جدل الوعي و الطبيعة


محمد فيصل يغان
2017 / 8 / 28 - 15:05     

جدل الوعي و الطبيعة
منتهى التجريد هو الوجود و التحول.الوعي يلحظ أن وجود الضد شرط ضروري و كافي للوجود فيصوغ هذا الشرط بصيغة قانون للوجود (وحدة الاضداد)/الوعي يلحظ آلية تحول الموجود من حال الى نقيضه فيصوغ هذه الآلية كقانون حركة عامة باعتبار الشروط الضرورية و الكافية لحتمية انطباق الآلية و حصول الحركة.الوعي يلحظ آلية للتحول مقتضاها أن التغيرات الكمية تؤدي لتغيرات نوعية و يصوغ هذه الآلية بصيغة قانون تحول باعتبار الشروط الضرورية و الكافية لحتمية انطباق الآلية و حصول التحول-التغير النوعي.الوعي يلحظ آلية لتطور الانظمة الحية و انتقالها من طور الى طور لا يعود فيه الضد شرطا ضروريا و كافيا للوجود فينتفي الوجود القديم لصالح وجود جديد يتحد في الاضداد هنا أيضا يجتهد ليصوغ هذه الآلية بصيغة قانون تطور باعتبار الشروط الضرورية و الكافية لحتمية انطباق الآلية و حصول التطور-تحقق النتيجة.شرط الوجود وآليات التحول و العلاقات الضرورية بين الموجودات يلاحظها الوعي في الطبيعة و إذا ما تبنى الوعي هذه الملاحظات و افترض عموميتها في الطبيعة فيكون الديالكتيك منهجا يسعى حسب المستطاع ليصنف ملاحظاته بخانة القوانين الطبيعية. و ان شملنا النشاط البشري الواعي كعامل فاعل في عمليات التحول في الطبيعة بقيت هذه القوانين صالحة و فاعلة، فالبشر هم جزء من الطبيعة و نتاج لها، و طبيعة البشر الواعية اصلها ايضا من الطبيعة. قوانين الطبيعة الحاكمة لظواهرها مطلقة و تتفعل عند اكتمال شروط انطباقها بشكل حتمي و تتحقق الظاهرة المعنية، و عمليات تحقيق الظاهرة تتم من خلال انظمة طبيعية تتألف من عناصر مادية و من القوانين المحققة للظاهرة الناتجة عن العملية و ايضا شروط انطباق و تفعيل القوانين.
النظام الطبيعي المادي (بغياب الوعي البشري - الغير اجتماعي) له وجوده المزدوج المادي و القوانين التي تحكم علاقات اجزاء هذا النظام ببعضها البعض و التي تمثل السلطة التي تحكم و تجعل من هذا النظام نظاما له خواصه و صفاته المتميزة عن الانظمة الاخرى. القوانين هي بمثابة سلطة مادية طبيعية يفرضها الوجود بكليته من فوق و تنصاع الأجزاء دون ادنى مقاومة، الطبيعة لا تقمع اجزاءها لأن قوانينها لا تنطبق الا بتوافر الشروط الضرورية و الكافية لانطباقها، و ان شئنا التشبيه و افترضنا وعيا كليا للطبيعة (او لنظام طبيعي معزول عن باقي الطبيعة) نجده متجانسا تماما مع وعي اجزائها، الكل لا يفرض على الجزء ما لا يرضاه، فسلطة الكل مركب متجانس مبني على تفويض الاجزاء، تفويض و تجانس نابعان من طبيعة التراكب العضوي لأجزاء النظام، هذه السلطة هي (روح) النظام المعني و شرط وجوده. و نقصد بالتراكب العضوي عدم امكانية اختزال النظام الى مجموع اجزائه المتكونة فللنظام ماهية تختلف نوعيا عن ماهيات الاجزاء، و النظام هو حصول كيف جديد من تراكب كمي.
هدف الطبيعة كما نستخلصه من علومها هو الوصول الى أقصى حالات التوازن، فكلما اختل التوازن القائم ما بين مفاعيل نظام طبيعي معزول سواء بطفرة من الداخل أو بتأثير من الخارج تجاوز اطار عزل النظام، و تحققت شروط انطباق قوانين التحول الطبيعية، انتقل النظام حسب ما تحدده هذه القوانين الى حالة جديدة من التوازن، أي أن سلطة الطبيعة المستترة في حالة التوازن تتشخص ماديا و تفعل في النظام ذو التوازن القلق و تعود لتستتر بعد بلوغ التوازن الجديد.
هذا النموذج على بساطته و اختزاليته، كافٍ لتوضيح الفكرة التي نحاول عرضها هنا و ابراز العناصر الرئيسية المكونة و علاقة هذه العناصر فيما بينها و علاقتها بالكل عند انتقالنا لبحث الأنظمة الاجتماعية (انظمة طبيعية الوعي البشري فيها مكون فاعل).
تبدو العناصر المادية و القوانين و كأنها عناصر داخلية اصيلة للظاهرة المتحققة (النظام بحالة ديناميكية) في حين تبدو شروط التحقق و كأنها طارئة من الخارج، و هو تناقض يحل نفسه بتشكل النظام الطبيعي المسؤول عن انتاج الظاهرة – الانتقال الى توازن شبه ستاتيكي جديد ، نظام بتركيبته العضوية يمثل اكثر من اجزائه، فالعناصر المادية و قوانين الظاهرة و الشروط المادية لتحققها في كل واحد يمثل هوية النظام بابعاده الداخلية و امتداداته الخارجية.
هكذا تكون عمليات النشاط الاجتماعي للبشر بما فيه النشاط الاقتصادي، اي انتاج البنية التحتية المادية للمجتمع، عمليات طبيعية تستوعبها هذه القوانين بصيغتها المادية التاريخية. و عند لحظة ظهور الوعي الذي يميز هذه النشاطات عن باقي نشاطات الطبيعة، يعاد تشكيل النظام الطبيعي للانتاج بما يضمن استبطان اثر هذا الوعي في عملية الانتاج كجزء عضوي كباقي الشروط الطبيعية، فالوعي يترجم نهاية الى فعل، و الفعل هو من نطاق الطبيعة و محكوم بقوانينها.
الظاهرة الاجتماعية لا تخضع لقوانين كلية كما تحب المثالية ان تدعي، و تتوصل بالتالي الى حتمية تطور المجتمع البشري لتحقيق غاية محددة من ارادة أعلى من الواقع المادي، الظاهرة الاجتماعية ليست محكومة بحتمية كلية، الظاهرة الاجتماعية مفتوحة على الاحتمالات في الكلي و تخضع لقوانين الطبيعة و حتمياتها في الجزئيات، و هنا يتفعل دور وعي و ارادة الانسان بصفتهما جزء من عناصر النظام، من خلال التوظيف الواعي لهذه الحتميات في القضايا الجزئية بهدف تحقيق احتمال محدد في القضايا الكلية. و سنقدم المزيد من الملاحظات حول هذه النقطة عند تقديمنا لمفهوم الوعي.
في الطبيعة لا يوجد خلق من عدم. قوانين حفظ المادة و الطاقة غير قابلة للتعطيل و كل العمليات الطبيعية هي تحويل المادة و او الطاقة من شكل الى شكل آخر. اي ان الكم ثابت و الكيف متغير فالتوازن يعتمد على الكيف. اذن عندما تخلق الطبيعة القدرة الجديدة لقطعة حجر من خلال عوامل الحت الطبيعية و تجعل له طرفا حادا قادر على تقطيع الفريسة لم تضف كما، بل حولت كم الى كم جديد مختلف بكيف جديد. و القيمة هي حكم الوعي على الكيف، و المتفق عليه ان الاشياء (من وجهة نظر الوعي البشري) لا تكون ذات قيمة الا اذا كانت ذات فائدة استعمالية يكتشفها الوعي البشري في طيات الكيف الجديد. ان عمل الانسان في تحضير التربة و زرع البذور و رعايتها، لإكثار كم الثمار الاضافية التي تنتجها التربة ليس خلق من عدم، فهي عمليات طبيعية أو تحولات لأنظمة طبيعية من حالة كيفية الى أخرى، توظيف واعي لقوانين الطبيعة و حتمياتها في جزئيات تؤدي لغاية في الكلي. هذه التحولات هي زيادة في قدرة التربة و العناصر المتداخلة معها على تحويل قيم متدنية الى قيم جديدة عالية من منظور الوعي البشري، عناصر اصبحت الآن جزءا لا يتميز عن نظام انتاج جديد يتمثل بالحديقة. لا بد هنا من توضيح أن القيمة و ان كانت مفهوما بشريا انتجه الوعي البشري، الا أنه مرتبط و مبني على وجود مادي واقعي، فالقيمة كمفهوم مشتقة من خواص الجسم المادية، و خلق القيمة لا يعني خلق مادة، بل تحويل تركيبة المادة لاظهار خواص جديدة يسبغ عليها الوعي صفة القيمة الجديدة، أي اعادة تشكيل المادة بشكل يمنحها قدرة جديدة لم تكن موجودة اصلا. هكذا يجب فهم مصطلح (خلق القيمة) و هذا هو المعنى الذي نتبناه في القادم من فصول الكتاب. و هذا الفهم يختلف جذريا كما سنرى عن الفهم الذي يقدمه لنا ماركس و المبني على (حجم العمل المتخثر في المنتج) أي الجانب الميت، بل بالجانب الحي و المتمثل بالقدرة على اشباع حاجة حيث يرى ماركس القيمة و كأنها من خارج الطبيعة و أشبه بالروح خالقها هو العامل. (خلال تحويل العمل المنتج لمدخلات الانتاج الى مقومات للمنتج الجديد، قيمة هذه المدخلات تمر بحالة تقمص، حيث تغادر الجسد المستهلك لتحل في الجسد المخلوق حديثا)
هناك دائما في العمليات الطبيعية تضحية بجزء من القدرات المتوفرة بداية من خلال بذلها كي تتحول الى قدرة جديدة، قيمة جديدة يقيمها الوعي البشري باعلى من تقييمه للقدرات الداخلة. لقد تبرعت الطبيعة بجزء من قدرات عواملها على الحت و بجزء من قدرات قطعة الحجر (وزنه مثلا و قدرته على الطحن) لتصنع اداة للقطع و الانسان البدائي قيم كل العملية ايجابيا و رأى ان قيمة الطبيعة قد ازدادت. التغير النوعي يعني أن من وجهة نظر الناتج، لا معنى هناك للعناصر الداخلة في تأليفه بمعزل عن بعضها البعض، و هي تعني شيئا فقط من خلال العلاقات العضوية القائمة في ما بينها بصفتها جزء من الكل الناتج و التي تمنحه سماته و قدراته الخاصة به. اي ان نظام الانتاج هو نظام مركب عضويا، فهو قد اكتسب وجوده ككيان مستقل عن اصوله، مثلما يستقل الجنين كمشروع بشري جديد يتجاوز ما حملته البويضة و الحيوان المنوي، هذه هي الحياة ضمن الطبيعة، الانتقال من كيف الى كيف.
قوانين الطبيعة تهدف لتحقيق التوازن فيها و الطبيعة تبحث عن التوازن إن لم يكن على المقاييس الكونية أو التحت ذرية، فعلى الأقل ضمن المقاييس الزمانية و المكانية التي تحكم حياتنا اليومية إذ تدفع الطبيعة بالمتغيرات بشكل يحقق هذا التوازن و ديمومة الحالة. أما وعي الانسان فهو يهدف بالغالب الاعم لتعميق عدم التوازن أو كسر التوازن و تركيز طبيعة معينة في زمان و مكان معين الى درجة ترضي حاجته، و يخلق وضعا توازنه نسبي يعتمد استمراره على التدخل المستمر من الخارج، و ضعا مشحونا بطاقة اضافية. فالجاذبية مثلا تنزع لاسقاط الاجسام نحو مركز الجاذبية في حين البشري الواعي يرغب في رفع سقف منزله عن الارض و ابقائه معلقا، كما أننا ننقل الطاقة الحرارية من البارد الى الساخن من خلال اجهزة التكييف الحديثة على عكس مسار الطاقة الطبيعي، علاقة جدلية متواصلة ما بين فعل الوعي في الطبيعة من خلال قوانينها و فعل الطبيعة في الوعي من خلال قوانينها الخاصة بفعل الوعي. الوعي يوظف قوى الطبيعة بعضها ضد البعض الآخر و ينتصر.
الطبيعة بسعيها للتوازن تمر في تحولات تؤدي الى زيادة درجة تعقدها كنيتجة لقوانين المادية الجدلية (و الانتروبيا)، فالتغير الكمي ينتج عنه التغير النوعي، و حل تناقض لبلوغ التوازن يخلق تناقضا جديدا، فكل موجود متناقض (طبيعة مزدوجة للوجود) و يحمل في ذاته موضوعا و نقيضه و كلاهما شرط وجود الآخر. هذا التناقض في الطبيعة من جهة و سعيها نحو التوازن من جهة أخرى يبدوان كنقيضين يتصارعان و نتيجة هذا الصراع الأبدي هو التطور الأبدي. لقد تطورت الطبيعة من غبار النجوم الى الاجسام المادية المركبة ثم الى الموجودات الحيوية كنقلة نوعية كبرى تلتها نقلة نوعية كبرى أخرى عند ظهور الوعي البشري، الى المادة التي تعي نفسها. و هذا التناقض ما بين السعي نحو التوازن من جهة و التناقض الداخلي الجوهري للوجود بتجلياته من جهة أخرى يتبدى كصراع الموت و الحياة أمام الوعي البشري.
غاية الطبيعة
إن تبدى لنا أن موت التوازن (أو الموت في التوازن) هو مصير الطبيعة (هناك من يعتقد بنظرية الموت الحراري)، فاستمرار حياتها من خلال صراعات تناقضاتها الداخلية هو غايتها. مصير و غاية الطبيعة متضمًنة بالقوانين التي تحكمها أي قوانين الجدلية المادية. استمرار الحياة بكافة اشكالها هو غاية الحياة مما يجعل سيرها الدائم باتجاه مصيرها يمر في مسار لولبي دائم التقدم باتجاه المصير و دائم الابتعاد عنه. و الوعي الذي طورته الطبيعة على كل مستوياته يحمل هذه الغاية، غاية الحفاظ على الحياة و استمرارها. و هكذا يبدو الوعي كتطور انجزته الطبيعة بهدف تحقيق غايتها و تجنب مصيرها، انه مكر الطبيعة الذي يوظف الغايات الجزئية لتحقيق الغاية الكلية.