأريافِ لَما تحوَّلَتْ هذه الانتفاضةُ إلى ثَورة. إذاً هي ثَورةُ الأريافِ والأطرافِ المُفْقَرةِ والمُهَمَّشَة.

ولا تختلفُ الثورةُ الصّينيَّةُ عن سابقاتِها، من حيثُ أنَّ الأوْضاعَ الاجتماعيَّةَ هي التي أشْعلَتْ فَتيلَ الثورة، وتَتمثّلُ في الفقرِ والقهْرِ الشّديدَيْنِ اللذَيْن خضعَ لهُما الشّعبُ الصّينيّ، ولا سيَّما جماهيرُه العمّاليَّةُ الكادحة، في المُدنِ والأرْياف، حيث كان الفلاحون يُمثّلون نسبةَ 90% من التّعدادِ الهائلِ للبلاد، وكان وضْعُ هؤلاء، أشدَّ سُوءاً من سكان المدنِ الصّينيّة، ولقد كان الفقرُ المُطْلَقُ للصّينِ أمْراً يَصْعُبُ على المُراقِبينَ أنْ يَتخيَّلوه بَيْدَ أنَّ مُقاوَمةَ الغَزْوِ اليابانيّ حَوَّلَتِ الشّيوعيين الصّينين مِنْ قوّةٍ مَهْزومَةٍ مِنَ المُحرِّضين كما كانوا في مُنْتصَفِ الثلاثينات، إلى قادةٍ ومُمَثِّلين للشّعبِ الصّينيِّ، جعلَتْ دَعوَتهم لِتحَرُّرِ الصّين من الفقرِ يَتلازَمُ مع التّحَرُّرِ الوطنيّ والنُّهوضِ من جديد. واضْطُرَّ الشيوعيون وَقْتَذاك إلى التّوَجُّهِ بِأنظارِهم إلى الرّيف، وبَدأوا بِشَنِّ حربِ العِصاباتِ ذاتِ القاعدةِ الفَلّاحِيَّة. ومِنَ المُهمِّ رَصْدُ تَحوُّلاتِ هذه الفِئَةِ، أيِ الفلّاحين إذْ لا خَيارَ أمامَها، إمّا أنْ تكونَ ثَوْريَّةً أوْ قاعدَةً اجتماعيَّةً للثوراتِ المُضادَّةِ والأنْظِمَةِ الرَّجعيَّةِ البونابرتيَّة، وقَدَرُها أنْ تَتَحالَفَ معَ العُمّالِ شَرْطَ أنْ يكونَ لها قِيادَةٌ ثَوريَّةٌ حَقيقيَّة. وما كان لِحربِ العصاباتِ أنْ تَنجحَ في الصّين، لَوْ لَمْ تَتوفّرْ لها قِيادةٌ مَركزيَّةٌ وهَرَمِيَّةٌ مُنَظّمَةٌ ناهِيكَ عن الانْدِماجِ المُجتمَعِيِّ وهذا ما افْتَقدَتْهُ الثّورةُ السّوريَّةُ بِسببِ تقَدُّمِ قوى الثورةِ المُضادَّةِ وغَلبَةِ العَفْوِيَّةِ والفَوْضَى والارْتِجالِ التي اتَّسَمَ بِها العَملُ الْعسكريّ.

ولا تَختلفُ الثورةُ الرُّوسيَّةُ عن بَقِيَّةِ ثَوراتِ العالم، لِجهةِ أنَّها ثورةٌ فَلّاحِيَّةٌ ضِدَّ كُلِّ أشْكالِ القِنانَةِ، ولكنَّ ما يُميِّزُها عن غيرِها، أنَّها قامَتْ على يَدِ حِزبٍ قَويِّ الارْتِباطِ بِالطّبقةِ العامِلةِ والمُثقّفين الرّاديكاليين، واسْتطاعَ لينين أنْ يُحوِّلَ الانتفاضةَ الشعبيَّةَ غيرَ المُنْضبِطةِ إلى سُلطةٍ بُلشفيَّة. وتكْمُن عظَمتُه بِقُدرتِه على مَعرفةِ ما تُريدُه الجماهير، وكان لها ما تُريد، أجورٌ أفضلُ وساعاتُ عملٍ أقلّ، فضْلاً عن أنَّ الثورةَ سمحَتْ للفلاحين بأنْ يضعوا أيْديهم على الأرض.

لينينُ، الذي بدأ عَيانيّاً من دِراسةِ روسيا وتَشكيلاتِها الاجتماعيّة وطبقاتِها ونُموِّ الرّأسماليّة فيها وبِناءً على هذا التّحليلِ الواقِعيّ- العيَانيّ، قادَ ثورَته الاشتراكيَّةَ. وتُعْتَبرُ الثورةُ الرّوسيَّةُ ثلاثَ ثوراتٍ في ثورَة، وِفْقَ ما ذهبَ إليْه فالِح عبد الجبّار في كتابِه “ما بعدَ ماركس”. ثورةٌ فلّاحيّةٌ ضِدَّ كلِّ أشكالِ القَنانَة، وسياسيَّةٌ ضدَّ الشّكل الأوتوقراطيّ للقَيصريّة، وثورةٌ عُمّاليّةٌ في المُدن. وقد اكْتسبَتْ هذه الثّوراتُ طابَعاً حادّاً ومُتَوتِّراً ومُتداخِلاً بِفعلِ ظروفِ الحربِ العالميَّةِ الأولى. وكان لينينُ يَعِي شُروطَ التّطوُّرِ التّاريخيِّ للرّأسماليَّة، والسّعْيِ للخروجِ منها وتَجاوزِها كما وَصفها. وقد اعْترضَ بليخانوف، الذي رأى أنَّ بلداً مُتخلّفاً مثلَ روسيا، يَقوم على الإنتاجِ السّلَعيّ الصّغير، وبَحْرٍ من الفلاحين لا يَسمحُ إلا بنُشوءِ نظامِ استبداد. وكان لينينُ يَأمَلُ ويَنتظِرُ أنْ تُشعِلَ الثّورةُ الرّوسيّةُ فَتِيلَ ثَوراتٍ عُمّاليَّةٍ في القّارَّةِ الأوربيَّة، والتّكتيكُ الهَامُّ للينين كان دَعْوتُه للإطاحةِ بالسّلطة، والخَلاص من الحرب الإمبرياليّةِ وحَلِّ المسألةِ الزّراعيّة، وتَلبِيةُ الحاجاتِ الحيَويّةِ لِعشراتِ المَلايينِ من الْبَشر. وحقّقَتْ روسيا ثورتَها الاشتراكيَّةَ بِعَددٍ قليلٍ من العمّال، وأكثريَّةٍ من الفلاحين، وبذلك يكون لينين قد جدَّد وخالفَ نظريَّةَ ماركس وِفْقَ ما يتناسبُ مع الخُصوصيَّةِ الروسيّة، وقانون تَفاوُتِ النّمُوِّ (التطور اللامتكافئ) لأنَّ ماركس تنبَّأ بأنَّ انكلترة سوف تكون الرّافع لثورة اقتصاديَّة، فهي البلد الوحيدُ الذي اسْتوفى فيه شروطَ التّطورِ الرّأسماليّ، وأنّ غالبيَّةَ السّكانِ تتألّفُ منْ عُمّال بِأجْر والبَلدُ الذي بلغَ فيه صِراعُ الطبقات، وتَنظيمُ الطبقةِ العامِلة في نَقاباتٍ درَجةً من الشّمولِ والنّضْج. والسّؤالُ الذي باتَ يَطرحُ نفسَهُ، إذا كان العمّال أقليَّةً والرّأسماليَّةُ غيرَ مُتطوِّرَةٍ في روسيا، فما الذي دفعَ لينين إلى تَغييرِ الدّفةِ باتِّجاهِ الثورةِ العُمّاليَّة، ذاتِ المَهامِّ الاشتراكيَّة، في بلدٍ يَنتظرُ انْجازَ مَهامٍّ ديمقراطيَّة؟ هل كان لينين غيرَ واعٍ لِنظريَّةِ ماركس!؟

لقد كان لينين، يَعِي شُروطَ التّطوُّرِ التاريخيِّ للرّأسماليَّةِ، وضِمْنَ شُروطِ التّطوُّرِ الّلامُتكافِئِ وهذا يُؤَكّدُ فِكْرةَ أنَّ الثورةَ الاشتراكيَّةَ لن تكونَ نِضالَ البروليتاريينَ الثّوريين، في كلِّ بَلَدٍ ضدَّ بُورجوازيَّتِهم، بَلْ ستكونُ نضالَ جميعِ المُستعمَراتِ والبلدانِ التي تَضْطَهِدُها الامبرياليَّةُ، ونِضالاتٍ لجميعِ البلدانِ التّابِعةِ ضدَّ الامبرياليَّةِ العالَميَّة. ومن المُستحيلِ أنْ نَفْهمَ العمَليَّةَ الثّوريَّةَ في روسيا بِدونِ الامبرياليَّةِ والحَرب.

كان لينين رائدَ الثورةِ البروليتاريَّة، والذي يعرفُ ما هو صِراعُ الطبقاتِ ولَمْ يكْتفِ بتأييدِ العُمّالِ ضدَّ البورجوازيَّةِ، وحركةِ التَّحرُّرِ الوطنيّ ضدَّ الامبرياليَّةِ، بلْ أيَّدَ آسيا ضدَّ أوربّا والشّرقَ ضدَّ الغربِ وكان معَ الفلاحِ الهنْديِّ ولا يَكْفي أنْ نقولَ إنَّ النّظامَ الاشتراكيَّ وُلِدَ مِنَ الطبقةِ العَامِلة، لقد وُلِدَ في روسيا المُتَخلّفةِ حيثُ يُؤلِّفُ الفلّاحون ثلاثةَ أرباعِ السّكان، ثمَّ انتصرَ في الصّين الكولونياليَّةِ ونِصْفِ الاقطاعيّة.

إنَّها دِيناميكيّةُ الثورةِ الدَّائمةِ في البلدان المُتَخلّفة، حيثُ فَشِلَ بليخانوف وكاوتسكي في فَهْمِ هذه الدِّيناميكيَّةِ الثوريّةِ العالَميَّةِ في زَمَنِ الامبرياليَّةِ وتَناقُضاتِها التي لا تَنبعُ مِن نِضالِ العُمّالِ ضِدَّ أرْبابِ العملِ، بل تَسْتَنِدُ إلى تحليلِ الطبقاتِ، ونَظريَّةِ تَحوُّلِ الثورةِ الديمقراطيَّةِ إلى اشتراكيَّة، وعُرِفَتْ عندَ ماركس أيضاً بِاسْمِ الثورة الدائِمة. وتحَوُّلُ الثورة الديمقراطيّةِ إلى اشتراكيّةٍ هو بِمثابَةِ القانون، إنَّه قانونٌ رئيسيٌّ للثورةِ بِاعتبارِها صَيْرورةً وتَطوُّراً وتحوُّلاً صِراعيّاً لا يَحجُبُه مَفهومُ الامبرياليّة، بلْ يُؤكِّدُه شرقُنا. وقد قال لينينُ بهذا الخُصوص: ليس هناك مِنْ جِدارٍ بين الثورَتَين، الأولى تَنْمو وتتَحوَّلُ إلى الثانِية. ونضالُ الشعبِ الرّوسيّ، سيتَحقَّقُ بِالتِقاءِ وانْدماجِ نضالِ الطبقةِ العامِلةِ الرّوسيَّةِ معَ نِضالِ الفلّاحين. ومُعجزةُ ثورةِ أكتوبر قامَتْ على هذا الأساسِ من التّراكُب.

وفي مَعْرَضِ نَقْدِه لِماركس، اعْتبرَ سَمير أمين أنَّ ماركس وصديقَه إنجلز، لمْ يُقَدِّرا أنَّ الأممَ الفلّاحِيَّةَ ستُثْبِتُ أنَّها الأكْثرَ ثَوريَّةً في الانتقالِ نحوَ الاشتراكيَّةِ، ومَنْ سوفَ يُحَقِّقُ الثورةَ ليْسَتْ البروليتاريا فقط، وإنَّما كلُّ الطّبقاتِ شِبْهِ البروليتاريَّةِ والفلاحون الفُقراء والمُتَوسِّطون وكلُّ الطبقاتِ المُهمَّشةِ والمَراتِبِ الكادحةِ والبورجوازيَّة الصّغيرة، وهذا نابِعٌ من خُصوصِيَّةِ التركيبِ الاقتصاديِّ- الاجتماعيِّ للبلدان العربيَّة. وهُنا تَحْضرُني عِبارةٌ هامَّةٌ للمُفكّرِ السّوريّ الياس مُرقص أنَّ “الثورة الاجتماعيَّة بِدون ثوراتِ الأُمَمِ الصّغيرةِ في المُسْتَعمراتِ، وفي أوربّا بِدونِ الانفجاراتِ الثوريَّةِ لقِطاعٍ مِنَ البورجوازيَّةِ الصّغيرةِ بِكلِّ أوْهامِها، وبِدونِ حركةٍ تَقومُ بِها الجَماهيرُ البروليتاريَّةُ ونِصْفُ البروليتاريَّة غيرُ الواعِيَةِ سياسيّاً، ضدّ اضطهادِ الأسْيادِ ومَلّاكي الأراضي والكنيسة، إنَّ مَنْ يَتخَيَّلُ ذلك إنَّما يَهْجُرُ الثورةَ الاجتماعيَّة. ومَنْ يَنْتظرُ ثَورةً اجتماعيَّةً طاهرَةً، لنْ يراها في عُمرِه، وذلك ثوريٌّ في الكلامِ ولا يَعرفُ ما هي الثّورةُ الاجتماعيَّةُ وليسَتْ من ثورةٍ اجتماعيَّةٍ خالِصَة”.

وثَمَّةَ فِكرةٌ هامّةٌ وإشْكالِيَّةٌ لِلمُفكّرِ الشّهيد مَهدي عامل وقد تُثيرُ شيئاً مِن الجَدَلِ والتي ورَدَتْ في كِتابه نقدُ الفكرِ اليوميّ: “إنَّ الثورةَ تكونُ فاشِلةً، إنْ لمْ تكنْ بِقيادةِ طبقةِ مُهَيْمِنةٍ اقتصاديّاً وسياسيّاً، والفلاحون لَيْسُوا بطبقةٍ مُهيمنة، وما كان فيهم نَمَطٌ خاصٌّ من الإنتاجِ يحمِلُ طابَعَهم الطبقيَّ، ولذلك كان الأُفْقُ مَسدوداً في وَجْهِ الثوراتِ الفلّاحيَّةِ ولا يَنْفتِحُ إلّا حينَ تكونُ الثورةُ بِقيادَةِ طبقةٍ مُهَيمِنةٍ، البورجوازيَّةُ أو الطبقةُ العامِلة”. وهل يَحتاجُ مُفَكّرٌ بِأهمِّيَّةِ وعَبْقريَّةِ مَهدي عامل أنْ نُذكِّرَه أنَّ الثوراتِ الفلاحيَّةَ قادَتْ إلى الشيوعيَّةِ في الصّين وروسيا، وإنْ جرَى التّضحِيَةُ بهذه الأهدافِ فيما بَعدُ وتَحوَّلَ البلدان إلى الرّأسماليّة! ويَنْبغي تَضافُرُ ثلاثةِ عَوَامِلَ حتّى تنتصرَ الثورات، التنظيمُ والقيادةُ الثوريَّةُ والتّحالُفُ معَ العُمّالِ كَيْ يَتِمَّ الانتِقالُ إلى الاشتراكيَّةِ، لأنَّ شَريحةَ الفلاحين غالِباً ما تُعَبِّرُ عن سُخْطِها بِأشكالٍ رَجعيَّةٍ، وهذا الشَّكلُ الرّجعيُّ من الوَعيِ يُمكنُ أنْ تَستغلَّهُ القوى المُناهِضةُ للثورةِ من أجلِ أنْ تَدْعمَ سُلطتَها وهَيْمَنتَها، وتُبْعِدُها عن حَليفِها الأساسيِّ وهو الطبَقةُ العامِلة..
مِن هنا تنبعُ أهمِّيَّةُ فِكرةِ الهَيْمنةِ عند غرامشي، أيْ الهَيمنةُ على الفلاحين وضرورةُ التّحالُفِ مع الطبقةِ العامِلةِ، ومَنْ سوفَ يقومُ بِهذه المَهمَّةِ هو “الأميرُ الحديث” أيْ حِزبُ الفئاتِ الشّعبيَّةِ المُفْقَرة، بذلك يَجري إدْخالُهم كفاعِلين أساسيين، في صُنعِ التّاريخ. ولمْ يكنِ غرامشي يَنظرُ إلى الصّراعِ الاجتماعيِّ على أنَّه مَحصورٌ بينَ البورجوازيَّةِ والبروليتاريا بل رآه ثُلاثيَّ الأبْعاد، البورجوازية/البروليتاريا/ومعهما الشّرائحُ الدّنيا من البورجوازيَّةِ الصّغيرةِ والفئاتُ الوُسطى.