حَدُّ المادة وأصلها


نعيم إيليا
2017 / 9 / 24 - 17:44     

بيان حقيقة المادة، هو حدُّها. فأما أصلها، فجوهرها على حياله مجرداً من أعراضه وصوره الظاهرة.
فماذا يمكن أن يقال – أولاً - في بيان حقيقة المادة حداً لها، ولا يكون هذا الذي يقال عليها إلا صادقاً تاماً ليس يعروه بطلان ولا نقصان؟
قد قيل عليها: إنها أسطُقس (ماء، نار، تراب، هواء) إذا جُزِّئ، انتهى إلى جوهر فرد لا يتجزأ.
وقيل: إنها ظل لمثال خالد في الأعالي، ونسخة عن حقيقة كامنة في فكر الأول.
وقيل: إنها شيء مكون من جوهر وماهية (هيولى وصورة) في اندماج لا يقبل الانفصال إلا في الفكر، أو هي شيء لا تعين له يدخل في تركيب جميع صور الوجود الذاتي الجزئي العيني، وليس له في ذاته وجود متحقق باستقلالية عن هذه الصور.
وقيل: إنها شيء ولكن لا وجود لهذا الشيء إلا في الذهن.
وقيل: بل لهذا الشيء وجود خارج الذهن، ولكن وجوده لا معنى له إلا في الذهن.
وقيل: إنها موضوع مستقل عن الذات موجود قبل وجود الذات، تتلقفه الحواس، ويتعقله العقل.
وقيل: إنها كتلة وطاقة في اتحاد أو انفصام.
ولكن ما كل هذا الذي قد قيل عليها؟ أبين كل هذا الذي قيل عليها قول ينطبق تمام الانطباق عليها وهو يمثل حقيقتها تمثيلاً أميناً وفياً؟
إن الحد أو التعريف غايته إظهار حقيقة ما يحده ويعرِّفه. ولكي يتحقق للحد أن يبلغ هذه الغاية، لا بد له أن يطابق ما يحده ويعرفه. بيد أنه ليس بين جميع هذه الأقوال المذكورة قول واحد ينطبق على محدَّده (المادة) انطباقاً كلياً صادقاً فيعكس حقيقتها كما هي في الواقع بلا مواربة ولا ظلال.
ولنأخذ أقرب هذه الأقوال في المادة إلى الصدق والإبانة والاكتمال، وأقربها قول العلم فيها إنها كتلة وطاقة، أو طاقة تتحول إلى كتلة، وكتلة تتحول إلى طاقة، فماذا نفهم من هذا القول؟ هل نفهم منه غير أن المادة طاقة تتحول إلى كتلة، وكتلة تتحول إلى طاقة؟ هل نفهم منه غير أنها، في باطنها، جسيمات ممتدة أو غير ممتدة؟
ولكن ما هي الطاقة حقيقةً؟ ما هي الكتلة حقيقة؟ ما هي الجسيمات الممتدة واللا ممتدة حقيقة؟ هل لنا - مهما نزوَّد به من إجابات على هذا الأسئلة - أن نفهم حقيقة هذه الطاقة أو الكتلة أو الجسيم؟ إذن فما فائدة كل هذا الذي قيل فيها ويقال، ما دام لا يرفع السجاف عن حقيقتها أمام أبصارنا وبصائرنا؟
على أن العقل بما هو نشاط متوقد، إذ يتنحى عن هذه الحدود والتعريفات التي لا يرى فيها فائدة جلّى، لا يفزُّ عن البحث الدؤوب عن حد، عن تعريف جديد مبتكَر للمادة شاملٍ يفصح عن حقيقتها؛ فإن مسألة فهم، تفسيرِ العالم - وهي مهمة الفلسفة والعلم جميعاً - يستحيل أن تتحقق من دون إدراك حقيقة المادة بتعريف أو حد فيه جلاء أمرها. ولقد هداه بحثه الدؤوب وتأمله الرصين إلى مبتكَر من الحدود، ليس لمعاند أو معترض، مهما يشتد أخدعُه، أن يحتج على صدقه وشموله على أي وجه من الوجوه. إنه هذا الحد الذي يقول بكل بساطة – والحقيقة بسيطة دائماً - ويسر: المادة هي الموجود الذي له وجود فعلي.
إن مقولة الوجود أصدق المقولات، أصدق من جميع المقولات الأرسطية – والكانطية أيضاً - من الكم والكيف والأين والمتى والإضافة والوضع والملك وفعل وانفعل؛ ولهذا اعتمد عليها ديكارت في نظريته الشكية المعروفة بالكوجيتو. فما هو موجود - ودليل الوجود عنده الفكر، وهو دليل ضعيف واهٍ - غير قابل للشك. كما أن هيغل في نظريته الوجودية (الأنطولوجية) وإن كان ابتدأ بالليسية – العدم والوجود في فلسفة هيغل شيء واحد - جعل الوجود مبدأ أول ومنه إنما اشتق الطبيعة بجميع مظاهرها. فمتى كان شيء موجوداً في الواقع مدركاً بالحواس أو بالآلة، فهو مادة. والمادة، لأنها موجودة، لا تحتاج لغير وجودها لتكون صادقة الوجود. فأما ما لم يكن له وجود في الواقع، فليس مادة.
ولعل قائلاً يقول: ولكن المادة مفهوم كلي حقيقي (جنس) ليس له من وجود في الواقع، فكيف يكون منطبقاً على ماصدقاته (أنواعه) الموجودة في الواقع: كالإنسان، والوعل، والبكتيريا والنبات، والحجر، والحديد، والماء، والغاز، والضوء، والنيترون… إلخ؟
كيف للكلي الحقيقي اللا موجود في الواقع، أن يكون تعبيراً لفظياً صادقاً عن الموجود الجزئي العيني وبينهما هذه الوهدة؟ فيرد على قوله إن مفهوم المادة على هذا الوجه، مصطلح متواطأ عليه في اللغة. إنه، وإن لم يكن بذاته ( وذاته مكونة من حروف صوتية: ميم، ألف، دال، تاء مربوطة، لا مثال لها في الواقع مفردة كانت أو مؤتلفة )، دالٌّ على أشياء موجودة في الواقع. فاللغة إذاً حقيقة لا وجود لها في الواقع بما هي لفظ، بيد أنها واقعية بما تحمله في داخلها وتمثله من أشياء محسوسة.
فإذا قال آخر: فبم يفضل هذا الحد الحدودَ المذكورة؟ بم؟ أليس يجوز أن يحكم عليه بعين ما حكم عليها؟ ألا يجوز أن يحكم عليه بأنه، أيضاً، لا يرفع السجاف عن حقيقة المادة؟ فما معنى أن تكون المادة كل ما هو موجود في الواقع؟ أوَليس القول بأن المادة كتلة وطاقة يشمل كل موجود في الواقع؟ جاءه الرد: فإذا كان جائزاً أن يطرح السؤال: ما الطاقة؟ ما الكتلة؟ ما الأسطقسات؟ ما الموضوع والذات...؟ فهل هو جائز، أو مفيد بمعنى أدق، أن يطرح السؤال: ما الموجود؟ والقصد من السؤال لا معرفة ماهية الموجود، بل معرفة ما معنى وجوده.
ولسوف يستبين المعترض قوام هذا الحد وتميزه بالصدق والشمول، حين يجري الكلام على على أصل المادة. فإن جميع التعريفات بلا استثناء، المثاليةِ منها والمادية، تتأدى بأصل المادة إلى الروح، أو اللا شيء، أو العلاقة مجردة بلا حامل.
فلما كانت الروح لا وجود لها بالفعل في صورة مستقلة عن المادة، ولما كان اللا شيء لا معنى له، وكذا العلاقة بلا حامل، وضحت دقة هذا الحد وصدقه. فالموجود ولو بلغ بالتجزيء حده الأدنى بإطلاق، يظل موجوداً. ولن يستحيل بالتجزيء إلى روحٍ عوضُ، ولن يستحيل إلى لا شيء، ولن يستحيل إلى علاقة بلا حامل أبداً.
فإن تُوهِّم أنه يستحيل إلى روح، أو علاقة، أو لا شيء، وجب أن يؤتى على وجود الروح، أو العلاقة لا حامل لها، أو اللا شيء، بدليل حسي أو بمثال واقعي.
فهل من دليل أو مثال يمكن الإتيان به؟