لماذا الحقيقة .. دورها .. اختفاؤها 2/2


بدر الدين شنن
2017 / 9 / 9 - 16:14     

لقد بات من المعروف ، أن نهايات حروب التمرد المسلح بأنواعه ، على الحكومات ، تختلف عن نهايتها بين الدول . وللبرهنة على ذلك ، تقوم الدول عادة بتوثيق ذلك فيما بينها باتفاق أو معاهدة . وتتعايشان معاً مرة أخرى . أما توقف وإنهاء التمرد ضد الحكومة .. وهو في معظم الأحوال يتم بهزيمة وانكسار المتمرد بن ، فإنه يعني توقف التمرد لا إنهاؤه ، مثلما يحدث في حالات تمردات الاخوان المسلمون المتعددة ، منذ عام 1964 حتى الآن . إذ أن الحكومة تواصل الحرب بأشكال أخرى ، ضد بقايا التمرد واحتمالات نشوئه مجدداً .. ويمكن أن يسمى هذا الامتداد للحرب " حرب القمع " التي تتفرع إلى أحقاد ، وثارات ، وإلى مزيد من الدم ، والخسائر . ومن طرف آخر إن التمرد من أي نوع كان ، عنصري ، طائفي ، انفصالي ، خياني ، يوقف الحرب أيضاً ولاينهيها ، وإنما يتابعها بما يسمى " حرب عصابات " ريثما يستجمع قواه ويجدد التمرد . .. ولاتقبل الحكومة ببقاء ولو جزء من التمرد والتعايش معه .

ومن أعراض " حرب القمع " أن يسود الاكتئاب معظم الناس ، وأن يتردد صدى الانكسار ، لدى الفاشلين ، حزناً وندماً .
وفي المشهد العام ، ونتيجة الدمار والدماء والخسائر والنزوح ، تتراجع مقدرات الوطن ، ويضعف ، ويستهدف من الطامعين والانتهازيين .. وينقسم الإنسان في ممارساته النوعية المتوترة ، إلى وحش وضحية . ويصبح للعقل ، والفكر ، والسياسة ، والإعلام ، والمنطق ، أهمية قصوى ، لإزالة العفن الموروث ، والجهالة المغشوشة باللحى ، وبالشهادات العليا المزورة مصداقيتها ، ما أدى إلى أن نلقى بحفر عبودية الزاد والاستبداد ، ولكشف العيوب والثقوب المستجدة ، لإعادة التوازن .. للقيم الوطنية .. والشعبية .. والسياسية .. والإنسانية .

من هذا المنطلق قلنا أن " دور الحقيقة " في " حرب القمع " وحرب العصابات ، سيكون أصعب وأخطر ، وأشمل . وكل يوم يمر مشحون بألم لافت مضرج بالدم ، تشتعل مشاعر الغضب ، ويترتب على " الحقيقة " أن ترفع صوتها ، أن تعلن موقفها . ومع كثرة وتوالي الأيام الموجعة ، والأحداث الصارخة ، تكثر ملاحظات الرفاق ، والقراء المتابعين ، التي تتوارد بأساليب مختلفة إلى هيئة التحرير .

وفي تلك الأيام المضطربة المرهقة ، فكرياً ، وسياسياً ومعاشياً . كان الأكثر التفاتاً واهتماماً ، شعبياً ، هما العنف العبثي العشوائي للناس الأبرياء ، والتسعير الطائفي الأحمق ، وأعمال التخريب على نطاق واسع ومرعب . وكانت الملاحظات تدور حولها ، وتطلب من هيئة التحرير ، أن تنسجم مع غضب الجمهور واستياءه ونداءاته . وكانت هناك صلات شخصية ، توجه اللوم لتقصير " الحقيقة " ، وفي التعاطي مع هذه المسائل الأخطر على حياة وكرامة ومصالح الناس .

وكادت هذه الملاحظات تشكل معوقاً ، لاختيار الموضوع وبنائه . لكنن اكتشفنا أن ملاحظات بعض القيادة ، هي اكثر إعاقة لنا . وقد كانت أول إعاقة من القيادة ، حين علمنا أن ملاحظات البعض منها ، قد تردد بالموافقة على عنوان " مانشيت " للعدد المرسل إليهم . وقد جاء فيه " آن ألأوان لوقف العنف وقتل الأبرياء .واعتبر ذلك أنه في صالح النظام ؟

لكن العدد صدر كما صممناه . وأصبحنا نحسب حسابات انعكاسات النقاش في القيادة على مضمون " الحقيقة " .. بمعنى أن " الحقيقة " صارت تحت المراقبة . ولما استقر الموقف السياسي ، بعدم التعرض لعنف الأخوان المسلمين " في " الحقيقة " حتى لا يستفيد النظام . حسم الأمر . رغم أن التجمع الوطني الديمقراطي له موقف آخر .
بيد أن كل المعوقات .. وخاصة السياسية .. لم تحد من حركة " الحقيقة " وتوسعها .. إن في المساحة المقرر تغطيتها ، أو في مساحات أخرى ، بواسطة الرفاق هناك . . ورغم حملات المطاردة المتواصلة .. لكادر .. وإمكانيات | الحقيقة " فقد استمرت بكل مراحلها .. تحريراً .. وطباعة .. وتوزيعاً .

وقد أعطت " الحقيقة" ما توقعناه منها ، في دعم حجم وحضور المنظمة السياسي ، ونشر خطاب الحزب في أوساط شعبية أوسع مما كان من قبل . وصارت جزءاً هاماً من أساسيا بالمنظمة ودورها .
حين توسعت وتعمقت الأحداث السورية أكثر . ودخلت مستوى احتلال مدن . وأخطرها كانت سيطرة الطليعة المقاتلة على حماة عام 1982 . واتخذت الاشتباكات مع الجيش طابعاً تدميرياً ودموياً رهيباً لاستعادة الجيش للمدينة ، حدثت اعتقالات وتصفية حسابات ، وإعدامات ، طاولت الكثير من الطليعة المقاتلة وحلفائها .

وبعيد ما حدث في حماة ، حدثت محاولات سياسية عدة لإعادة بنار المواقف والآراء السياسية ، حول ما حدث ، وما قد يحدث في سوريا .. فيما يتعلق ببناء المجتمع ، والوطن ، وفق القيم الوطنية والإنسانية . وهذا لن يتحقق إلاّ بالكف عن العنف المتبادل .. وإقامة وحدة وطنية شاملة مؤهلة لإنقاذ البلاد . وعلى هذا سارت " الحقيقة " ، وألحت بأشكال عدة . لكنها كانت تلقى التردد والتعديل من القيادة .. وأخيراً في أوائل أيار 1983 ، حصل تقارب في الرأي بيننا .. وتمت الموافقة على النشر . وقد فرحت لهذه الموافقة . واتجهت إلى مدينة حلب للإسراع بإصدار " الحقيقة " متضمنة الدعوة للوحدة الوطنية . لقد تعبت كثيراً في إعداد هذا العدد .ز وفي سبيل الموافقة عليه .

ودخلت بيت الصديق ، الذي توقعت أن أره فيه . فوجدت هناك كميناً من الأمن ينتظرني .
قال أحد رجال الأمن لزميله .. أنظر ماذا يوجد هنا .. منشور .. جريدة .. لا أدري .. اسمه " الحقيقة " . ويوجد رقم هاتف أيضاَ ، تذكروا ذلك .
وأخذوا " الحقيقة " معي إلى التحقيق . ولما أخذوني إلى السجن سنوات مديدة .. لم يعد يقرأ " الحقيقة " أحد . والسبب بسيط . لقد اعتقل الأمن وصادر الجهاز والعاملين فيه . ولم يصدر الرفاق " الحقيقة " مرة أخرى .
وكل من يعمل في الإعلام الملتزم يفهم ذلك .. فنياً .. وإدارياً . ويلمس مدى الفراغ الذي أحدثه تصرف الأمن إزاء " الحقيقة " .

قد يفكر البعض الآن ، أننا لسنا بحاجة للوسائل الورقية ، لتجسيد التعبيرات المطلوبة . إن شبكات التواصل الاجتماعي ، تؤمن الأسلوب الكفيل ، لنقل النص .. الموضوع .. ونشره بلمحات عبر الاستطاعة الفضائية .
هذا صحيح ، لو اقتصر الأمر على المقارنة بين الأسلوبين . لكن المسألة ، هي مسألة التزام سياسي ، وطبقي ، ووطني ، وديمقراطي ، وإنساني ، فهل يتمكن التواصل الاجتماعي من الالتزام السياسي دون التعرض للمتابعة والمعاقبة . ولذلك إن التزام الجهة التي تصدر النص ، وتستخدم الأداة لنشره هو الأهم . إن معظم الأدوات تساعد ، لكنها لا تتحرك .. ولا تفكر .. ولا تحقق أي أمر بدون الإنسان .. بدون عقل الإنسان . وعليه يمكن تركيب العلاقة بطريقة أو بأخرى بين النص الملتزم ، ومسؤولياته ، وحمايته ، وإيصاله إلى المدى الأوسع ..

البدء هو القرار .ز هو الإرادة والالتزام . ثم تأتي الأداة . والعقل هو الذي ينظم العلاقة بينهما .. إنما الالتزام أولاً .

إن الظروف التي تمر بها سوريا الآن ، هي أصعب بمرات عديدة موجعة ومدمرة ، من الظروف التي كانت تمر بسوريا ، في أوائل الثمانينات ، واستدعت إصدار " الحقيقة " لتغطية الأحداث التي تقع في حلب والشمال السوري كله . وقد أدت " الحقيقة " دورها ضمن الإ ماكانات المتاحة .. حتى مصادرتها ، واعتقال كادرها من قبل الأمن السياسي ، في أوائل أيار 1983 .
بمعنى أن إصدار " الحقيقة " الملتزمة في أوائل الثمانينات .. يتطلب جدياً من الجهة الماركسية ذات الصلة سابقاً .. أن تبادر الآن لتنشر.. لنقرأ .. مواضيع " الحقيقة" الملتزمة ، وطنياً ، وشعبياً ، وطبقياً وإنسانياً ، وديمقراطياً مرة أخرى .. وإن بأدوات أخرى