تقديم كتاب: الإرهاب في تونس، الآباء والأبناء للأستاذ عميرة عليه الصغير


مرتضى العبيدي
2017 / 8 / 25 - 22:28     

التقديم المادي للكتاب
هذا الكتاب الصادر في شهر 2016، هو جديد الأستاذ الصديق عميرة، يقع في 116 صفحة ، ويشتمل زيادة على المتن على ملحق يحتوي على كرونولوجيا العمليات الإرهابية في تونس، وقائمة بالمراجع والمصادر وكشّاف للأعلام وفهرس.
أمّا المتن فيتكوّن من مقدمة وخاتمة عامّة وفصول خمس مختلفة الأحجام، احتل فيها الفصلان الثالث والرابع نصيب الأسد إذ هما يغطيان ثلثي الكتاب تقريبا. وقد اتخذت الفصول العناوين التالية:
ـ الفصل الأول: في الإرهاب عامّة (10 ص)
ـ الفصل الثاني: الإرهاب له دين هو الآخر (14 ص)
ـ الفصل الثالث: تونس من عنف الشوارع إلى إرهاب الجبال (33 ص)
ـ الفصل الرابع: حركة النهضة في تونس والإرهاب (26 ص)
ـ الفصل الخامس: باب الخلاص (10 ص)
ونظرا للترابط المتين الذي يحكم الفصول بعضها ببعض، فقد ارتأيت أن أستعرض محتواها حسب هذا التسلسل الذي اعتمده الكاتب.
ففي المقدّمة، يُنزّل الكاتب القضية التي يتصدّى لها بالدرس في إطارها العامّ، وهو حسب رأيه إطار العلاقة بين الدين والسياسة، وبصورة أشمل "قضية العلمنة"، لا علمنة الدولة فحسب (انظر ما يحصل اليوم في تركيا من عودة رهيبة للديني، بعدما ظنّ الجميع أنها كسبت نهائيا معركة العلمنة، علمنة الدولة على الأقل)، بل علمنة المجتمع والثقافة كذلك. وأعتقد أنّ هذه الفكرة محورية في هذا المؤلف، إذ سنجدها تعود في كامل فصول الكتاب وحتى في خواتمه إن في "باب الخلاص" أو في الخاتمة ذاتها. وقد أصرّ الكاتب منذ المقدمة على تبيان أن التعامل المتردّد أو التلفيقي مع هذه المسألة جعل بعض البلدان ومنها تونس أمام مأزق تاريخي، ومهدّدة في كل لحظة بعودة القديم وطغيانه على دواليب الدولة والمجتمع كما هو الأمر لدينا اليوم.
وفي المقدّمة كذلك، تطرّق الكاتب إلى صعوبات البحث في هذا الموضوع بالذات، وهي صعوبات موضوعية متأتية من مجال البحث نفسه أي "التاريخ الآني". إذ رغم وجود مدارس وتقاليد وأعلام لهذا النوع من الكتابة، في بلاد الغرب خاصّة، إلا أن وضع الحريات في بلداننا ومنها الحريات الأكاديمية، ما كان ليسمح بتطوّر مثل هذه المباحث. لذلك نراه اليوم يأخذ حيّزا من اهتمام المؤرخين، إذ يمكن أن ننزّل بعض الدراسات المنشورة في السنوات الأخيرة في هذا المبحث. نذكر من بينها، زيادة على الكتاب الذي بين أيدينا، كتاب الأستاذ فتحي ليسير: "دولة الهواة: سنتان من حكم الترويكا في تونس" والصادر سنة 2016 عن دار محمد علي للنشر، أو دراسة الأستاذ عادل بن يوسف "الخطايا العشر والوصايا العشر" والمتعلقة بتقييم حكم الترويكا والصادرة بمجلة البديل، العدد 6 (2014). ولعل هذه المنشورات فتحت الباب حتى إلى غير المؤرخين من صحافيين ونقاد متابعين للشأن العام للمساهمة في هذا النوع من الكتابة. أذكر هنا كتاب الأستاذ مصطفى القلعي الصادر عن دار برسبكتيف سنة 2015 تحت عنوان "تونس في زمن الترويكا" أو كتاب هادي يحمد "تحت راية العُقاب" الذي يعالج نفس قضية الإرهاب.
وتكمن صعوبة هذا المبحث، كما ذكر الكاتب في أكثر من موقع في شحّة المصادر التي يمكن اعتمادها وفي درجة مصداقيتها إن توفرت لكون الأطراف الفاعلة معنية بشكل أو بآخر بمآل البحث، فتسعى لتوظيف المصادر لفائدتها إن بحجب المعلومة أو بالتشكيك فيها أو بتجزئتها والاقتصار على تقديم ما يخدم مصلحتها.
فما هو إذن سلاح المؤرخ أمام هذه الوضعية الشائكة؟
التحلي بصفتين"، يجيب الكاتب": صفة المؤرخ، وهو ما يؤمّن له جانب الموضوعية العلمية، وصفة المواطن، إذ في غياب هذه الأخيرة، لا يمكن له التطرّق لمثل هذه المواضيع الراهنة والحساسة، والتي قد تزعج البعض، ممّا قد يترتب عنه بعض الإزعاج للكتاب. وقد انحاز الأستاذ عميرة بكامل الوعي لهذا المنهج واختار أن يتصرف كمؤرخ مواطن منحاز لا لجهة معيّنة بل إلى الوطن.
ثم تطرقت المقدمة بصفة إجمالية إلى محتوى الكتاب وبنيته، فذُكر فيها أن الكتاب يحتوي على فصل تقديمي يحاول أن يقدّم مفهوما للإرهاب وحقائقه وحضوره عبر التاريخ البشري، ليخلص في بقية الفصول إلى أن الإرهاب في العالم اليوم تمارسه بالأساس مجموعات مرجعيتها الإسلام، وأنه، على عكس ما يتردّد، من أنّ الإرهاب لا دين له، فالإرهاب له دين هو الآخر (الفصل الثاني)، أو أن الإرهاب هو نتاج قراءة خاطئة للدين الإسلامي، يمكن مجابهته بفهم آخر للدين يقوم على الوسطية والاعتدال الخ... إذ يؤكد الكاتب منذ صفحات المقدمة أنّ الفهمين يؤديان للنتيجة ذاتها أي "إلى التكفير والعنف والإرهاب..." (ص 6). ويؤكد أن في تونس بالذات "هنالك تواصل بين الوسطيين والجهاديين، ليس تواصلا عقائديا فحسب، بل تواصلا في القواعد البشرية، وتبادلا للمواقع بين تنظيماتهم، وتسَانُدا دائما..." (ص6)، وهو ما سيتوسّع المؤلف في تبيانه في الفصلين الرئيسيين للكتاب (الثالث والرابع).
كما أن المقدّمة تبشّر بالخاتمة واستنتاجاتها وبما جاء به فصل "باب الخلاص" من تأكيد على أنّ هذا الإشكال التاريخي فيما يخصّ علاقة الدين بالسياسة لن يجد له حلاّ "ما لم تتصدّى النخب الفكرية والسياسية الجادّة للفصل الحاسم والدخول بها عصر الحداثة الفعلية وحرية الفرد في كل معانيها..." ص7).
أمّا الفصل الأول والذي يحمل عنوان "في الإرهاب عامّة"، فقد حاول فيه الباحث الخروج بتعريف للإرهاب من جملة التعريفات العديدة المتداولة والتي لا يوجد إجماع حول أيّ منها، تعريف رآه الأقرب للفوز بموافقة أغلبية المهتمين بهذا الشأن. وككل الفصول الافتتاحية، خاصة إذا ما خصّصت لتعريف المصطلحات، جاء هذا الفصل موجزا ومركّزا، حرص الكاتب على تقديمه في لغة وشكل يسهلان على القارئ استيعابه. فبوّب مضمونه في شكل حقائق ثمانية خلص إليها من خلال دراسته للظاهرة الإرهابية، سأوردها كما هي ودون تفصيل حتى نترك المجال لمناقشتها أو لمناقشة البعض منها فيما بعد.
1 ـ الحقيقة الأولى هي أن ليس هنالك تعريف واحد متفق عليه من الجميع للإرهاب. وهذا بديهي إذ تختلف التعريفات باختلاف المرجعيات. فما يعتبره البعض إرهابا يعتبره غيرهم جهادا، وشتان ما بين هذا وذاك. وقد أجرى الكاتب مقارنات بين عدّة تعريفات متداولة خاصّة لدى الباحثين أو لدى هيئات رسمية (كهيئات المنتظم الأممي مثلا) ليستقرّ على تعريف أخذ بعين الاعتبار ما هو مقبول من المجموعة الدولية ومنظمة الأمم المتحدة، خاصّة وأنه يرفع شبهة الإرهاب على حركات التحرّر الوطني، وإن كنّا نرى نفس هذه المؤسسات تتفصّى من مثل هذا التعريف كلما تعلق الأمر بالمقاومة الفلسطينية.
2 ـ الحقيقة الثانية هي أن ظاهرة الإرهاب قديمة قدم المجتمعات البشرية، وهذه حقيقة ليست في حاجة إلى التدليل.
3 ـ الحقيقة الثالثة هي أن كل الدغمائيات السياسية والدينية والعقائدية والإثنية والعنصرية مارست الإرهاب في فترة من الفترات.
4 ـ الحقيقة الرابعة هي أن الإرهاب ليس مقتصرا على اليمين، ويُذكّر الكاتب هنا ببعض الفصائل اليسارية التي نفذت عمليات إرهابية في بعض بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وبعدها.
5 ـ الحقيقة الخامسة هي أن البؤس المادي والبؤس الفكري هما التربة الخصبة للإرهاب، وقد حرص المؤلف على التنسيب هنا بالتأكيد على أن الإرهاب يمكن أن يدعو إليه ويمارسه عناصر متعلمة أعلى درجات العلم وميسورة الحال (أيمن الظواهري وأسامة بن لادن على سبيل المثال).
6 ـ الحقيقة السادسة هي "تعولم الإرهاب" الذي لم يعد مقصورا على مجموعات تمارسه في مجالها الوطني الضيّق، بل إن التنظيمات الإرهابية تنتشر أكثر فأكثر خارج حدود الدول والأوطان مستفيدة من تكثف حركة السكان ومن تطوّر وسائل الإيصال والتواصل.
7 ـ الحقيقة السابعة هي الارتباط العضوي بين الإرهاب والتهريب، إذ يتطلب الإرهاب أموالا طائلة لتجنيد الأتباع والإنفاق على المتطلبات اللوجستية والأسلحة...
8 ـ الحقيقة الثامنة هي أنّ التنظيمات الإسلامية المتشدّدة (حسب توصيف الكاتب) هي التي تتصدّر ظاهرة الإرهاب منذ سنة 1980.
أما الفصل الثاني، فصيغة عنوانه "الإرهاب له دين هو الآخر"، تشير لا فقط إلى محتواه بل وكذلك إلى منهجه أو لهجته الجدالية (ton polémique). فالفصل هو في الواقع ردّ على عديد المقولات المتداولة ومنها أن الإرهاب لا دين له. بينما يرى الكاتب أن الإرهاب هو بالمحصّلة فكر وعقيدة يؤديان حتما إلى استعمال العنف الأعمى لتحقيق أهداف سياسية، ويؤكد أنه بالنسبة لجميع التيارات الإسلامية، فإن الغاية السياسية واحدة وهي "قيام الدولة الإسلامية"، و"بعث الخلافة الإسلامية" من جديد و"إرساء الحاكمية الإلهية". وعلى هذا الأساس، فإنهم يعلنون جميعا بشيء من الفخر أنهم سلفيون.
ويخصص الكاتب هذا الفصل ليجادل مختلف التيارات الإسلامية من داخل مرجعياتها المستندة إلى القرآن والسنّة وسيرة السلف الصالح ليخلص إلى أنّ "الجهاديين" و"الوسطيين" لهم نفس المنطلقات المرجعية ويتبنون نفس الأهداف، فما بينهم من اختلافات وخلافات هي خلافات مزعومة لا غير. فهذه الجماعات، على اختلاف مسمياتها تعمل جميعها من أجل غاية واحدة وهي إقامة "النظام الإسلامي" الذي هو في عقيدتها في عداء مع الديمقراطية، لأنّ الديمقراطية مرفوضة شرعا بما أنها تؤدي إلى الاعتراف والعمل بقواعد وضعية غير الشريعة الإسلامية (ص 23)، والديمقراطية لديهم مرفوضة أصلا لأنها في تناقض مع "الحاكمية الإلهية"، والديمقراطية حرام لأنها تقرّ بحرية الضمير، ممّا يفتح الباب حسب رأيهم إلى الردّة والكفر. فالإسلام لديهم نظام شامل: "دين ودولة"، "شريعة ونظام حكم" (ص 24). لذا فإن فصل الدين عن الدولة (أي العلمانية) هو عندهم من أكبر الكبائر التي يجب محاربتها. لذلك كفّر قادتهم (سيّد قطب مثلا) المجتمعات الإسلامية واعتبرها مجتمعات الجاهلية وحرّض على الجهاد فيها لتحرير الإنسان من الجاهلية، والجهاد هو "الفريضة الغائبة" حسب زعيم الجهاد الإسلامي في مصر محمد عبد السلام فرج.
لكن هذا لا يجب أن يطمس محاولات البعض الآخر من الإسلاميين الذين يبرّؤون الإسلام من الإرهاب ويعتبرون الإرهابيين خارجين عن الإسلام "الصحيح" ويجادلون الجهاديين بذات النصوص المقدّسة. وقد توسّع الكاتب في استعراض بعض الأمثلة ليُبرز أن هؤلاء وأولئك يستندون في النهاية إلى نفس المرجعيات، وبالتاي يصلون إلى نفس الاستنتاجات والممارسات. إنّ هؤلاء الذين يتكلمون باسم "الإسلام الصحيح" أو "الإسلام الوسطي" أو "إسلام الاعتدال" يتبنون أحكاما فقهية لا تختلف في شيء عن التيارات "المتشدّدة" التي تؤدي إلى نفس النتائج أي التكفير والاقتتال والجهاد.
الفصل الثالث: تونس من عنف الشوارع إلى إرهاب الجبال
كان الفصلان الأولان بمثابة التمهيد للفصول اللاحقة التي تولّى فيها الكاتب معالجة الحالة المخصوصة لتونس. وقد افتتح هذا الفصل الثالث بالتعليق على بعض الأفكار المتداولة والتي من بينها أنّ "الشعب التونسي مسالم"، وأنّ "العنف السياسي غريب على بلادنا"، فأكّد على عكس ذلك أن العنف السياسي متأصل في تاريخ تونس، وخاصة منه عنف الدولة، واستدل على ذلك ببعض أحداث التاريخ المعاصر وما رافق قيام دولة ما بعد الاستعمار من عنف بين رفقاء الأمس وغيرهم، ذلك العنف الذي اكتوت به كل العائلات السياسية والفاعلين الاجتماعيين من نقابيين وحقوقيين ومثقفين الخ... لكن الكاتب يؤكد على التحوّل النوعي الذي عرفه منسوب العنف بعد رحيل بن علي وخاصّة بعد انتخابات المجلس التأسيسي التي فازت بها حركة النهضة.
ثمّ يخصص حيّزا من هذا الفصل الثالث لاستعراض أهم أحداث العنف التي شهدتها البلاد منذ أواخر 2011 والتي استهدفت سياسيين وناشطين مدنيين ونقابيين وصحافيين والتي بلغت ذروتها مع اغتيال زعيمي الجبهة الشعبية الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي (أحداث كلية الآداب بسوسة، مهاجمة قناة نسمة، إمارة سجنان، أحداث كلية الآداب بمنوبة، الاعتصام أمام مقرّ التلفزة الوطنية، غزوة المنقالة، أحداث 9 أفريل 2012، قصر العبدلية، مهاجمة مهرجان نصرة الأقصى ببنزرت، مهاجمة مهرجان نصرة فلسطين بقابس، غزوة السفارة الأمريكية، قتل لطفي نقض، أحداث الرش، الهجوم على دار الاتحاد، المواجهات المسلحة في المنطقة الحدودية بالقصرين، مهاجمة اجتماع نداء تونس بجربة...).
ويخلص الكاتب إلى أن هذا العنف السياسي الذي استفحل منذ صعود حزب النهضة إلى الحكم والذي بلغ أوجه باغتيال زعيمين سياسيين سيتطوّر إلى إرهاب فعلي تمارسه مجموعات سلفية جهادية موالية لتنظيم القاعدة أو متفرّعة عنه.
فمن هم فاعلو هذا العنف أو مرتكبوه؟
يجيب الكاتب بلا مواربة على هذا السؤال، فيقول ص 43: "هو من فعل متطرّفين دينيا، من أتباع الحكومة وأنصارها في الائتلاف الحاكم منذ أواخر 2011. ويضيف أن خطاب التحريض على العنف وتبريره كان ولا يزال من فعل دوائر الإسلاميين وأذرعهم العنيفة "، من بينهم مسؤولين في حكومة النهضة (علي العريّض)، ورئيس كتلتها في المجلس التأسيسي (الصحبي عتيق)، الميليشيات الرقمية، الدعاة والأئمة الموالين للحزب الحاكم آنذاك، روابط حماية الثورة التي تمّ الاعتراف بها رسميا في 14 جوان 2012 ببلاغ صادر عن رئاسة الحكومة بالرائد الرسمي يعلن أنّ أهداف هذا التنظيم هي "تثبيت الهوية العربية الإسلامية وكشف منظومة الفساد والتصدّي لكل أشكال التبعية والارتهان إلى الخارج" (ص 44). وأمام ضغط المعارضة والمجتمع المدني المطالب بحلّها، أضحى الكثير من عناصرها ينشطون تحت مسميات جديدة كـ "سواعد" أو "شباب الثورة".
من العنف إلى الإرهاب
فهذا الذي بدأ كشكل من أشكال العنف، سرعان ما تطوّر إلى إرهاب فعلي. ويعزو الكاتب ذلك إلى عوامل عديدة من بينها تعطّل مسار الثورة وازدياد الشعور بالإحباط عند فئات عريضة من المجتمع، وخاصة عند الفئات الشبابية التي كانت وقودا للاحتجاجات التي أسقطت بن علي، دون إغفال الأبعاد الإقليمية والدولية للإرهاب، وخاصة منها التدخل السافر لبعض دول الخليج عبر شبكة من الجمعيات المشبوهة التي يورد الكاتب أمثلة لها، والتي أصبح نشاطها يشكل تهديدا فعليا لمدنية الدولة بما تعمل على غرسه من أفكار ومذاهب دينية متطرفة (جمعية أبي زيد القيرواني الإسلامية، جمعية الخير الإسلامية، جمعية اللخمي الخيرية للتنمية، جمعية تونس الخيرية، جمعية التعاون الإسلامية وغيرها كثير...). ففي شهر جويلية 2015، أقرّ تقرير حكومي أن ما لا يقل عن 157 جمعية تحوم حولها شبهة الإرهاب والعلاقة بجماعات تكفيرية. أمّا مصادر تمويلها، فهي متأتية من فرع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتونس المموّل هو ذاته من دولة قطر، ومن مؤسسات بنكية تابعة للمنظمات الإسلامية أو لحكومات خليجية، أو من بعض الدول الخليجية ذاتها كالسعودية وقطر والكويت.
وإذا كان للعوامل الخارجية دور مؤكد في استفحال العنف السياسي وتطوّره نحو إرهاب منظم، فلأنها وجدت في العوامل الداخلية الهيكلية منها والظرفية مناخا مساعدا على ذلك، ومنها بالخصوص:
ـ تدني النضج الحضاري للمجتمع التونسي، من غياب لثقافة الديمقراطية وفقدان للتجربة السياسية في التعامل السلمي بين الفرقاء.
ـ تركة الاستبداد الذي خلف صحراء سياسية وفكرية نتيجة قمع الحريات، وتأزم النظام التعليمي خاصّة منذ إصلاحات الوزير محمد مزالي في أواسط سبعينات القرن الماضي.
ـ الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام الذي ما فتئ يتأزم منذ 2011 (تدهور المقدرة الشرائية، البطالة، الفساد، انسداد الأفق...)
ـ ضعف الدولة ما بعد الثورة
ـ إطلاق سراح عدد كبير من الإرهابيين العائدين من بؤر التوتر بمقتضى العفو التشريعي العام.
ـ ترويج الخطاب التكفيري للتيارات الدينية في صفوف الشباب، ورفع لشعارات سهلة القبول على غرار "تطبيق الشريعة"، "الإسلام هو الحل"، "جهاد، نصر أو استشهاد".
ـ تراجع تأثير الإيديولوجيات المنافسة من يسارية وقومية وليبرالية.
ـ تسامح وتواطؤ من كانوا في الحكم في تحالف الترويكا مع ممارسي العنف وعدم تتبع مقترفيه.
ـ انتشار السلاح بكميات كبيرة مع انهيار نظام العقيد القذافي.
ـ الاستفادة من تجربة الجهاديين العائدين من بؤر التوتر.
وهو ما أفضى إلى الواقع الحالي حيث يُقدّر عدد الأشخاص الذين تمّ إيقافهم بشبهة الإرهاب حتى تاريخ 16 مارس 2016 ما يناهز الألفين، كما تم تفكيك عدد من الخلايا الإرهابية منذ سنة 2013. كما استعرض الكاتب التنظيمات التي يتوزع داخلها الإرهابيون التونسيون، وهم في أغلبهم إما في "أنصار الشريعة" أو "تنظيم القاعدة"، أو "كتيبة عقبة بن نافع"، أو "أجناد الخلافة"، أو "الموقعون بالدم"، "المرابطون"، أنصار التوحيد"، أو "الجماعة السلفية للدعوة والقتال".
ويُختتم الفصل بالإشارة إلى بعض المظاهر الجغرا اجتماعية المتعلقة بالإرهابيين: فأغلبهم تتراوح أعمارهم بين 18 و33 سنة، وأغلبهم لم يتجاوز مرحلة التعليم الابتدائي، كما أن الظاهرة الإرهابية تبقى ذكورية بالأساس. أما عن أصولهم الجغرافية ، فهم ينحدرون أساسا من الأحياء الشعبية والمهمشة حول العاصمة (الكرم، الوردية، ديبوزفيل، التضامن، حي الخضراء، السيجومي، المنيهلة...) وكذلك في بقية المدن الكبرى أو الحدودية وخاصة مدن بنزرت، القصرين، سيدي بوزيد، الكاف، مدنين، بنقردان، سوسة، المنستير...
ويشير الكاتب في الختام إلى مفارقة استشراء الإرهاب في تونس، البلد الذي عرف أكثر من غيره تقدّما في مجال التحديث والذي تميّزت نخبه السياسية والتعليمية والثقافية بانفتاح أكبر غلى الحداثة. وهو يرى أنه لا يمكن تفسير هذه المفارقة التاريخية إلا باستحضار الحاضنة السياسية والدينية للإرهاب والمتمثلة في دور حركة النهضة التي استلمت الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011 ومازالت تتحكم فيه بأشكال متعدّدة.
الفصل الرابع: حركة النهضة في تونس والإرهاب
أمّا الفصل الرابع، فيخصصه الكاتب لتبيان موقف حزب حركة النهضة، وهي نموذج للفكر الإسلامي الأصولي وأهم مكوّناته في تونس، من الإرهاب. وبعد الإشارة إلى المسار التاريخي لهذه الحكة منذ تأسيسها سنة 1972 تحت مسمّى "الجماعة الإسلامية" مرورا بـ "حركة الاتجاه الإسلامي" (1981)، ووصولا إلى "حركة النهضة" (1989)، يؤكد الباحث أن مرجعيات هذا التنظيم الفكرية والسياسية هي ذاتها، وتشترك فيها مع كل التيارات الأصولية، وحتى ما رُوّج له غداة مؤتمرها الأخير (المؤتمر العاشر، ماي 2016) من اعتزامها فصل الدعوي عن السياسي لا يعدو أن يكون مجرّد خدعة سياسية مفضوحة. ويُذكّر الكاتب بهذا الصدد بأهمّ مراجعها الفكرية التي انبنت عليها الحركة، وسعت منذ تأسيسها إلى ترويجها عبر مختلف الفضاءات التعليمية والثقافية في تواطؤ مفضوح مع الحزب الحاكم آنذاك في إطار محاربته لليسار. وللتدليل على تماهي الحركة مع سائر التيارات الأصولية، يُدرج الكاتب بعض المقتطفات من كتابات راشد الغنوشي التي لا يوجد ما يشير أنّه تخلى عنها (انظر ص 73: مقتطفات من كتابه: "الحريات العامة في الدولة الإسلامية")، وهو ما يؤكد أن هذه الحركة بعيدة كل البعد عن الوجه الوسطي والمعتدل الذي تدّعيه. وقد اكتشف التونسيون منذ 2011 ازدواجية خطاب الحركة في عديد المناسبات والمواقع وخاصة في معركة الدستور ومسودة غرّة جوان 2013 التي كانت خطوة نحو إقامة الدولة الدينية. ورغم المعركة الشرسة التي خاضتها القوى المدنية، يعتقد الكاتب أن النص المُصادق عليه في 26 جانفي 2014 يُعتبر بمعنى ما انتصارا لحركة النهضة إذ هو في المحصّلة "دستور هجين، مفخّخ، أرجأ الفصل في المطلب الرئيسي الذي يلخصه سؤال: "أيّ دولة نريد؟ دولة علمانية أم دولة دينية؟" إذ جاءت النسخة الأخيرة حاملة لكل المتناقضات بين "الدولة الدينية/الدولة المدنية"، بين "حقوق الإنسان الكونية/ حقوق الإنسان في الإسلام"، وبين "حرية الضمير/وشرط احترام المقدّسات". كما نصّص الدستور في فصله السادس على أنّ "الدولة راعية للدين (...) ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي" (وليس السياسي)، ونحن نعيش اليوم ترجمة حقيقية لهذا "الحياد" حيث توظف المساجد لنشر الدعوة والتعبئة من قبل مختلف التيارات الإسلامية وعلى رأسها حركة النهضة.
حزب النهضة والإرهاب
فكل هذه المعطيات تؤكد أن حركة النهضة ومنذ تأسيسها سنة 1972 هي سائرة على هدي التراث الإخواني، رغم تملص قادتها اليوم من الانتماء إلى التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي اتبعت خططه جميع فروعه حيثما كانت، وقد فصّل الحديث عنها المحامي المصري ثروت الخرباوي في كتابه "سرّ المعبد" بعد مغادرته للتنظيم، حيث بيّن أن نشاط الجماعة يتّبع مراحل أربعة هي: مرحلة نشر الرجال، مرحلة نشر الأفكار، مرحلة الاغتيالات السرية ومرحلة الإعدامات بالقانون. ويعتقد الأستاذ عميرة أن الجماعة في تونس تقدّموا شوطا كبيرا في المرحلتين الأوليين، كما أن خطاب التكفير واستعمال العنف والتهديد به قد لازم ممارستهم حتى قبل 14 جانفي (الجهاز الأمني، التفجيرات، ماء الفرق، الإعداد للانقلاب...) وخاصّة بعده.
كما يعتقد الكاتب أنّه رغم العوامل العديدة المساعدة على انتشار العنف في تونس وخاصّة منها ما هو جيو استراتيجي إقليمي ودولي، فإن حزب النهضة يبقى هو المسؤول السياسي الأول على تفشيه في البلاد، باعتبار أنه منذ أواخر 2011 هو الطرف الحاكم الفعلي، وأن مسؤوليته ليست فقط في التساهل والتعاطف مع الجناح المتطرف للإسلام السياسي، بل وكذلك في دعمه وغضّ البصر على تغلغله في البلاد.
الفصل الخامس: باب الخلاص
يشير الكاتب إلى أن ظاهرة الإرهاب وبالخصوص الإرهاب الإسلامي أصبحت ظاهرة عالمية. لذا هناك وعي متزايد بضرورة مراجعة مقاربات فهم الظاهرة الإرهابية والإسلام السياسي عموما، وخاصّة وسائل معالجتها وطرق التوقّي منها. وتختلف المواقف في الغرب مثلا بخصوص طرق مواجهة الظاهرة، حيث ترتفع الأصوات بالنقد تجاه الحكومات التي تسلك سياسات غير عادلة تجاه القضايا العربية والمنحازة دوما للكيان الصهيوني. وتُطرح في مثل هذه النقاشات ثنائية الأمن والحرية. غير أنه من المعلوم أن ما يقترحه صنّاع الرأي العام من أفكار وحلول ليس دائما هو ما تعتمده الحكومات، لأن القرار السياسي تحكمه المصالح قبل القيم والأخلاق.
أمّا في البلدان العربية والإسلامية، فإنّ معالجة الظاهرة أكثر صعوبة لأنها لم تفصل بعد الديني عن السياسي، والمقدّس عن المدنّس، ولم تتطوّر فيها الهياكل الاجتماعية والثقافية والفكرية لتُحصّن ذاتها من الإرهاب، خاصّة بعد إجهاض جميع محاولات الإصلاح الديني في العالم الإسلامي منذ ما يزيد عن القرن.
ويعتقد المؤلف أنّ الخروج من هذا المأزق التاريخي لن يتمّ إلا متى تجاوزنا ما دأبت عليه المجتمعات الإسلامية من الاعتقاد في قدسية الموروث، والسموّ بالدين في أبعاده الروحية والماورائية، وقراءة النص الديني بعقل ناقد وخلاق وفهمه في تاريخيته.
"فإما أن يكون تحديثا كاملا وإلا فشلا كاملا. فالتاريخ لا يؤمن بأنصاف الحلول، وهذا للأسف ما وقعت فيه عديد البلدان ومنها تونس" (ص 105).
المنستير في 24 ـ 02 ـ 2017