الحب والتعليم والعنف والملكية فى الأناركية


سامح سعيد عبود
2017 / 9 / 8 - 01:22     

الحب الحر والفكر الحر:
يدعم معظم الأناركيين الحريات المدنية التي توفر حقوقا فردية محددة مثل الحرية في قضايا الحب والجنس والزواج والأسرة. ولذلك في مثل هذا النشاط يتواجه الآناركيون مع مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية التي تحظى بحقوق وصلاحيات، وتتخذ اجراءات في مواجهة تلك الحريات. و يدافع الأناركيون عن حرية الحب والجنس...إلَّا أنَّه من نفس منطق الدفاع عن حرية الإنسان في التصرف في جسده، فعليهم أنْ يعادوا اتساقا مع هذا كل أشكال التجارة الجنسية، وكل أشكال البغاء، وكل أشكال العبودية الجنسية،وكل أشكال تسليع الجسد، وكل أشكال الاستغلال والقهر الجنسيين، وأن يعارضوا كل أشكال الاعتداء على الجسد من اغتصاب وتحرش وهتك عرض سواء بالعنف أو بالخداع..إلخ، سواء أكان المعتدي عليهم والمتاجر فيهم أطفالا أم بالغين، مع التشدد اللازم في حالة العناصر الأضعف، وخاصة الأطفال بالطبع.
طرح الأناركي الفردي الفرنسي أميل ارمان (1872-1962)، فضائل الحب الحر في الوسط الأناركي الباريسي في أوائل القرن 20، والحب الحر هو تيار مهم داخل الأناركية. وداعموا الحب الحر يتتبعون أحيانا جذورهم إلى يوشيا وارن والمجتمعات التجريبية التي أسسها، حيث كان ينظر للحرية الجنسية بوضوح كتعبير مباشر عن سيادة الفرد على جسده. ويقرر الأناركي بيتر ساباتيني أنَّه ظهر في الولايات المتحدة “من أوائل إلى منتصف القرن التاسع عشر، مجموعة من الكوميونات الخيالية “التي عرضت ثقافة مضادة (بما في ذلك ما يسمى حركة الحب الحر). ويشدد الحب الحر على حقوق المرأة لأن معظم القوانين المتعلقة بالجنس تمارس التمييز ضد المرأة لصالح الرجل.على سبيل المثال، قوانين الزواج، وتدابير الرقابة لتنظيم النسل، ومكافحة الإجهاض. ونشرت الصحافة الأناركية الرائدة في الولايات المتحدة في نهاية 19 وبداية القرن الـ20 دفاعا عن الحب الحر وحقوق المرأة، وانتقدت “الرقابة المفرطة على الفجور المفترض في الفنون باسم الاحتشام والرقابة على المعلومات الجنسية”. كما كان م. إ. عازر الأناركي الفردي الأمريكي الهام يروج للحب الحر.
في قرية جرينتش بمدينة نيويورك، دعت النسويات البوهيميات والاشتراكيات لتحقيق الذات، ومتعة النساء والرجال أيضا، هنا والآن..وتكررت النقاشات حول حرية الحب من قبل مجموعات النقاش بين سكان القرية التي نظمتها إيما غولدمان، من بين أمور أخرى. وأشار ماجنوس هيرشفيلد في عام 1923 أنَّ جولدمان قالت “لقد ناضلت بشجاعة وثبات من أجل حقوق الأفراد، وخصوصا بالنسبة لأولئك المحرومين من حقوقهم. وأنها كانت المرأة الأولى والوحيدة، والأمريكية الأولى فقط التي تولت الدفاع عن الحب المثلي الجنسي قبل عامة الناس”. في الواقع، قبل غولدمان، فإنَّ الأناركي غير المثلي روبرت ريتزل (1849-1898) تحدث بشكل إيجابي عن المثلية من بداية من تسعينات القرن 19 في خطابه في ديترويت في مجلة باللغة الألمانية دير أرمي تويفل ( باللغة العربية: بؤس الشر). وفي الأرجنتين، نشرت الأناركية النسوية فرجينيا بولتن صحيفة لافوز دي لا موهير (بالعربية: صوت المرأة)، والتي نشرت تسع مرات في روزاريو بين 8 يناير 1896 و1 يناير 1897، وأعيد إحياءها لفترة وجيزة، في عام 1901.
في أوروبا كان الداعية الرئيسي لحرية الحب الأناركي الفردي إميل أرماند. واقترح مفهوم الرفقة المحبة، وتحدث عن إمكانية اللقاء الجنسي الطوعي بين البالغين بالتراضي عند التحدث عن الحب الحر، وكان أيضا من دعاة تعددية الحب بالتراضي..والناشطين الشتيرنريين في ألمانيا أدولف براند وجون هنري ماكاي كانا رائدين في قبول الازدواجية الجنسية والمثلية الجنسية. وكانت منظمة موخيريس يبريس الأناركية النسائية في إسبانيا تهدف إلى تمكين نساء الطبقة العاملة من حرياتهن الجنسية. وقد تأسست في عام 1936 من قبل لوسيا سانشيز سارونيل، ومرسيدس كومابوسادا وأمبارو بوخ جاسكون، وكانت تضم ما يقرب من 30000 عضوة. وتقوم الهيئة على فكرة “صراع مزدوج” لتحرير المرأة والثورة الاجتماعية، وجادلن بأن الهدفين كانا على نفس القدر من الأهمية، وينبغي متابعتهما بشكل متواز. من أجل الحصول على الدعم المتبادل، وأنشأن شبكات النساء الأناركيات. كانت لوسيا سانشيز سارونيل المؤسسة الرئيسية للاتحاد الأناركي النسوي الإسباني، "موخيريس يبريس" معلنة عن سحاقيتها. وكانت قد نشرت مجموعة متنوعة من المقالات الأدبية باسم ذكر، وكانت بذلك قادرة على الكشف عن أفكارها المثلية في الوقت الذي كانت فيه المثلية مجرمة وتخضع للرقابة والعقاب.
في وقت لاحق في القرن العشرين، أصبح النمساوي الماركسي الفرويدي ويلهلم رايش داعية من أجل الحرية الجنسية، وفتح عيادات مجانية لتقديم المشورة الجنسية في فيينا للمرضى من الطبقة العاملة، وكذلك سك عبارة “الثورة الجنسية” في واحد من أهم كتبه خلال سبعينات القرن العشرين، واكتسب البريطاني الأناركي من دعاة السلام اليكس كومفورت شهرة أثناء الثورة الجنسية لكتابة دليل الكتب الجنسية الأكثر مبيعا “فرحة الجنس”. وقضية الحب الحر لديها معاملة مخصصة في أعمال الأناركي الفرنسي المتعوي الفيلسوف ميشال أونفراي.
التعليم الحر:
أنشأ الأناركي الكتالوني والمفكر الحر فرانسيسك فيرير آيْ جوراديا المدارس “الحديثة” أو التقدمية في برشلونة في تحد للنظام التعليمي الذي تسيطر عليه الكنيسة الكاثوليكية، وكان الهدف المعلن للمدارس هو”توعية الطبقة العاملة بمناهج عقلانية، علمانية وغير قسرية”. معادية بشدة للكهنوتية ورجال الدين، وفيرير كان يعتقد في “الحرية في التعليم”، والتعليم المتحرر من سلطة الكنيسة والدولة، وكتب موراي بوكتشن: “كانت هذه الفترة بدءا من تسعينات القرن 19، ذروة المدارس التحررية والمشاريع التربوية الأناركية في جميع المجالات في البلد الذي يمارس الأناركيون فيه القدر الأكبر من التأثير، ولعل الجهد الأكثر شهرة في هذا المجال هو مدرسة فرانسيسكو فيرير أو المدرسة الحديثة (ايسكويلا مودرن)، وهو المشروع الذي مارس تأثيرا كبيرا على التعليم الكتالوني، وعلى التقنيات التجريبية للتعليم عموما”.
تابع الأناركيون إنشاء المدارس الحديثة، والتي تسمى أيضا مدارس فيرير، التي كانت على غرار ايسكويلا مودرنا التي أسسها فرانسيسك فيرير، المربي الكاتالوني الأناركي. وكانت جزءا هاما من أنشطة الأناركيين في مصر حيث أنشأ الأناركيون الأوربيون في الإسكندرية في مصر أواخر القرن 19، مثل تلك المدارس.
تقوم مدارس فيرير على منهج التعليم العملي التعاوني الحر، وليس التعليم التلقيني والتنافسي كالتعليم الرسمي الحكومي، ويتم التعليم النظرى عبر الممارسة العملية، وعبر العمل اليدوي والذهني، وليس بشمل منفصل عنه، واتاحة حرية البحث والنقاش والتعاون بين الطلاب والمعلمين لتحصيل المعلومات والمهارات وتنمية القدرات والخبرات، وللتقييم الجماعي بعيدا عن المنافسة الفردية بين الطلاب، وتهدف المدارس لنشر الوعي الطبقي وإلى تثقيف الطبقات العاملة وتنمية مهارات العمال، من منظور علماني. وكانت الفصول الدراسية مقسمة خلال النهار للأطفال، وليلا لمحاضرات التعليم المستمر للبالغين. وقد تأسست أول وأبرز المدارس الأناركية الحديثة في الولايات المتحدة، في مدينة نيويورك في عام 1911، والتي تأسست من قبل أناركيين بارزين ولكنها انتقلت مرتين في أماكن أخرى، لأول مرة في مانهاتن السفلى، ثم إلى هارلم. وشمل أعضاء هيئة التدريس في مركز فيرير إلى جانب بيركمان وجولدمان، الرسامين من مدرسة أشكان روبرت هنري وجورج بيلوز، والمحاضرين الضيوف من الكتاب والناشطين السياسيين مثل مارجريت سانجر، وجاك لندن، وابتون سنكلير. وأشارت الطالبة ماجدة شونووتر، إلى أنَّ المدرسة تقوم على الحرية الأكاديمية، وتدرس المواد الدراسية المختلفة عبر ممارسة تحرير وتنفيذ الطلاب لمجلة المدرسة الحديثة التي بدأت في الأصل كرسالة إخبارية للآباء والأمهات، عندما كانت المدرسة في مدينة نيويورك، بدلا من تدريس المواد الثابتة، مثل الإملاء والحساب، وكانت تطبع بالمطبعة اليدوي المستخدمة في تعليم الطلاب مهنة الطباعة. وبعد انتقالها إلى مستعمرة ستيلتون، نيو جيرسي، توسع محتوى المجلة إلى الشعر والنثر والفن والمواد التعليمية التحررية.
فيما يتعلق بالتعليم عند الأناركي الإنجليزي ويليام جودوين فقد كان “الوسيلة الرئيسية التي يمكن من خلالها تحقيق التغيير”. حيث رأى جودوين أنَّ الهدف الرئيسي من التعليم يجب أنْ يكون تعزيز السعادة. فالتعليم لدى غودوين “احترام الحكم الذاتي والاستقلالية الذاتية للطفل الذي يمنع أيَّ شكل من أشكال الإكراه”،“والتربية يجب تحترم هذا، وتسعى إلى البناء على الدوافع والمبادرات الخاصة للطفل”، و”أعرب عن قلقه حول القدرة المعدومة للطفل على مقاومة الأيديولوجية التي تنتقل إليه عن طريق المدرسة”. في كتابه العدالة السياسية ينتقد التعليم الذي ترعاه الدولة “بسبب تحالفه الواضح مع الحكومة الوطنية”.
قدم الأناركي الأميركي الرائد يوشيا وارن الخبرات التعليمية البديلة في المجتمعات التحررية التي أسسها.
كتب ماكس شتيرنر في عام 1842 مقالا طويلا حول التعليم يسمى مبدأنا الزائف في التعليم لدينا. وأطلق شتيرنر على مبدئه التعليمي اسم “الشخصاني”، موضحا أنَّ فهم الذات يتكون في ساعة الخلق الذاتي. التعليم بالنسبة له هو خلق “البشر الأحرار، والشخصيات ذات السيادة”، والذي يقصد بها “شخصيات متجددة...الذين هم بالتالي متجددون، لأنهم يشكلون أنفسهم في كل لحظة”.
“شكلت لا ايسكويلا مودرنا، وأفكار فيرير عموما، مصدر إلهام لمجموعة من المدارس الحديثة في الولايات المتحدة وكوبا وأمريكا الجنوبية ولندن. وقد بدأت أولى هذه المدارس في مدينة نيويورك في عام 1911. وملهمة أيضا لصحيفة جامعة بوبولار الإيطالية، التي تأسست في عام 1901.
أنشأ الروائي الروسي الأناركي المسيحي ليو تولستوي مدرسة لأطفال الفلاحين في ضيعته. ولكن التجارب التعليمية لتولستوي لم تعش طويلا بسبب المضايقات التي سببتها الشرطة السرية القيصرية. ووضع تولستوي الفرق المفاهيمي بين التعليم والثقافة. وقال إنَّه يعتقد أنَّ“التعليم هو ميل رجل واحد لجعل آخر مثله تماما...التعليم هو ثقافة تحت ضبط النفس، أما الثقافة فحرة. [التعليم هو] عندما يكون التلميذ مجبر عليه، وعندما تكون التعليمات حصرية بإرادة المعلم، وهذا هو عندما يدرسون هذه المواضيع التي يعتبرها المربي ضرورية”. وبالنسبة له“دون إكراه ومعلومات حصرية وضبط نفس يتم تحويل التعليم إلى ثقافة”.
التقليد الليبرتارني الأكثر رواجا في الآونة الأخيرة عن التعليم هو اللامدرسية والمدرسة الحرة حيث يحل النشاط الذي يقوده الطفل محل النهج التربوي. وأدت التجارب في ألمانيا إلى تأسيس ما أصبح يسمى مدرسة سمرهيل في عام 1921. وسمرهيل كثيرا ما يستشهد بها كمثال على الأناركية في الممارسة العملية. ومع ذلك، على الرغم من أنَّ سمرهيل والمدارس التحررية الأخرى هي تحررية جذريا، فإنها تختلف من حيث المبدأ عن تلك التي كان فيرير يؤسسها على النهج القائم على الصراع الطبقي السياسي بشكل علني. بالإضافة إلى تنظيم المدارس وفقا للمبادئ التحررية، وشكك الأناركيون أيضا في مفهوم التعليم المدرسي في حد ذاته. وقد شاع مصطلح اللامدرسية من قبل إيفان إيليتش، الذي جادل بأن المدرسة كمؤسسة مخلة بتعليم تحديد الذات، وتخدم خلق مجتمع استهلاكي بدلا من ذلك.
العنف واللاعنف:
لا يوجد توافق بين الأناركيين، في الآراء بشأن شرعية أو فائدة العنف في النضال الثوري. على سبيل المثال، كتب ميخائيل باكونين وبيتر كروبوتكين، وإيما غولدمان وإريكو مالاتيستا، عن أنَّ العنف والقوة لازمة ومرغوب فيها في بعض الأحيان في ظل ظروف ثورية. في نفس الوقت، نددوا بأعمال الإرهاب الفردي(باكونين، “برنامج للإخوة الدولية” (1869) ومالاتيستا، “العنف كعامل اجتماعي” (1895)). وكان أناركيون آخرون مثل ليو تولستوي، ودوروثي داي، وكرمشاند غاندي من دعاة السلمية.
وغالبا ما يصوَّر الأناركيون بأنهم خطيرون وعنيفون، وربما يرجع ذلك إلى عدد من أعمال العنف رفيعة المستوى، بما في ذلك أعمال الشغب والاغتيالات والتمرد والإرهاب التي ارتكبها بعض الأناركيين، وكذلك تصويرهم السلبي بوسائل الإعلام باستمرار. ففي أواخر القرن الـ19 شجع الثوار أعمال العنف السياسي، ودعوا إلى“دعاية الفعل”، مثل التفجيرات والاغتيالات لرؤساء الدول لمزيد من الفوضى. ومع ذلك، فإنَّ المصطلح يشير أصلا إلى أشكال نموذجية من العمل المباشر من المفترض أنْ تلهم الجماهير إلى الثورة. فدعاية الفعل قد تكون عنيفة أو غير عنيفة.
بينما يتبنى كل الأناركيين معارضة العسكرية و (مناهضة الحرب)، ويعتبرونها ملازمة لفلسفتهم، فالأناركيون السلميون يأخذون هذا المبدأ أبعد من ذلك، بعقيدة تولستوي في المسالمة. على الرغم من أنَّ العديد من المبادرات ذات الصلة بالأناركية تمت بناء على تكتيك اللاعنف مثل جماعات "الأرض أولا"،"الغذاء وليس القنابل"، وما إلى ذلك، فكثير من الأناركيين يرفض السلمية كأيديولوجية، وبدلا من ذلك يدعمون “تنوع التكتيكات”. وقد نشرت الكثير من الكتب الهامة التي تنتقد المذهب السلمي، التي يعتبرونه غير فعال ومنافق، منها كتاب وارد تشرشل (مبدأ السلام مثل علم الأمراض، 1986)، وبيتر جيلد رلورس (فشل اللاعنف)، 2013 و(كيف يحمي اللاعنف الدولة، 2005). في مقال عام 2010، قال المؤلف راندال أمستر لتطوير “التكامل بين تكتيكات” دعاة السلام وجوانب الأناركية المسلحة.
ونتيجة لنظرة الأناركية النقدية لأنواع معينة من الملكية الخاصة، فكثير من الأناركيين يرى تدمير الممتلكات الخاصة والحكومية كشكل مقبول من العنف، أو يقولون إنَّه ليس كذلك، في الواقع. في استشهادها 1912 في مقال، “العمل المباشر”، أشارت فولتاريني دي كليري لبعض الأحداث التاريخية الأمريكية، بما في ذلك تدمير الطوابع على الواردات وحفلة شاي بوسطن، كدفاع عن مثل هذه الأنشطة.
يشارك عدد كبير من الأناركيين في المنظمات التخريبية كوسيلة لتقويض المؤسسة، مثل وسائل الإعلام البديلة، والمراكز الاجتماعية الجذرية. وهذا يتفق مع فكرة أناركية مفادها أنَّ الحكومات شريرة في جوهرها: ولذلك لابد من تدمير سلطة الحكومات حتى يمكننا الحفاظ على الحريات الفردية. وبعض المدارس الأناركية، من الناحية النظرية تعتمد مفهوم السلطة المزدوجة: خلق الهياكل البديلة من أجل مجتمع جديد غير سلطوي في وعاء المجتمع القديم الهرمي.
في اعتقادي أنك تستطيع أنْ تقول عن نفسك أناركي لاسلطوي ضد السلطة الهرمية ونظام الأوامر من أعلى والطاعة من أسفل، ومع حرية الناس في تحديد سلوكهم وخياراتهم بأنفسهم، لكن حينما تؤسس جيشا وتدخل في حرب مع جيش لا يلتزم بتلك المثل العليا، فلابد أنْ تتخلى عن كل حديثك الرائع عن الحرية الفردية. لأن الجيش مؤسسة بطبيعتها وفي جوهرها قمة السلطوية والمركزية والهرمية، وقائمة في جوهرها على طاعة من هم أسفل في الهرم لمن هم أعلى منهم، وهو منظمة قائمة على الانضباط الحديدي، الذي لا يسمح بأيِّ إهمال أو تهاون، وهذا معناه سلطة تحدد قواعد الانضباط وتراقب الالتزام بيه، وتعاقب على انتهاكه بحزم. هذا غير ضرورة سرية المعلومات، وضرورة محدودية الدوائر العليمة بها، وغيرها.
وفي الجيوش، والحروب المناقشات ووجهات النظر المختلفة مع القيادة ممنوعة، وفكرة الاستناد على رأى الأغلبية والاجماع والتوافق والتصويت على القرارات ليس لها محل من الإعراب عند اتخاذ القرارات.
وفي الجيش والحروب لابد أنْ تعتمد القيادة على جهاز أمن سري يراقب الجنود والضباط، حماية للجيش من اختراقات العدو والتجسس والتخريب، ويجمع معلومات عنهم مثلما تجمع معلومات عن العدو، ويستخدم في هذا كل الوسائل بصرف النظر عن أخلاقيتها من عدمها، جهاز لا يمكن أنْ يبقى خاضع لرقابة القاعدة التي يراقبها.
ومن ثم فالعسكرة والحرب متناقضة مع الفكرة الأناركية للتغيير الاجتماعي جذريا ولا تختلطان إلَّا في عقول المخابيل والمعاتيه، ومن ثم فالتغيير الاجتماعي وفق الرؤية الأناركية، والذي يتفق مع جوهرها يأخذ بوسائل ومسارات مختلفة عن الحرب والعسكرة، تدريجية وبطيئة، ومن أسفل، لكيْ لا تعيد إنتاج القمع والطبقية التي تنتجها الجيوش بطبيعتها.
يعارض معظم الأناركيين كل أشكال العدوان والعنف، ولكنهم يدعمون في نفس الوقت الدفاع عن النفس أو مبدأ اللاعنف (الأناركية السلمية)، في حين أنْ هناك أناركيين آخرين يدعمون ويستخدمون تدابير هجومية عنيفة، بما في ذلك المشاركة في الثورات العنيفة وأعمال الدعاية بالعمل، في طريقهم إلى المجتمع الأناركي.
أدين العنف من قبل معظم منظري الأناركية، رغم أنَّه لا يزال لا يوجد إجماع على شرعية أو فائدة العنف. وقد عارض بعض الأناركيين الإكراه، في حين أنَّ آخرين قد دعموا ذلك، ولا سيما في شكل ثورة عنيفة على الطريق المؤدي إلى الأناركية.
بعض الأناركيين شاركوا الأناركي المسيحي ليو تولستوي الاعتقاد في اللاعنف. وهؤلاء الأناركيين السلميين الذين يدعمون المقاومة اللاعنفية باعتبارها الطريقة الوحيدة لتحقيق ثورة أناركية حقا. إنَّهم كثيرا ما يرون أنَّ العنف هو أساس الحكم والإكراه ويجادلون، على هذا النحو، العنف غير شرعي، بغض النظر عن ما هو الهدف. حتى بعض أتباع الفرنسي برودون يرون الإضراب عملا قسريا، ويرفضون المشاركة في مثل هذه التكتيكات الاشتراكية التقليدية.
يدعم أناركيون آخرون وسائل مارشال روزنبرغ اللاعنفية التي تتعلق باحتياجات ومشاعر الناس باستخدام استراتيجيات الطلبات والملاحظات والتعاطف حتى توفير استخدام القوة الوقائية، في حين يرفضون السلمية كاستراتيجية مساومات من جهة اليسار التي تديم فقط العنف الأساسي.
رأى أناركيون آخرون، مثل ميخائيل باكونين وإريكو مالاتيستا العنف والقوة كشىء لازم ومرغوب فيه في بعض الأحيان. وأبدى ملاتيستا الرأي القائل أنَّه“من الضروري التدمير مع العنف، لأن المرء لا يمكن أنْ يفعل خلاف ذلك، مواجهة العنف الذي ينكر [وسائل الحياة والتنمية] للعمال” نوفا يومانتي، عدد 125، 6 سبتمبر 1921).
وكانت “دعاية الفعل” هذه لا تحظى بشعبية كبيرة بين الأناركيين، وكثيرون في الحركة أدانوا تكتيك قاتل الرئيس وليام ماكينلي، ليون كولغوش، الذي ادعى أنْه تلميذا لإيما جولدمان. وقد تنصلت جولدمان من الفعل (على الرغم من أنها لم تدن دوافع كولغوش في فعل ذلك).
ضمنت جولدمان في تعريفها للأناركية ملاحظة أنَّ جميع الحكومات تعيش على العنف، وهذا هو واحد من أسباب كثيرة ينبغي أنْ تكون معارضا لها. وجولدمان نفسها لم تعارض تكتيكات مثل الاغتيال حتى ذهبت إلى روسيا، حيث شهدت عنف الدولة الروسية والجيش الأحمر. ومنذ ذلك الحين أدانت استخدام الإرهاب، وخاصة من قبل الدولة. جولدمان، مع ذلك، دعمت معظم الأشكال أخرى من العنف الثوري طوال حياتها. و في نقاش مع المسالمين قبل خمس سنوات من وفاتها، ردت “...إنَّ قوة منظمة استخدمت ضد أتباع غاندي، والكثير من التضييق على غاندي، وأخيرا أجبرتهم على استخدام العنف”، وخلصت إلى أنَّ“...عدم المقاومة كوسيلة لمكافحة الظلم وعدم المساواة الاجتماعية المعقدة، لا يمكن أنْ يكون عاملا حاسما”. (كان عدم المقاومة عبارة عن اللاعنف التي استخدمه تولستوي وغيره من أوائل دعاة القرن الـ20). غولدمان في هذا الوقت كانت تعمل كضابط مخابرات للميليشيات الأناركية في الثورة الإسبانية، التي خاضت الكفاح المسلح.
ساعدت التصورات في الصحافة والخيال الشعبي على خلق الانطباع العام الدائم عن الأناركيين بأنهم إرهابيون عنيفون. وقد تعزز هذا التصور من خلال أحداث مثل مكافحة الشغب في هايماركت، حيث تم إلقاء اللوم على الأناركيين لرمي قنبلة على الشرطة التي ألقيت لتفريق اجتماع عام في شيكاغو.
وفي الآونة الأخيرة، شارك الأناركيون في احتجاجات ضد منظمة التجارة العالمية (WTO) وصندوق النقد الدولي (IMF) في جميع أنحاء العالم، التي وصفتها وسائل الإعلام بأنها عنيفة أو أعمال شغب. وكان عيد العمال في لندن أيضا يوم من المسيرات السلمية تقليديا، ولكن في السنوات الأخيرة، أخذت شرطة العاصمة في التحذير من أنَّ“المتشددين من الأناركيين” عازمون على التسبب في العنف. ويرد الأناركيون في الغالب أنَّ رجال الشرطة هم الذين يبدءون العنف في تلك المظاهرات، مع أنَّ الأناركيين غالبا ما يكونون سلميين خلاف ذلك، ويضطرون أحيانا للدفاع عن أنفسهم. ويشارك الأناركيون في مثل هذه الاحتجاجات وغالبا ما تتشكل الكتل السوداء، وبعض المشتركين في تدمير وتخريب الممتلكات، أو في صراعات عنيفة مع الشرطة، على الرغم من أنَّ الأناركين الآخرين يتمسكون بمبادئ اللاعنف.
المشاركون في بلاك بلوك يميزون بين “العنف”و”تدمير الممتلكات”: ويزعمون بأن العنف هو عندما يلحق الشخص الأذى البدني بشخص آخر، في حين أنَّ تدمير الممتلكات أو احداث أضرار في الممتلكات ليس عنفا، على الرغم من أنَّه يمكن أنْ يكون الضرر غير المباشر مثل الضرر المالي. ولا يرى بعض الأناركيين في تدمير الممتلكات بأنها أعمال عنيفة، كما يفعل معظم الناشطين الذين يؤمنون باللاعنف.
وأرى أنَّ موضوع العنف واللاعنف ليس خيارا عقليا، فالعنف الثوري أصلا في مواجهة الدولة كان يمكن أنْ ينجح في ظل ظرف تاريخي أصبح غير مواتٍ الآن، والاتجاه العام يشير لزيادة عبثية العنف، واستحالة نجاحه بمرور الوقت..الحل ليس في الاستيلاء على السلطة السياسية بل في إصابتها بالشلل، لأنَّ السياسة الدولتية القومية نفسها أصبحت أكثر ضيقا وضعفا وقلة حيلة في ظل ظروف العولمة الحالية...والحل في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من أسفل لامتلاك القوة المادية التي تجعل الجماهير أكثر قدرة على فرض إرادتها التحررية في مواجهة القوة المادية العنيفة التي تستند عليها السلطة السياسية للدولة والطبقات الحاكمة، لتكون قادرة على سحب البساط من تحت أقدام آلة قمع الدولة بجعلها غير مجدية وغير ذات قيمة في الصراع في مواجهة الملايين من الجماهير المتمردة، والرافضة لاستمرارها في الخضوع.
الفردية مقابل الجماعية:
في حين أنَّ بعض الأناركيين يفضلون الملكية الجماعية أو اللاملكية، فالبعض الآخر، مثل بعض الأناركيين الفرديين كما يلاحظ تاريخيا (على سبيل المثال، بنيامين تاكر وسبونر ليسندر) دعموا الملكية الخاصة. حيث يقول تاكر إنَّ الجماعية في الملكية سخيفة: “إنَّ هناك كيانا يعرف باسم المجتمع الذي هو المالك الشرعي لجميع الأراضي، والأناركيون الجماعيون ينكرون...الأنا...للحفاظ على“ المجتمع “ وهو كيان لا وجود له...“ وكان مصرا على وجه الخصوص في معارضته لـ”الشيوعية”، حتى لدرجة التأكيد على أنَّ أولئك الذين عارضوا الملكية الخاصة لم يكونوا أناركيين:“الأناركية هي كلمة من دون معنى، ما لم تتضمن حرية الفرد للسيطرة على إنتاجه أو ماحصل عليه من خلال التبادل في السوق- الحر، وهذه هيَ الملكية الخاصة. كل من ينكر الملكية الخاصة هو بالضرورة أركي أى“حكمي” أى عكس أناركى"لاحكمى". ومع ذلك، فإنَّ بعض من هؤلاء الفرديين يعارضون سندات ملكية الأراضي غير المستغلة.
يرفض بعض الأناركيين الشيوعيين والجمعيين كذلك “الفردية”و”الجماعية” باعتبارها مفاهيم وهمية. وهم يجادلون بأن تضحية الأفراد بأنفسهم من أجل المجتمع “الأكبر” أو كون الفرد محكوم بـ”المجتمع” ممكنة لأن المجتمع يتكون من الأفراد بدلا من أنْ يكون وحدة متماسكة منفصلة عن الفرد، ويقولون بأن الرقابة الجماعية على الفرد استبدادية وسلطوية. وأخرون، مثل لوسيان فان دير والت ومايكل شميدت، يقولون إنَّ: “الأناركيين لم يعرفوا الحرية بحق كل فرد أنْ يفعل بالضبط ما يسره ويتمناه لكن بالنظام الاجتماعي الذي هو جهد ومسؤوليات جماعية، وبهذا القول يمكن القول بأن الالتزامات الجماعية من شأنها أنْ توفر الأساس المادي والعلاقة الاجتماعية التي يمكن أنْ توجد فيها الحرية الفردية”. وإنَّ“الحرية الحقيقية والفردية لا يمكن أنْ توجد إلَّا في مجتمع حر” وذلك على النقيض من:“الفردية البرجوازية كارهة البشر”، تجد الأناركية أساسها في:“الحب العميق للحرية، التي تفهم على أنها نتاج اجتماعي، واحترام عميق لحقوق الإنسان، واحتفال عميق بالبشرية وإمكاناتها، والالتزام بشكل من أشكال المجتمع حيث “الفردانية الحقيقية” ترتبط بصورة لا رجعة فيها ب“الاجتماعية الشيوعية الأعلى”.
ومع ذلك فالمواقف الفلسفية الأنانية مهمة في الأناركية التمردية الشيوعية. فقد دعا في أوائل القرن العشرين الأناركي الفردي الإيطالي رينزو نوفاتوري إلى كل من الثورة والأناركية الشيوعية عندما قال: “الثورة هي نار إرادتنا والحاجة لعقولنا الفردية، بل هيَ واجب الأرستقراطية التحررية،لخلق قيم أخلاقية جديدة،لخلق قيم جمالية جديدة”...ومن المواقف الشتيرنية المعروفة أنَّه لا يحترم الملكية الخاصة أيضا عندما قال “إنَّ الثروة الأخلاقية والروحية فقط هيَ التي لا يجب تعريضها للخطر، وهذه هيَ الملكية الحقيقية للأفراد، والباقي من الأشياء لا! فالباقي معرض للخطر! وهو كل ما سيتم انتهاكه!” ويمكن أيضا أنْ ينظر إلى هذا في كتابات الأناركية التمردية المعاصرة، كما يمكن أنْ يرى في عمل وولف لاندستريرشر، وألفريدو بونانو وغيرهم. بعض أناركييِّ ما بعد اليسار والأناركيون الشيوعيون بوب بلاك، بعد تحليل رأي الأناركي الشيوعي لويجي جالينللي في الأناركية الشيوعية، ذهب إلى حد القول إنَّ“الشيوعية هيَ إشباعٌ نهائيٌ للفردية، والتناقض الواضح بين الفردية والشيوعية يقع بسبب سوء الفهم على حد سواء، فالذات هي أيضا الموضوع.. إنَّ الفرد الحقيقي هو الموضوعي. من غير المنطقي الحديث عن “تحديد الأولويات الاجتماعية بشكل قاطع على الفرد، يمكنك التحدث وكذلك تحديد أولويات الدجاج على البيض. الأناركية هيَ“طريقة الفردية”. وتهدف إلى الجمع بين أعظم تطور للفرد مع أكبر وحدة جماعية”.
في مقال ل ماكس باجينسكي يسمى “شتيرنر: الأنا وملكه” الذي نشر في المجلة الأناركية الأمريكية “الأرض الأم” هناك التأكيد التالي “الشيوعيون الحديثون هم أكثر فردية من شتيرنر، فبالنسبة لهم ليس مجرد الدين والأخلاق والأسرة والدولة هي الأشباح والأوهام في العقل، ولكن الملكية هيَ أيضا ليست أكثر من شبح و وهم، باسمها يصبح الفرد عبدا مثل المستعبدين! تقيد الملكية الفردانية في الوقت الحاضر بروابط أقوى كثيرا من القوة المشتركة للدولة والدين والأخلاق، فالشرط الأول هو أنَّ الفرد لا ينبغي أنْ يكون مضطرا إلى إذلال وبيع نفسه من أجل الملكية، والعيش. وبالتالي الشيوعية تخلق أساسا للحرية وخصوصية للفرد. أنا شيوعي لأنني فردي. تماما كما يتفق الشيوعيون بحرارة مع شتيرنر عندما يضع كلمة خذ بدلا من أطلب التي سوف تؤدي إلى انحلال الملكية الخاصة، إلى المصادرة. وبذلك تسير الفردانية والشيوعية جنبا إلى جنب”.
يخالف الشيوعيون الأناركيون المفهوم الرأسمالي بأن الملكية الجماعية لا يمكن الحفاظ عليها إلَّا بالقوة، وأن مثل هذا الوضع ليس ثابتا في الطبيعة ولا غير قابل للتغيير في الممارسة، مستشهدين بالعديد من الأمثلة على السلوكيات الكوميونية التي تحدث بشكل طبيعي حتى داخل الأنظمة الرأسمالية. ويدعو الأناركيون الشيوعيون إلى إلغاء الملكية الخاصة مع الحفاظ على احترام الحيازة الشخصية. وكتب الأناركي الشيوعي ألكسندر بيركمان البارز أنَّ“الثورة سوف تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتوزيع، ومعها يذهب نموذج الأعمال الرأسمالية، إذ لا تزال الحيازة الشخصية فقط في الأشياء التي يتم استخدامها. وهكذا، ساعتك لنفسك، لكن مصنع الساعات ملك للشعب. الأرض، والآلات، وجميع المرافق العامة الأخرى ستكون ملكية جماعية، لا يمكن شراؤها ولا بيعها. ويعتبر الاستخدام الفعلي هو الحق الوحيد باعتباره حيازة. منظمة لعمال مناجم الفحم، على سبيل المثال، سوف تكون مسؤولة عن مناجم الفحم، ولكن لن يكون العمال كمالكين للمناجم، ولكن باعتبارهم وكالة تشغيل. وبالمثل فإنَّ منظمات السكك الحديدية سوف تقوم بتشغيل خطوط السكك الحديدية، وهلم جرا. والحيازة الجماعية سوف تدار بشكل تعاوني في مصلحة المجتمع، وسوف تحل محل الملكية الخاصة التي يديرها القطاع الخاص من أجل الربح”.