السلطة و الهوية


محمد فيصل يغان
2017 / 8 / 29 - 13:27     

السلطة هي مصدر الهوية، هي التي تمنح أو تصادر هذه الهوية من الأفراد. و الهوية السلطوية هذه هي الهوية الفعلية القائمة في الواقع، و السلطة تمارس و في كل الأحوال من قبل الجماعة، و كما يقول ميشال فوكو ( السلطة في كل مكان و من كل اتجاه) بمعنى أنها الهوية. و هنا لا بد من ملاحظة أن السلطة الممارسة أفقيا هي في الغالب ما بين أفراد، فالمشاعة متذرية، لا وجود لتقسيمات فرعية، حتى العائلة تكون حدودها غير واضحة ، و تشكٌل كيانات و مؤسسات فرعية تمارس السلطة أفقيا يظهر كنقيض لظهور السلطة العامودية المركزة بيد فئة (تتحول لاحقا الى مؤسسة بشكل دائم) و تكون الآخر بالنسبة للفئات الاخرى، الآخر الذي يحظى بأحقية أعلى في الحياة، هكذا تظهر الهويات الجامعة و تلك الفرعية في المجتمع، و في غياب السلطة العامودية في المشاعة لا ضرورة لتشكيلات السلطة الأفقية التي تسترجع وضع المشاعة الأمثل، أي سلطة من أعلى بدون إكراه و انتماء طوعي من أسفل.
السلطة في المشاعة حالة قائمة ما بين الأب و الإبن، الزوج و زوجه، الرفيق و رفيقه، الجار و جاره، باختصار هي الهوية، حتى في الغياب المادي للفرد فإن سلطته تبقى بشكل ما قائمة، و تصبح جزءا من امتداد الهوية الزماني و جزءا من الاسطورة المؤسسسة للهوية، فهي إرادة هذا الغائب و هي جزء من إرادة الجماعة بالتالي فهي مشرعة من قبل الجماعة و من قبل الطبيعة المادية و الاجتماعية، و يمكن للغياب المادي لصاحب السلطة/الإرادة أن يمنح إرادته صفة القدسية و المرجعية، فغيابه عن المشاعة يقربه الى العالم الآخر السحري و الغامض حيث تقطن القوى صاحبة السلطة في الطبيعة و من هنا الطبيعة الأسطورية التي ذكرناها.
الهوية كونها سلطة، فالهوية المثالية هي التي تفرضها الجماعة دون الحاجة الى القسر و الاكراه لكون الفرد يتقبلها طوعا. بذلك يكون الانتماء الفعلي للفرد للهوية (الجماعة) التي يشعر بأنها تمنحه الاحقية الأقصى في الحياة بمقابل الآخرين و تؤمن له هذه الأحقية
إن الهوية قد أعجزت بتعدد وجوهها و تجلياتها الفلاسفة و علماء النفس و الاجتماع عن صياغة مفهوم جامع و محدد لها، فقد اقتصرت محاولاتهم لفهمها و دراستها على تقديم نماذج مثالية مجتزاه لأغراض تبريرية أيديولوجية أو غايات بيداغوجية. فالفهم الأقرب للصحة للهوية لا يتحقق دون استقصاء طبيعتها السلطوية الناتجة عن تقاطعات الممارسات السلطوية داخل المجتمع عموديا و أفقيا في ذوات الأفراد. و مستويات التقاطع هذه بتعددها تنعكس بتعدد شكلي للهوية من فردية الى ثقافية الى سياسية إلخ.
اطلاق الاسم على الاشياء وسيلة للتحكم بها، في الغيبيات كما في الواقع، فنحن نطلق الاسماء على الماهيات الغيبية كي نستحضرها أو نتحكم بها من خلال الاسم، و كذا في الواقع، نطلق الاسماء على ابنائنا و على حيواناتنا الأليفة و على ممتلكاتنا المادية كوسيلة للتحكم بها. الاسم هو تحديد للاشياء، رسم لحدود هويتها، هو شكل من أشكال السلطة و وسيلة من وسائل فرضها، أي أن هوية الكائن بكليتها هي السلطة الكلية الممارسة عليه بكليتها و أزمة الهوية هي انعكاس لأزمة مع شكل أو عنصر من عناصر السلطة المفروضة من الخارج. و السلطة لا يفرضها الا كيان ذو وعي سواء فرد أو جماعة بشرية يمارس دور الآخر في العلاقة الجدلية مع الذات المعرفة بهويتها. إن جوهر الموجودات جميعا هو الفعل، و عند حضور آخر يحضر معه فعله و نستشعر هذا الفعل كعنصر سلطة مهما كان شكل هذا الفعل فعند انتقاله للذات المستقبلة يتمظهر على شكل عنصر سلطة (كم الفعل الفيزيائي مثلا يترجم عند تلقيه اما الى كم حركة أو كم طاقة)، بالنتيجة إن مجرد وجود الآخر في مجال وعينا (ماديا أو كفكرة) يمارس علينا سلطة و يساهم في رسم حدود هويتنا، خلاصة القول أن هويتنا هي السلطة الممارسة علينا.
إن الاجتماع البشري، أي دخول الفرد في علاقة مع أفراد آخرين يفقده بدرجة أو أخرى فردانيته و استقلاله و حريته. يصبح الفرد ليس من وجهة نظر الآخرين فحسب، بل من وجهة نظره هو لذاته جزءا من كل، أي أن هويته تتحدد بموضعه في الكل فكما ذكرنا لا معنى للهوية بدون حضور للآخرين، فاذا كنت تملك هوية فأنت إذن واقع تحت سلطة. بالهوية انت معرف و مصنف ومحدد، و انت تنصاع تلقائيا و تتصرف طبقا لهذه الهوية، أي طبقا لرغبة السلطة المفروضة عليك. دخول الفرد في هذه العلاقة السلطوية مع الآخرين هو متطلب للبقاء أولا و متطلب لتجاوز الحالة الحيوانية إلى حالة الانسانية ثانيا، (كل ما يميز الانسان من قدرات الوعي هي نتاج الكل و يمتلكها فقط حين يكون جزءا من هذا الكل: فكونه جزء من كل يكسبه بعدا جديدا يتجاوز ذاته كفرد، يكسبه هوية انسانية و وعيا). من هذا المنطلق، تبدو الهوية على أنها تحجيم و اختزال للفرد من قبل السلطة. بمعنى أن السلطة قد فرضت شكلا وجوديا واحدا على الفرد رغم استعداده أنطولوجيا لتقمص أيا من سلسلة لا متناهية من الهويات الممكنة. إلا أن هذه النظرة الى الهوية و كأنها نقيض لحرية الفرد و اجتزاء لإمكاناته الانسانية ما كان لها أن تُطرح في مجتمع سليم. ففي الحالة المثالية و حين تكون السلطة شرعية تماما، أي ملك للكل، و الانصياع لها طوعي من قبل الأفراد بلا حاجة لقمع و/أو إكراه، يكون الفرد في تناغم مع الجماعة و ذاته في تناغم مع هويته. في هذه الحالة المثالية لا يُطرح سؤال الهوية، فهي معرفة ايجابا، من الداخل كما من الخارج، و ليس هناك آخر مختلف ليطرح تعريفا سالبا لهذه الهوية من الخارج. أما في ظل مجتمع اغتصبت فيه السلطة و زوٌرت فيه إرادة الجماعة و تم تنميط الأفراد في مجموعات و هويات فرعية (طبقة، طائفة، جنس)، أي عند ظهور الآخر و غياب التناغم الذي كان يشكل لحمة المشاعة و يحل بدلا منه القمع و يغيب تناغم الذات (الهوية من الداخل) مع الهوية النمط المفروضة من الخارج و يحل بدلا منه الإكراه تنشأ أزمة الهوية على المستوى الفردي و الجماعي.
إذن السلطة ضرورة و لا بد منها لبقاء و تطور المجتمع على أن تكون شرعية، و هي كذلك في المشاعة. و في الحالة المثالية للسلطة كاملة الشرعية لا حاجة للقدرة على ممارسة القوة، فالسلطة حسب الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان هي "حق الحكم وفرض الأوامر من جانب الحاكم، وواجب الطاعة والخضوع له من جانب المحكومين" أي لا حاجة لإكراه. و كلما ابتعدنا عن الحالة المثالية للسلطة (الشرعية) ظهرت الحاجة لممارسة القوة و الإكراه باضطراد لنصرة إرادة على أخرى و نصرة هوية على أخرى.
السلطة كونها مستقلة عن إرادة الأفراد، و من طبيعتها الحلولية الغامضة على الوعي البدائي، تنبع صفة القدسية التي نصبغها على السلطة و على شرعيتها النابعة من مصدر مفارق لا قدرة لنا على مجابهة (رغباته) و (إرادته)، و هكذا يكون الانصياع للسلطة هو (الحق و الحقيقة) و هو (الخير) و معارضة السلطة تصبح (غيا و تزويرا) و هي (الشر)، و من هنا صراع الهويات الفرعية الطاحن أليس معنى كلمة شيطان في اللغات السامية القديمة هو المعارض؟ ثم ألا تتقاطع في اللغة معاني السلطة و المرجعية و الشرعية؟ من هنا أيضا أهمية الشرعية للجهة الممارسة للسلطة، فالسلطات قد تمارس غصبا و على أساس شرعيات هشة سرعان ما تنفضح فتنهار الجهة الممارسة للسلطة و تندثر. هذا بالأخص في حالة ممارسة السلطة بناء على شرعية يدعي امتلاكها الأفراد ذوي الهيمنة بصفتهم الفردية، أو المؤسسات التي لا تملك بالواقع جذورا ممتدة في مصدر الشرعية، أي الأصل المقدس أو تجلياته الدينية.
إذن سؤال الهوية أو أزمة الهوية تطرح بقوة وغالبا بعنف حين تنحرف السلطة عن شرعيتها الطبيعية، و تمارس القوة لفرض التنميط على الأفراد، أي إعادة تشكيل هوياتهم بما يتناسب مع إعادة توزيع حقوق سلطوية مجتزأه لصالح الفئة المهيمنة و الغاصبة للشرعية و فرض حالة الاغتراب عليهم كتناقض في الهوية. إن السلطة في المجتمع المثالي لا تفرض التنميط، بل تتيح التعدد الطبيعي، أي ما يتلاءم مع طبيعة الجماعة كظاهرة طبيعية تحكمها قوانين طبيعية. و هذه الملاحظة تطرح بالضرورة سؤال الحرية، و فيما إذا كانت الحرية تشتمل على حرية خرق قوانين الطبيعة و بالتالي تعريض الظاهرة الطبيعية (ظاهرة الجماعة البشرية) و وجودها للخطر. و الجواب بإيجاز هو أن هذا السؤال لا يمكن له أن يطرح في المجتمع المثالي و لا أن يخطر على بال أفراد هذا المجتمع، هذا السؤال تماما كسؤال الهوية، لا يطرح الا في حالة المجتمع المُأزم و الذي اغتصبت فيه السلطة من شرعيتها الطبيعية. أما في المشاعة فهي فعلا مصدر الشرعية، و السلطة كمؤسسة تتمظهر بشكل مادي كمؤسسة مؤقتا فقط و لحين انجاز مهمة تقررها المشاعة ثم تعود و تذوب في جسد المشاعة بعد انتهاء المهمة، و بالتالي لا ضرورة لهويات فرعية، و تبقى السلطة المفوضة على المستوى الفردي و ممارستها اليومية مصدر حركة الجماعة. و هذه هي الحالة التي تخص المجتمع الشيوعي المثالي و الذي يبشر به الشيوعيون، أي مجتمع بلا دولة بصفتها مؤسسة سلطوية دائمة. و على هذا المحور تدور كل أدبيات فكر الثورة عموما و الشيوعية خاصة، فهي تنطلق من حقيقة أن الشرعية قد سلخت عن مصدرها و مالكها الطبيعي (الجماعة) نتيجة ظهور تقسيم العمل و الملكية الخاصة و ما يتبعهما من صراع داخلي (للهيمنة) و الاستحواذ على كل الموارد بما فيها السلطة، هكذا نرى عبر التاريخ أن السلطة انتقلت من كونها حق طبيعي للجماعة البشرية ينصاع لها الجميع طوعا، الى حق حصري لفئة أو طبقة تفرضها على الجميع بالقوة و قسرا مما أدى لظهور الهويات الفرعية و صراعها المرير على حق الحياة.
أما الهيمنة فهي تماما ما يقصده انطونيو غرامشي، أي كسب اعتراف طبقات المجتمع المستغَلة و المضطهَدة (مصدر الشرعية كونها المنتجة لوسائل الحياة) للطبقة العاملة (هوية فرعية) بدورها القيادي و التمثيلي و تفويضها في ممارسة الحقوق التي تمليها هذه الشرعية. أي أن الخطوة الأولى هي فضح لا شرعية الدولة القائمة و المستفيدين منها، أما الخطوة الثانية فهي السيطرة على مصادر القوة و ممارستها ضد الطبقات (الهويات) المعارضة في الفترة الانتقالية أو ما يسمى بدكتاتورية البروليتاريا إلى حين تثبيت مجتمع لا طبقي تختفي فيه الدولة كشكل مادي دائم لتمظهر السلطة و لا تعود للظهور الا تحت أشكال مؤقتة مرتبطة بمهمة ما و بذلك تختفي الهويات الفرعية (حتى العائلة) و يعود الأفراد للذوبان في المشاعة الأم.